هل أنت غني أم فقير؟ أنا متأكد سواء أكنت غنيا أم فقيرا فإنك تدعو الله وتطلب منه زيادة في المال, ولكنك لا تطلب منه زيادة في العقل, لأنك مبسوط بعقلك وترى بأنه مناسبٌ لك وترى بأن الله فصله لك على مقاسك بالضبط تماما كما يفصل لك الخياط ثوبا مناسبا لسنك بعد أن يأخذ الخياطُ كل مقاساتك, ولهذا أنت ترى بأن عقلك مناسب لجسمك ولأخلاقك, وكذلك ترى عقلك بأنه مناسبٌ لك ولا تعترف بأنك فقير في العلم والعقل, ولكنك تعترف بأن الأموال تنقصك وتتمنى لو تنتقل خزينة البنك من البنك إلى بيتك وتتمنى أن تنتقل ثروة بيل جيست من رقم حسابه إلى رقم حسابك, ولكن لا تتمنى أن تنتقل مكتبتي من بيتي إلى بيتك,ومن يوم ما خلق الله المال والعقل, قام الله بتوزيع المال والعقل على كل إنسان فأعطى لهذا عقلا كثيرا ومعه مالا كثيرا, وأعطى ذاك العقل ولم يعطه المال, وأعطى غيره المال ولم يعطه العقل, ونِسب المال مختلفة بين الناس والغريب أن للمال سحرٌ يسحر الناس أكثر مما يسحرهم العلم, فصاحب العلم لا يتبعه الناس سياسيا واجتماعيا والكل يركض إلى صاحب المال, أي أن صاحب المال مطاع وصاحب العلم لا يطاع, ويظهر من سلوك الناس بأنه لم يقبل كل إنسان بما قسمه له الله من مال, ويشترك في هذا الغني والفقير والحر والأسير والرجل والمرأة فأغلبية الناس يطالبون بحصة أكبر من المال والثراء وأصحاب الألوف يطلبون أكثر مما أعطاهم الله وأصحاب الملايين يطالبون الله أيضا بمزيدٍ من الملايين , وكل إنسان يرى حظه من المال قليل, ولا أحد يقبل بما قسمه له الله من مال, فصاحب الألف يطمع بأن يزيده الله ألفين وصاحب العشرة آلاف يطمع بأن يزيده الله 100 ألف, وصاحب المليون يسعى بأن يعطيه الله مليونين, وصاحب المليونين يريد عشرات الملايين, وهكذا هي حياة معظم الناس.
إلا أصحاب العقول,هؤلاء يختلفون عن أصحاب المال, رغم أنهم يتمتعون مثل أصحاب المال, فصاحب المال مثلا معه مال ومعه عقل, وهو راضٍ بالعقل الذي معه وغير راضِ بالمال الذي معه, وصاحب العقل معه عقل ومعه مال, وهو راضٍ بالعقل الذي معه وغير راضٍ بالمال الذي معه, فهؤلاء وحدهم راضون بما أعطاهم الله من عقل, والله دنيا غريبة, وحياة الإنسان أكثر غرابة, كل إنسان يرى بأن تصرفاته هي التصرفات الصحيحة وبأن عقله هو العقل الذي يزن الكون على سعة حجمه, فالله أعطى كل الناس العقل والمال, غير أن الجميع موافقون على العقل ومعترضون على المال, لذلك أغلبية الناس نجدهم يدعون الله في دور العبادة بأن يزيدهم من المال, ومن النادر جدا جدا أن نجد إنسانا في معبد ديني يطلب من الله زيادة في العقل, والسبب واضحٌ جدا وهو أن كل إنسان لا يرى نفسه بأن العقل ينقصه, بينما أغلبية الناس 99% منهم يرون بأنهم يستحقون من المال أكثر مما أعطاهم الله.
ورغم إيماننا بأن الجهل مثل المعرفة قابلٌ للزيادة إلا أن الأغلبية الجاهلة لا ترى نفسها بأنها على جهل, فحتى أغبى الناس راضون بغبائهم وهم آخر من يعلم بأنهم أغبياء, إلا أصحاب المال, فأصحاب المال يرون بأنه ينقصهم الكثير من المال والذهب, أما الإنسان من ناحية العقل فهو راضٍ ومقتنع بما قسم له الله من عقل, ويرى بأن الله أعطاه عقلا أكبر وأكثر قيمة من عقل أخيه وجاره وقريبه , وكان جدي رحمه الله يقول دائما:( كل إنسان عقله براسه مدينه) أي أنه يقصد بأن كل إنسان راضٍ بما أعطاه له الله من عقل, ولكن الناس على اختلاف لغاتهم ومناهجهم ومعتقداتهم الدينية غير راضين بما أعطاهم الله من مال وذهب, لذلك الناس تسعى لترتفع عن بعضها بالمال وليس بالعلم, وأصحاب العقول لا يحسدون بعضهم على العقل ولا يسعى أحدٌ لينتصر على عقل غيره لكي يكون أكثر منه ذكاء وقوة في التفكير, لذلك الإنسان لا يشبع أبدا من جمع المال, ولا يمل من تكديسه في الخزائن والبنوك.
وقيل قديما: أيهما أنفع العلمُ أم المالْ؟, فقيل : طبعا العِلمُ أنفعُ من المال, فقيل لهؤلاء: ولماذا يقفُ العلماءُ على أبواب الأغنياء؟ فأجابوا: لمعرفة العلماء بفضل المال, ولجهل الأغنياء بقيمة العلم, طبعا تخيلوا الموقف كله برمته,علماء وسياسيون ومثقفون من شعراء وأدباء وفلاسفة, يأتون إلى الأغنياء ويسترخون أمامهم ويحنون ظهورهم لأصحاب المال, وأصحاب المال يتكبرون على أصحاب العلم ولا يلتفتون إليهم لا كثيرا ولا قليلا, طبعا هؤلاء الأغنياء لا يعتقدون بأنهم أقل من العلماء ذكاء ولو شعروا بأن العقل ينقصهم لذهبوا إلى العلماء وطلبوا منهم العلم, ولكن سبحان الله الكل يرى بأن الله أعطاه ما يستحقه من العقل,أي أنهم راضون بما أعطاهم الله من عقل, وهم لا يعترضون على سُنة الله وسياسة الله في خلقه , والعلماء يرون بأن المال ينقصهم وهم معترفون بأنهم مصابون بنقصٍ شديد في المال, وهم لا يرون بأن العقل والعلم والذكاء ينقصهم.
إن الإنسان بمجمله لا يعترض على الله من ناحية العقل فهو يرى بأن عقله يستحقه وهو يستحق عقله, أما إذا جئنا إلى نفس هذا الإنسان وسألناه هل أنت تقبل بما وهبك الله من مال؟ فورا سيقول: لا أنا أستحق أكثر, ولكنه من ناحية العقل لا يعترض ولا يطلب زيادة, حتى الذين يتظاهرون أمامنا بالقناعة ويتغزلون بها على أساس المقولة الكلاسيكية : بأن القناعة كنز لا يفنى, نعم, نجد هؤلاء في قرار أنفسهم غير راضين بما أعطاهم الله من مال.
أنت لا تطلب بأن يزيدك الله من العقل, لأنك مرتاح مع عقلك وتفكيرك وترى بأن عقول الغالبية من الناس قد أشقت وأتعبت أصحابها, تماما كما يرى أهلي بأن عقلي هو الذي أتعبني, فأمي دوما إذا رأتني متعبا تقول لي: ما حدى متعبك غير عقلك, علما بأنني أرى فيها ما تراه هي فيَّ, فأنا أرى بأن عقلها هو الذي أتعبها وأنا راضٍ كل الرضا عن العقل الذي أعطاني ربي ولا أعترض على حكم ربي من هذه الناحية , إن العقل مثل الموت والحياة لا أحد يعترض فيه على حُكم الله, ولكن من ناحية المال الكل يعترض على حكم الله.