العلمانية و الدولة و الدين..صورة مشوه في أذهان الكثيرين

رسلان عامر

عندما يطرح العلمانيون مشروعهم العلماني، و يقترحونه كحل، يصطدمون برفض الإسلاميين، الذين يضعون مشروعهم الإسلامي بديلا في مواجهة العلمانية، و يهاجمونها بدعوى أنها ضد الدين و تلغي الدين و تلغي معه القيم و الأخلاق المبنية على الدين، و عدا عن هذه الصورة المشوهة – قصدا أو عن غير قصد- التي يقدمها عن العلمانية الإسلاميون، ثمة الكثير من “المدنيين” الذي يقدمون عنها بدورهم صورة جد مقزّمة، تقتصر على فكرة “الفصل بين الدولة و الدين”!
و في هذه المقالة سنسعى بإيجاز لتوضيح موقف العلمانية الحقيقي من الدين.. ومن الدولة، و ضرورة العلمانية كبديل للأنظمة الديكتاتورية و الدينية، و نصف الدينية.
أولا- العلمانية و الدين:
تـَعتبر العلمانية ” حق الاعتقاد ” أو “حرية الضمير” حقا أساسيا من حقوق الإنسان، كل إنسان، و بالتالي يحق لكل إنسان أن يؤمن بالدين أو المعتقد الذي يرتضيه، كما يحق له ألا يؤمن بأي دين أو معتقد إن شاء، و بالنسبة للعلمانية، يدخل الدين و العقيدة في نطاق الشؤون الشخصية المحض، و لا يحق لأحد – سواء كان فردا أو جماعة أو حكومة-أن يتدخل في معتقد أحد آخر، و يفرض عليه معتقد أو دين ما، أو يحظره عليه، أو يعاقبه أو ينتقص من حقوقه بسببه، و في العلمانية يتساوى المتدين و غير المتدين و الملحد، و لا فرق بين مسلم أو مسيحي أو بوذي أو هندوسي، و لا بين ليبرالي و شيوعي أو وجودي، أو أي منتم ٍ إلى أي دين أو فلسفة أو عقيدة أخرى أو غير منتم ٍ، و كل منهم يستطيع ممارسة نشاطه الديني أو المعتقدي بالكامل، بشرط ألا يتسبب بالأذى لنفسه و لغيره، و عند نشوء أية ممارسة دينية مسببة للأذى، فالعلمانية توجب السلطة المعنية بمنعها، و هذا لا يحدث قطعا من “منطلق دينيّ”، بل من “منطلق أمانيّ” هدفه الحفاظ على المصلحة العامة و الخاصة في المجتمع.
بالطبع في العلمانية التي تقر بالتعددية، التي – تقر بدورها- بحقوق متساوية لجميع المختلفين دينا و عقائديا، لا يمكن لأي شخص أن يقول “عليكم أن تقبلوني كما أنا كليا”! بهذه الشاكلة لن يتمكن المختلفون من العيش و التعايش معا، و لكي يتمكنوا من فعل ذلك يفترض أن يقدم كل منهم بعضا من التنازلات بحيث يتوافق الجميع على نظام عيش مشترك، و التوافق هنا لا يتم بين المختلفين مع بعضهم البعض في صيغة تسوية أو محاصصة، و هنا أهم نقطة في الموضوع، فالتوافق يجب أن يتم مع المبادئ العلمانية نفسها، و هي مبادئ تنطلق من إنسانية الإنسان المجردة عن القومية و الدين و الجنس و الإيديولوجيا، ليـُقـَر عليها لاحقا الحق بكل من القومية و الدين و الإيديولوجيا.. و غيرها بناء على الهوية الإنسانية المحض، و هذا يعني أنه على كل جماعة دينية أو معتقدية أو عرقية في المجتمع العلماني أن تكيف نفسها مع المبادئ العلمانية الإنسانية، و ليس مع غيرها من المختلفين عنها، و بالتكيف مع العلمانية يتكيف المختلفون عن بعضهم مع بعضهم تلقائيا.
إن كل جماعة دينية أو عقيدية أو عرقية أو سياسية، كبيرة أو صغيرة، يعترف بها في المجتمع العلماني ليس بصفتها الخاصة من حيث المبدأ، و لا لأنها أمر واقع، بل بناء على أن التجمع و الاعتقاد هو حق أساسي من حقوق الإنسان، و عندما تتخذ أية جماعة شكلا رسميا أو غير رسمي، فهي مطالبة قبل كل شيء باحترام حقوق الإنسان، و كل إنسان، و بالتالي لا يحق لها إرغام أحد على ما لا يريده ، أو عما يريده، فإن حاولت ذلك تـُمنع بقوة القانون.
إقحام الدين في العلمانية غير مسموح لا في السياسة و لا الشأن العام، وهذا يعني فصل الدين عن كل من الدولة و المجتمع، و التوجه به إلى مجال الفرد، و إذا ما تأملنا في هذه النقطة بالذات، سنرى مدى الخدمة العظيمة التي تقدمها العلمانية لكل من الفرد و الدين في هذا المبدأ، فبالنسبة للفرد هذا توسيع جد كبير لنطاق الفردية، يجعل الفرد هو القيّم و المتحكم بمعتقداته، فلا أحد يفرضها عليه أو يحرمه منها، أو يتدخل فيها، أو يعاقبه بسببه، و هذا جانب جوهري من جوانب تحرير الفرد، و هو بحد ذاته تحرير للدين، يمكّنه أن يتواجد و ينمو و يستمر بقدر ما يريده الناس بشكل حر، فلا دين آخر يمنعه، و لا سلطان يتدخل فيه أو يضطهده، و لا رجل دين يهيمن عليه و يوجهه حسب عصبيته أو مصلحته، و كل متدين أو صاحب عقيدة يحق له ممارسة كل نشاطاته الدينية، من العبادة إلى الدعوة.. و النشر و النقد و سواها، و لا يـُمنع ما دام ذلك يتم بشكل سلمي غير ضار لأحد.
العلمانية لا تطرح نفسها بديلا للدين، و لا لأي معتقد آخر ديني أو وضعي، هي ليست عقيدة، و لا إيديولوجيا، فهي نظام غير عقائدي، و هي نظام متجاوز للعقائد دون أن يلغيها، و متجاوز للمفهوم الجزئي الفئوي للإنسان في الملة و العرق و الحزب، و سواها، إلى الإنسان بمفهومه الكلي كإنسان، و هي في المحصلة تتسع لجميع الجزئيات و تستوعبها، لكنها تبقى مستقلة بذاتها ولا تتماهى مع أي منها، و بذلك تصبح النظام الذي يعترف بالتعدد، لكنه بنفسه يبقى مستقلا عن هذا التعدد، و متجاوزا لأي تعدد.. و لا يصبح جزءا منه.
يخطئ الإسلاميون كثيرا في وضع العلمانية مقابل الإسلام، و لو هم فعلوا ذلك بوضع الإسلام مقابل الشيوعية مثلا لكان ذلك صحيحا من حيث المنهجية، فالشيوعية إيديولوجيا، أي منظومة لها أنساقها العقائدية المحددة، و تهدف إلى تطبيقها على الواقع، و كل دين هو بدوره منظومة من الأنساق العقائدية المحددة، التي يسعى إلى إسقاطها على الواقع، أما العلمانية فليس لديها مثل هذه الأنساق، و هي مجموعة مبادئ ديناميكية، تعطي دوما المجال لظهور الأنساق المختلفة في كل مجالات الحياة، و لكنها تمنع أيا منها من الهيمنة التي تلغي أو تقصي غيره، فهذه الهيمنة تمنع التجديد و تـَشكل الجديد، مما يدخل المجتمع بذلك في الشلل و الترهل و الجمود.
لكن فلنكن صريحين، فجل الإسلاميين يرفضون العلمانية ليس خوفا منها أن تقصي الإسلام، بل لأنها تمنعهم هم أنفسهم من إقصاء أو إلغاء الغير، و الهيمنة على الجميع، فأغلبية الإسلاميين شموليون، و لا يعترفون بالآخر، و يسعون إما إلى إلغائه أو إلى تهميشه، و هم يريدون فرض نموذج دولتهم الدينية على الغير بمنطق المغالبة اللامنطقي كليا، و هذا شكل من أشكال غطرسة القوة .. التي تدفع الآخرين الأضعف للبحث عن مصادر قوة خارجية تدعمهم ضد تهديد الأغلبية، مما يؤدي إلى الصراع و التدخل الأجنبي.
و إذا أراد الإسلاميون السلام الاجتماعي و السلامة للوطن، فعليهم أن يقبلوا بمبدأ التساوي مع الغير، بغض النظر عن هويته و عدده، و مبدأ الأغلبية العددية الفئوية.. لا شرعيه له إلا القوة، وهذه شريعة الغاب، و هو إن مر عبر أية حيلة مختلسة من الديمودقراطية فلن ينتج إلا ديكتاتورية أغلبية أو نظام تحاصص طائفي، وكلاهما يفتتان الوطن والمجتمع، و يمنعان بناء الوطن الواحد المتجانس في وطنيته ، القابل للاستمرار و النمو.

ثانيا – العلمانية و الدولة:
لا تمنع العلمانية الدين من التدخل في شؤون الدولة و حسب، بل هي أيضا تمنع الدولة من التدخل في شؤون الدين، ما دامت ممارسته سلمية و لا تسبب أي ضرر للفرد و المجتمع و الدولة، و ليس هذا فحسب، فالعلمانية تمنع على الدولة أيضا تبني أية إيديولوجيا أو الانحياز إليها، فهذا يخل بمبدأ المساواة الإنسانية، بل و بالمنطلق الإنساني نفسه، و الدولة العلمانية يجب أن تكون إنسانية من حيث المبدأ.. و متجردة عن أي جزئية أو فئوية إنسانية على أرض الواقع، وهذا يقودنا إلى القول أن كل نظام دولة ديني..أو قومي أو إيديولوجي أو شمولي، أو ديكتاتوري.. هو غير علماني، فهو يخل بالمنطلق الإنساني اللافئوي.. و بمبدأ المساواة الإنسانية، وهذا يعني أن كلا من “النظام الشمولي”، و “نظام الحكم المؤدلج”.. و “الدولة القومية” و “الدولة العسكرية” لا تنطبق عليها أيضا صفة العلمانية.
في الدولة العلمانية يمنع الخلط بين الدين و السياسة، و يمنع بالتالي تأسيس الأحزاب على أساس ديني، و لكن العلمانية تفسح المجال للدين أن يدخل السياسة من بوابة الثقافة، ليس بصفته كدين مقدس، بل بصفته ثقافة إنسانية لها احترامها المبدئي، و لكن ليس لها العصمة و القداسة، و هكذا تسمح العلمانية بقيام أحزاب تبني برامجها و فكرها على مبادئ مستوحاة من الأديان و لا تخل بالمبادئ العلمانية، لكن لا يجوز لها أن تقوم على الدين نفسه و تجعله برنامجها أو عقيدتها السياسية، و تدخله مباشرة في السياسة، و هذا الكلام ينطبق على أحزاب مثل “الاتحاد الديموقراطي المسيحي ” و “الاتحاد الاجتماعي المسيحي” في ألمانيا، و “العدالة و التنمية” ذي الخلفية الإسلامية في تركيا.. و غيرها، و هذه ليست بتاتا أحزابا دينية.. بل علمانية، و منسجمة مع المبادئ العلمانية و السياسات العلمانية.
الدولة العلمانية هي عقد سياسي مباشر بين الدولة نفسها و الفرد، بصفته الشخصية الخاصة، و ليس ثمة بينهما أي وسيط ثالث، سواء كان طائفة، أو كنيسة، أو حزبا، أو تجمعا، أو أي شكل تنظمي أو أهلي آخر، ففي الدولة العلمانية يدخل الفرد في الدولة مباشرة .. و بهويته الوطنية القائمة على كونه مواطنا، أما الدخول إلى الدولة عن طريق أية فئة دينية أو عرقية أو سواها .. فهذا ليس من صفات الدول العلمانية الديموقراطية، بل من طبائع دول التسلط و المحاصصة، التي لا تقوم على المبدأ الإنساني.
ثالثا- ضرورة العلمانية:
العلمانية نظام يحقق التساوي بين أبناء الوطن الواحد، و يحوله و يحولهم من “وطن ومواطنين بالقوة” إلى “وطن و مواطنين بالفعل”، و بالمساواة بين المواطنين على أساس إنساني وطني، تتعزز الهوية الوطنية، و يستقر البنيان الوطني، و يتموضع المواطن في مكانه المناسب في الوطن، ليقوم كل منهما بدوره الإنساني و الوطني تجاه الآخر.
أما الأنظمة العسكرية، و الدينية، و التحاصصية، فهي تقوم دوما على القمع و الوصاية و الإقصاء و الاستئثار، و إن تفاوتت الدرجات، و كلها تلتقي في اللاوطنية و اللامواطنية، و تقوم على إقصاء المواطن و الشعب و تهميشهما و هدر حقوقهما، و إن توخينا الدقة فهي حقيقة أنظمة بلا دولة و لا شعب و لا وطن و لا مواطن و لا مجتمع، و هي دون هذا بكثير، و ما هي إلا سلطات و سلطنات تقوم على التسلط و القمع و الاستبداد و الفساد، و لذا، و إذا أردنا الخلاص من هذه الأوبئة، في سوريا و في أي بلد عربي أخر، فعلينا أن نعي مكامن الخطر الأساسية، و ألا نكتفي بتسطيح الأمور و الكلام عن نظام فاسد و حاكم ديكتاتوري.. و تدخل أجنبي ، وما شابه، و بالرغم من واقعية هذه الحقائق و ضخامة أدوارها في الكارثة التي وصلنا إليها، فعلينا مع ذلك الغوص عميقا، لنرى ما في موروثنا التاريخي من مثالب، وما في واقعنا الاجتماعي من مساوئ، و سنجد أننا ما نزال كتلا بشرية ما دون شعبية و ما دون مجتمعية مقسمة بين الطائفة والعشيرة و العرق، و تهيمن عليها الذهنية الغيبية، و أشكال الانتماء الغريزي، و التسلط الذكوري، و دور العلم و العقل و الفكر و الثقافة فيها هامشي و سطحي، و في الوقت الذي كان يفترض فيه أن تعمل الدولة على التغيير نحو الأفضل – وهذه مهمتها الأساسية- فعلت سلطات القمع و الفساد العكس ، و استغلت ما لدينا من تخلف و فساد اجتماعي و تاريخي ، و كرسته و ضخمته بقمع و تهميش و تطفيش الكفاءات العلمية و الفكرية و الثقافية و السياسية و الشخصيات الوطنية الحقيقية، لتفسح المجال للوصوليين و الانتهازيين و متدني الكفاءة و ضيقي الأفق و مأزومي الضمير، كما أنها مكّنت و فعّلت دور المرجعيات و الزعامات التقليدية من طائفية و عشائرية و عرقية و ما شابه لكي تجعلهم سندا إضافيا لها في السيطرة على الجماهير، و دفعت عبر كل ذلك الأوضاع المتفاقمة التردي إلى حد الانفجار، و جعلت البلاد فريسة سهلة لكل طامع محلي أو أقيمي أو دولي من كل حدب و صوب و لون .
و علينا اليوم أن نعي ..بأن الخلاص لا يكون باستبدال زعيم بزعيم أو سلطان بسلطان، و لا يكون بالتحاصص و الاقتسام، و لا بالمجاملات و العبارات المنمقة بين السياسيين و الوجهاء و أصحاب المصالح و النفوذ، و لكنه يكون بطرح الحل الوطني الصحيح، و هذا الحل هو الخيار العلماني الديموقراطي بامتياز، لكن هذا الحل لا يتم بقرار، كائنا من كان من اتخذه أو اتخذوه، فالعلمانية الديموقراطية هي أولا ثقافة، و من يحاول إقامة نظام علماني ديموقراطي بلا الثقافة اللازمة.. هو كمن يحاول بناء بيت عصري باستخدام اللبن.
طبعا من المهم العمل على الجبهة السياسية، و لكن هذا العمل سيذهب هباء إذا لم يترافق بالعمل المناسب على الجبهة الثقافية، و بدون الثقافة المناسبة ، ستعود البيئة المتخلفة لإنتاج أنظمة الطائفية و القمع و الفساد، و لكي نصل إلى العلمانية المتكاملة فلا بد من تلازم كل من العلمنة السياسية و العلمنة الثقافية، و إلا سنبقى دوما نعيش في الحلم العلماني.. لنبكي في الواقع على أنقاض الوطن الغريق و المحترق في نيران التخلف و ما ينتج عنه من عظائم الشرور.
22- 2-2017

About رسلان عامر

نبذة عن الكاتب: مهندس سوري من موليد 1968.. متخرج من أو كرانيا عام 1994 باختصاص الطاقة الحرارية. يحمل ماجستير في الطاقات المتجددة 2007، و ماجستير في الإدارة عام2001، و دبلوم في الطاقة الشمسية عام 1999، ودبلوم تأهيل تربوي عام 1999 من جامعة دمشق. له كتاب مترجم عن الروسية منشور في دار الكلمة بدمشق، عام 2003 عن فلسفة الحب الطاوية الصينية. و يشارك اليوم في مجلات و مواقع رقمية سورية و عربية.
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.