كتب إليّ قارئ رسالة الكترونيّة جاء فيها: إنني أتفق معك في معظم ماتكبينه عن الإسلام والمسلمين، ولكنني أحس بأنك تروّجين للمسيحيّة بطريقة خفيّة وخبيثة!
أروّج للمسيحيّة؟!! لن أختلف معك على هذا الأمر وسأشرح وجهة نظري حياله!
بطريقة خفيّة وخبيثة؟!! لماذا أريد أن أتخفّى عندما أروّج للمسيحيّة؟ هل مازال أحد فيكم يظنّ أن وفاء سلطان تخاف فتتخفى عندما تروّج لفكر أوتحارب فكرا آخر؟
أروّج للمسيحيّة؟ نعم! ولكن ليس كدين وإنّما كتعاليم سمحة سمت بإنسانها وارتقت به ووضعته في مقدّمة البشر. أنا لا أدين بالمسيحيّة ولا بأيّ دين وعندما أقرر أن أتبنى دينا، أقولها علنا وبلا وجل أو خوف، ستكون المسيحية على قمة جدول خياراتي!
الدين في نظري مرحلة بدائية، قد لا يكون للإنسان مفرّ من المرور بها، لكّن المسافة التي تفصل بين الدين والله في النهاية مسافة شاسعة، ولكي يتوحّد الإنسان في الله عليه أن يجتاز تلك المسافة متحررا من أيّ اعتبار ديني، سابحا في الفضاء العلوي صعودا إلى حيث تكمن الحقيقة المطلقة!
المسيحيّة كتعاليم استهوتني، بل سحرتني لأنها، أولا وأخيرا توافقت مع منطقي العلمي والعملي. هذا المنطق الذي أكّد لي أن الإنسان ناتج لغويٍ، وشخصيته، بجوانبها المتعددة هي حصيلة الصراع بين المفردات والمعاني السلبيّة والأخرى الإيجابيّة التي يسمعها ويتداولها في بيئته. إن غلبت اللغة السلبيّة خرج إلى الحياة مخلوقا رافضا سلبيّا خاويا مستهلكا غير قادر على العطاء. وإن غلبت اللغة الإيجابيّة خرج إلى الحياة عنصرا فعّالا متفائلا إيجابيّا سعيدا معطاءا. بين هاتين الحالتين المتناقضتين يتراوح البشر في جودة شخصيّاتهم ودرجة انسانيّتهم.
المسيحيّة كلغة أثبتت صلاحيّتها لخلق انسان مهذّب، خلوق، منتج، مبدع ومسالم. كيف سيخرج إلى الحياة طفل تتلو على مسامعه: “من سألك فاعطه ومن أراد أن يقترض منك فلا تمنعه.. قد سمعتم أنه قيل أحبب قريبك وابغض عدوّك أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم واحسنوا إلى من يبغضكم وصلوا لأجل من يعنتكم ويضطهدكم.. إن احببتم من يحبكم فأي أجر لكم.. وإن سلّمتم على أخوانكم فقط فأي فضل لكم..”
أما الإسلام كلغة، فقد أثبت عجزه عن خلق هذا النمط من البشر!! لقد اعتمد هذا الدين، بصورة عامة، لغة صحراويّة قاحلة غير مهذبة، جلفة، تدعو إلى العنف وتكاد تخلو من أيّ معنى انساني! والأمثلة في كتب التراث الإسلامي، بالجملة والمفرق، لمن يريد أن ينهل ويستنير!
عرّجت في الأمس على بعض الأحاديث النبويّة في تحريم الربا، اقشعرّ بدني وأنا أقرأها وحمدت الله، لأول مرّة في حياتي، لأنّ أولادي لايجيدون القراءة باللغة العربيّة!
“عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قال: الربا ثلاث وسبعون بابا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه!!..”
“عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاثة وثلاثين زنية يزنيها في الإسلام.”
“عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله (ص): أتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى من خارج بطونهم قلت ياجبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء أكلة الربا.”
“عن عوف بن مالك (ض) قال: قال رسول الله (ص): من أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبّط، ثم قرأ: الذين يأكلون الربا لايقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس.”
أنظرُ إلى هذه اللغة وأتساءل: كيف أستطيع، وباستخدام هذه المفردات والمعاني أن أخلق إنساناً معافى نفسيّا وأخلاقيا وعقليّا؟!
هل يشترط أن استخدم عبارات كتلك التي تقول: “ينكح أمّه.. ثلاثة وثلاثين زنية يزنيها.. بطونهم فيها الحيّات ترى.. مجنونا يتخبّطه الشيطان من المس..” حتّى أكون قادرة على إيصال الفكرة من ضرورة تحريم الربا؟!!
هل يعقل أن يدخل الشيخ محمّد، والذي يبدو أكثر قلقا على قيمه وحضارته من غيره، أن يدخل إلى أحد البنوك في أمريكا، حيث يعيش ويسترزق، كي يودع فيها بعض أمواله، وما أن تبدأ الموظّفة المسؤولة بشرح أنواع الودائع والفوائد حتّى يصيح: استغفر الله .. استغفر الله.. لاأريد فوائدا.. هل تريدنني أن أنكح أمّي.. أو أزني.. أو ابتلع حيّة.. وأتخبّط كمن أصابه مس من شيطان؟!!
أتلك هي لغة العصر التي يتخاطب فيها الشيخ محمّد مع الناس في أمريكا؟ أتلك هي اللغة التي يجب أن نمليها على أبناء الجيل الجديد؟
ماذا سيبقى في ذهن طفل تتلو عليه هذه الأحاديث؟ هل مفهوم التحريم هو الذي سيبقى أم عبارة “ينكح أمّه”؟.. الجواب على هذا السؤال تجده عندما تعرف ماذا يفعل رجال المسلمين منذ اليوم الذي قيلت فيه هذه الأحاديث وحتّى يومنا هذا، لاشئ سوى أنّهم يرابون وينكحون!!!!
عندما تجد الأم طفلها البالغ من العمر عامين يحاول أن يدخل اصبعه الصغيرة في مفتاح الكهرباء، كيف يجب أن تتصرف؟
يصرّ علم السلوك والصحة النفسيّة بأن عليها أن تضبط أعصابها وتقترب منه بهدوء دون أن تصرخ، ثم تنشله بيدها مبتعدة به عن المفتاح الكهربائي قائلة له: دعنا نعيد ترتيب الغرفة ووضع اللعب في أماكنها، ثم تبدأ وإياه بفعل ذلك! في تلك اللحظة يسقط المفتاح الكهربائي من ذهن الطفل، وينساه لأنّ الأم لم تركّز عليه مستخدمة أيّة لغة سلبيّة كأن تقول: هذا سيحرقك وستموت، إياك أن تضع يدك مرّة أخرى فيه، إنّه كالحيّة التي تلدعك لو أدخلت اصبعك في فمها!
لكّن الأم، وعلى العكس من ذلك، استخدمت لغة ايجابية بقولها: دعنا نعيد ترتيب الغرفة ووضع اللعب في أماكنها. هذا ماسيبقى في ذهن هذا الطفل: ترتيب الغرفة ووضع كلّ غرض في مكانه!
الطريقة المثلى للنهي عن السلبيّات هي بالتركيز على الإيجابيات، إذا أيّهما أصحّ: أن أقول لأولادي إياكم والربا فمن يفعله كمن ينكح أمّه، أو أن أقول لهم: عليكم بالكسب الحلال، فمن يأكل لقمته بعرق جبينه كمن يعانق أمّه ويقبّل خدّها!
تخيّل نفسك مريضا مصابا ـ لاسمح الله ـ بارتفاع الضغط والكليسترول وزرت طبيبك، في أيّة حال تشعر أكثر بالضغط النفسي وصعوبة اتباع نصائح طبيبك؟.. أعندما يقول لك: إياك أن تكثرمن الشحوم ففيها ضرر قاتل على صحّتك وسلامة شرايينك، أم إذا قال: أكثر من تناول الفواكه والخضار فهي تدعم الصحّة وتجدد الشباب؟
لقد صبغت اللغة السلبيّة، والتي كثر استخدامها في تراثنا الإسلامي وذخرت بها كتبنا العربيّة، صبغت ثقافتنا واساليب تربيتنا بصفات العنف والشراسة، وأخرجت إلى الحياة انسانا يتقاتل في أصفى لحظاته مع ذباب وجهه!
كان مازن طفلا صغيرا وكنا نقضي معظم أيام الجمع في منزل أهلي. على بعد عدّة أمتار من هذا المنزل ترتفع مئذنة الجامع، ولقد عانيت يومها كثيرا من تلك المشكلة، إذ كان مازن يمسك خائفا بذيل ثوبي أثناء خطبة الجمعة قائلا: لماذا يصرخ هذا الرجل ياأماه؟ لم أكن أرغب يوما في أن أجيب: هو لايصرخ وإنّما يصلي! لم أكن أرغب أن أقرن الصلاة في ذهن مازن بالصراخ! كنت أقوده إلى بيت أختي كي أتجنّب الجواب على هذا السؤال!
يقول الطبيب النفسي الأمريكي وايين درايير: إن الله هو الصمت. إذا فكّرت قليلا بهذا التعريف لوجدته الأقرب إلى الروحانيّة والأكثر قدرة على مساعدتنا لتصور الله والإحساس به.
إذا كان الله هو الصمت كيف سأشرح لمازن: لماذا هذا الصراخ في الإسلام؟!! سبعون ألف مئذنة في مدينة القاهرة لوحدها، تبدأ هذه المآذن في رفع الآذان خمس مرّات في اليوم، وكلّ، على حدة، يغني على ليلاه!! لم تعد تلك المدينة المزدحمة تعاني من تلوّث البيئة بالسموم والدخان، بل غدت أشدّ تلوثا من الضجيج والصراخ!!
هل يحتاج الله إلى كلّ هذا الزعيق كي يسمع ويصدّق أننا نعبده؟! أليست قدرته على سماع دبيب النمل كافية لقراءة صمتنا لو قررنا أن نتحضّر ونصمت قليلا رحمة بالجهاز السمعي للإنسان، والذي أثبتت الدراسات بأن الضجيج يخرّبه ويسيء إلى قدرته على استقبال وفهم الأصوات؟!
**************
كتبت إليّ السيدة مها سعد الشوّاف ـ ودعوني أفترض بأنّ الاسم غير مستعار، إذ لاتهمّني الأسماء ـ كتبت تقول: ” انتم عملاء النظام. والشكر كل الشكر للنظام الذي اراحنا من هذا المأفون نبيل فياض الكذاب الذي يأخذ اجرته من الزبانية عملاء اميركا ووفاء سلطان هي عشيقة نبيل فياض تنتف شعرها حزنا على.. (*) نحن فرحون جدا لأن كل احباب نبيل وما اقلهم حزينون عليه ونرجو له ان يبقي في غيابات السجن اعواما وانتم ستجنون عليه ايها المأجورون الكذابون.” مها سعد الشواف
aad sam m:.saad@shuf.com
أسقطت إحدى العبارات لاخوفا على سمعتي، والتي هي كعطر الجلّنار، وإنّما احتراما لقارئي وكي لا أخدش حياءه. قرأت ماكتبته تلك القارئة ـ أو القارئ ـ عدّة مرّات، وفكرت فيه كثيرا متسائلة: ماالذي يدفع الناس إلى هذا الرخص والابتذال؟ وأعود لأجد في كتب الطبّ النفسي وعلم السلوك جوابا شافيا لهذا السؤال: الإنسان ياوفاء ناتج لغته وكتبه وتراثه!
استاءت تلك السيّدة مما كتبته وفاء سلطان، فمدّت يدها إلى جعبتها اللغويّة الموروثة كي تنهل منها ماتعبّر به عن استيائها؛ لم تجد سوى عبارات على شاكلة: “من ينكح أمّه.. ثلاثين زنية يزنيها.. في بطونهم حيّات.. يتخبّط كمن أصابه مسّ من شيطان..” ولم تستطع أن تنضح إلاّ بما وجدته في تلك التراثيات!!
فاقد الشيء لايعطيه! ماذا تستطيع السيّدة مها أن تعطي القارئ؟ هل تستطيع أن تقارع وفاء سلطان بالحجة والمنطق وتثبت أنّها على باطل وهي على حق؟ طبعا لا! وهل استطاع الشيخ محمّد أن يفعل ذلك؟ طبعا لا!
لم يجد في قاموسه اللغوي كلمة يواجهني بها سوى: “محتضنة” من قبل أعداء العرب والإسلام! متى يدرك هذا الشيخ بأنّ عدوّه الأوحد هو جهله بعلم اللغات؟
هل يريدني القارئ، الذي عبّر عن استيائه لأنني أروّج للديانة المسيحيّة، هل يريدني أن أروّج للغة الشيخ محمّد أو لغة السيّدة مها سعد شواف، أو أن أروّج للغة الزنى والنكاح والحيّات والشيطان؟!!
إنّ التعاليم التي تطلب من أتباعها، وبلغة بسيطة مهذّبة خلوقة، أنّ يحبّوا أعدائهم ويحسنوا إلى مبغضيهم، ويباركوا لاعنيهم، لاتحتاج إلى من يروّج لها! ومع هذا أقولها للملأ ـ بلا خبث وتخف ومواربة ـ: نعم أنا أروّج للمسيحيّة ولكل ديانة، بما فيها عبادة الشيطان، طالما تهذّب تلك الديانة لغة أتباعها، وتعلّمهم أدب الحوار وحسن الكلام، وترقى بهم فوق مستوى الشتائم والسباب!!
*************
نعت صحيفة لوس أنجليس تايمز صباح اليوم الواقع في 10 أوكتوبر 2004 يوغي باجان الزعيم الروحي للطائفة السيخيّة والذي توفي في ولاية نيو مكسيكو الأمريكيّة عن عمر ناهز الخامسة والسبعين. أصدر حاكم تلك الولاية أمرا بتنكيس علم الولاية لمدّة ثلاثة أيام.
على باب معبده كتب السيّد باجان عبارة ، كرّمها سكان الولاية حتّى درجة التقديس، جاء في تلك العبارة قول باجان: إذا لم تستطع أن ترى الله في كلّ شيء، لن تكون قادرا على أن تراه في أيّ شيء.
الطائفة التي رعى شؤونها هذا القديس، ضمّت أكثر من خمسمائة عائلة معظمهم من الذين غيّروا دينهم الأصلي وقرورا إعتناق الديانة السيخيّة.
لماذا لاتخاف أمريكا على ديانتها المسيحيّة من وجود باجان ودعوته الناس فيها لاعتناق دينه؟ هل يعرف أحد فيكم مامعنى أن تنكّس ولاية أمريكية علمها لمدّة ثلاثة أيام؟
أمريكا تخاف على ثقافة أهلها وعلى لغتهم، ولا تخاف على دينهم! طالما باجان، يعلّمهم بلغة بسيطة وجميلة إنّ الله في كلّ شيء، تؤّهل به أمريكا وتسهّل وتنكّس أعلامها عندما يفارق رجلٌ كهذا الحياة لأنّه جدير بكلّ احترام.
الشيخ بلال حلاق شيخ جامع أهل السنّة والجماعة في مدينة أناهايم في جنوب كاليفورنيا، كتب مؤخرا في إحدى الصحف المجهريّة الصادرة باللغة العربيّة كتب يقول: إن الله لايقبل من أي رجل حسنة، حتّى ولو أغاث امرأة أرملة أو طفلا يتيما إن لم يكن مسلما!
كم يوما ستنكّس كاليفورنيا الأعلام عندما ينتقل هذا الشيخ ـ بعد طول العمر ـ إلى رحمة الله؟! ماذا سيترك هذا الرجل وراءه من أثر يستحق عليه أن تنكّس من بعده الأعلام؟!
إذ كان الشيخ بلال عاجزا أن يرى الله في إغاثة امرأة أرملة أو طفل يتيم، كيف سيكون قادرا أن يراه في أيّ شيء آخر؟ إذا كان الشيخ بلال عاجزا أن يرى الله في يديّ الأم تيريزا وهي تمسح وجه طفل في الهند يأكله الذباب، كيف يستطيع أن يراه في مكان آخر؟! إذا كان الشيخ بلال عاجزا من أن يرى الله في وجوه الأطباء البريطانين الذين هرعوا لإسعاف قرينه الشيخ السيستاني، فشقوا شرايينه بلمح البصر ونظفوا قلبه من أوساخه، كيف يستطيع أن يراه في أيّ مكان؟!
أنتجت ولاية كاليفورنيا بمفردها هذا العام 18 مليون ديك رومي! إذا كان الشيخ بلال عاجزا أن يرى الله في هذا الإنتاج، عجبا هل يستطيع أن يراه في جنوب السودان أو في الربع الخالي أو في صحراء سيناء؟
يوغي باجان يعرف الله لأنه يستطيع أن يراه في كلّ شيء، ولذلك لاتخاف منه أمريكا حتّى ولو تبعه كل سكّانها، بل على العكس عندما فارق الحياة، بكته ونكّست له الأعلام. أمّا الشيخ بلال فعاجز أن يرى الله في أي شيء، ومن لايرى الله تخافه أمريكا وتحسب له ألف حساب!
هل تخاف أمريكا من الإسلام؟ طبعا تخاف!
هل يخاف العالم من الإسلام؟ طبعا يخاف!
هل يخافون من عظمته؟ طبعا لا! لا أحد يخاف من العظيم! وكلّنا نخاف من الإرهاب! مجنون من لايخاف!
**********
السيف أصدق أنباء من الكتب في حدّه الحد بين الجدّ واللعب!!
ويل لأمة تصدّق السيف أكثر من الكتاب، وويل للعالم من تلك الأمّة! كيف سنحمي الأجيال القادمة، أملا بمستقبل أفضل، من ثقافة السيف والقتل والإرهاب؟!
لو لم يقتنع أبو تمّام، حتّى درجة التسليم، بأن الغاية من وجوده كإنسان هي في القتال، لافرق عند الله بين أن يُقتل أو يَقتل ( “إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتـُلون ويُـقتَـلون ..” لو لم يقتنع بذلك، لما اعتمد السيف كمصدر موثوق به أكثر من الكتاب. ولو لم يقتنع الجواهري بالرسالة التي حملها له جدّه أبي تمام، لما قال:
وطن تشيده الجماجم والدم تتهدّم الدنيا ولا يتهدّم
ولو لم يسر سليمان العيسى على خطى الجواهري مفتخرا بثقافة أجداده لما غنّى لأطفال العرب ـ وهو شاعرهم الأول ـ :
ولما سلكنا الدرب كنّا نعلم إنّ المشانق للعقيدة سلّم
وتتكرر المأساة ويستمر العرب جيلا بعد جيل يعتمدون المشانق سلما لعقيدتهم، ويرون في الهدم طريقا للبناء!
في كتاب الحساب لأحد الصفوف الإبتدائيّة في المدارس العراقيّة أثناء نظام صدّام البائد، تقول إحدى مسائل الحساب: في معركة مع العدو الإيراني المجوس قتلنا 150، وجرحنا 250، وأسرنا 100 مامجموع العدد النهائي لخسائر العدو؟
طبعا كانت خسائر العدو الإيراني (!!!) من جراء تلك المعركة خمسمائة، بينما كانت خسائرنا من جراء تلك المسألة الحسابيّة جيلا بأكمله!!!
الحقد كالأسيد يحرق الوعاء الذي يحتويه، أكثر مما يحرق السطح الذي يسقط عليه! لذلك ترى انساننا العربيّ مشوها من كثرة الحروق!!
هل من جرّاح يحسن التجميل؟!
الحجر الذي يتدحرج لا تنبت حوله الأزهار، والعقل الذي يعتمد سياسة الهدم عاجز عن بناء الوطن! الزرقاوي يتوالد من المتنبّي، وتعيد الفالوجة تاريخ كربلاء، ويبقى العرب والمسلمون خارج حدود الحياة، لأنّهم والموت توأمان!
من سيعيد إلى أطفالنا وجوههم الحقيقة البريئة؟! من سيمنع العفن من أن يتسلل من داخل جمجمة الشيخ محمّد إلى عقولهم الغضة؟! من سيحمي أجيالنا القادمة من ثقافة السيف والمشانق والجماجم؟! من سيختم بالشمع الأحمر تراثنا، ويرمي في البحر كل كتبنا وأشعارنا؟!
وفاء سلطان ستكتب للأطفال قصيدة جديدة، وستعلّمهم جدول الحساب والضرب من جديد!
زهرة ـ يا أحبائي الصغار ـ زائد زهرة تساوي بستانا..
حجرة فوق حجرة تبني وطنا..
حبّة قمح في التربة تعطي مائة حبّة..
دجاجة في القنّ تضع كلّ يوم بيضة، ستملأ سلالكم بعد حين بالبيض..
من يأكل الخبز واللحم، ياصغاري، لايشرب الدواء..
تعالوا ننظف الصفّ من الأوراق المتراكمة على الأرض، ونرسم على السبّورة قمرا ونجمة..
تحدّ وطننا العربيّ الجميل من الشمال تركيا، ومن الجنوب افريقا، ومن الشرق ايران، ومن الغرب اوربا..
ماأسعدنا، ياصغاري، صار لنا أربعة جيران..
ليعانق كلّ من الآخر، ويقول له: طاب يومك .. إلى اللقاء ..
ستحذف وفاء سلطان من قواميسهم كل مفردات القتل والهدم والدمار، وستكتب لهم أشعارا جديدة عن الحبّ والخير والعطاء..
ياكتاب العربيّة في كلّ أصقاع الأرض.. يامن تحلمون بوطن أفضل لأجيالنا القادمة.. ياعشاق السلام والطفولة والبناء.. إني أحتاج اليكم، ولا أستطيع أن اؤدي رسالتي بدونكم.. أتوسّل اليكم أن تمدّوا إليّ أياديكم.
المهمّة ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة، أحتاج إلى كفوفكم فكفي الواحد لايصفق!
*********
أذكر حادثة، وكأنّ الزمن توقّف عندها، حاولت معلمة الصف الرابع الإبتدائي السيّدة حلميّة أن تكحّل عيوننا، نحن الأطفال، بنور الحقيقة فعمتها بظلام الجهل!!
قالت لنا:
“ويل لمن يعصي الله ورسوله، جهنّم كبيرة وتتسع إلى مالا نهاية، كلّما احترقت جلودكم يستبدلها الله بجلود أخرى، وكلّما ألقت فيها الملائكة من الكفار والمرتّدين تصيح: لم أمتلئ بعد.. إليّ بالمزيد! ثم تزداد نيرانها اضراماً”
ألقت الطفلة فاطمة رأسها فوق طاولة مقعدها وحاولت أن تغطي أذنيها بكلتا يديها. صاحت السيّدة حلميّة: فاطمة هل أنت نائمة؟
رفعت فاطمة رأسها ونظرت إلى معلمتها وببراءة طفوليّة ردّت: بل أبتهل إلى الله علّ جهنّم تصيح عندما يصل دوري، لقد امتلأت.. لقد امتلأت خذوهم إلى الجنّة!
كان مقدار الرعب، الذي استطاعت المعلّمة أن تزرعه في نفس الطفلة، أكبر من قدرتها على أن تتصوّر وجود أي أمل في امكانية ارضاء الله ودخول الجنّة. لم تستطع الطفلة أن تتحرر من حالة الإحباط التي وجدت نفسها فيها، إلاّ بالتضرّع إلى الله بأن تمتلأ جهنّم قبل أن يصل دورها!
ظلّ طيف تلك الحادثة يراودني منذ تلك اللحظة، إحساس دفين كان ينبئني بأنني سأكون يوما قادرة على وضع النقاط فوق حروفها وفكّ طلاسمها!
“عالم البحار”، لمن لايعرف عنه شيئا، أقول: بقعة من جنّة عدن، اقتطعها الأمريكان وبسطوها على امتداد ساحل مدينة سان دياغو في جنوب كاليفورنيا، من أجمل مدن الترفيه والتسلية في العالم. عندما دخلتها مع أطفالي لأول مرّة، ابتلعني، منذ اللحظة الأولى، سيل من الأسئلة: ياإلهي! كيف استطاع هؤلاء البشر أن يصلوا إلى هذه الدرجة من الإبداع؟!
أمام جمهور غفير من البشر، في الهواء الطلق وفي عزّ النهار، وقف أحد مدرّبي الطيور وراح يجري بعض الحركات ويصدر أصواتا غريبة، وإذ بطائر بوم يهبط عليه من أعالي الفضاء ويقف فوق كفّه.
قال العرب: الحق البوم يدلّك على الخراب. الأمريكان لحقوا البوم فدلّهم على العمار! يحتفظون بتماثيل البوم في بيوتهم لقناعتهم بأنّها تجلب السعد.
في علم النفس يقولون: كلّ ماتؤمن به تراه!
لم يذهلني استئناسهم للبوم بقدر ما أذهلني ترويضهم للحوت.
شام حوت وزنه 1900 باوند (حوالي طن)، في أحد استعراضاته ينطّ خارج سطح الماء ويرتفع 22 قدما في الهواء. وهنا أتساءل: كيف استطاع هؤلاء المدرّبون “السحرة” أن يحوّلوا تلك الكتلة اللحميّة الهائلة إلى أرشق من غزال؟! ولماذا لم تستطع السيّدة حلميّة أن تقنع الطفلة فاطمة بأنّها قادرة على أن ترضي الله وتحظى بجنّته؟!
تعالوا نستعرض معا الفرق بين الأساليب التربويّة التي سمت بشام 22 قدما في السماء، وهبطت بالطفلة فاطمة إلى حالة دونيّة من اليأس والاحباط.
شام حيوان دوني تحرّكه غرائزه، وفاطمة كإنسان، سيّد مخلوقات الأرض، تميّز عن كلّها بعقله وقدرته على التفكير. إذا ماالذي سما بغرائز شام، وماالذي أحطّ بعقل فاطمة؟!
كيف بدأت عملية تدريب شام؟ أبحرت في عشرات الكتب حتّى توصلّت إلى الجواب!
استخدم المدرّبون حبلا لتحديد المستوى الذي يريدون شام أن يقفز فوقه. في الخطوة الأولى وضعوا الحبل تحت مستوى الماء، وبدأوا بالتصفيق ملوحين بسمكة كبيرة، كي يشجّعوا شام على المرور فوقه. بلمح البصر اجتاز شام المستوى المنخفض للحبل دون أيّة حاجة للقفز. أكل السمكة وبدا أكثر جاهزيّة للقفز من جديد. رفع المدرّبون الحبل إلى مستوى أعلى بقليل وبدأ التصفيق والتلويح بسمكة أخرى من جديد، وهكذا دوالييك.. عندما يفشل شام في محاولته فيرتضم بالحبل، كان المدربون يتجاهلونه ويديرون بصرهم بعيدا عنه رافضين أن يقدّموا له سمكة. وعندما يتكرر الفشل عدّة مرات، كانوا يضطرون لإعادة الحبل إلى المستوى الأدنى، خوفا من أن يصاب شام بالإحباط أو بالجوع نظرا لحرمانه الطويل من السمك.
بالترغيب استطاع الأمريكان أن يحوّلوا غرائز شام إلى ملكات عقليّة ـ إذا صح التعبير ـ، وبالترهيب استطاعت السيّدة حلميّة أن تحوّل عقل فاطمة إلى غريزة حيوانيّة!
حالة الإحباط التي عاشتها الطفلة فاطمة في تلك اللحظة، يعيشها العالم العربي والإسلامي في كلّ لحظة!
تعالوا نفترض بأنّ مدربيّ شام، وفي أول محاولة فاشلة له، قاموا بعقابه عن طريق تعريضه للصدّمة الكهربائيّة، أو جلده بسوط حديدي على ظهره. هل يتوقع أحد فيكم أن يصل شام إلى ماوصل إليه من انجاز؟!
تعالوا نفترض بأنّ السيّدة حلميّة قد تجنّبت إرهاب الطفلة فاطمة وحاولت مكافأتها على كلّ عمل مثمر تقوم به، هل يتوقّع أحد فيكم أن يصل العالم العربي و الإسلامي إلى ماوصل إليه من احباط؟!
ولكي تقارن بيننا وبينهم ليس شرطا أن تقارن بين انسانهم وانساننا، يكفي أن تراقب سيكولوجيّة وسلوك العصافير في بلادهم وبينها في بلادنا! امتدّ الإرهاب البشري عندنا حتّى شمل أسلم مخلوقات الأرض وأضعفها، فالعصفور يرتجف خوفا من الإنسان في بلادنا ولا يدنو منه أقرب من ميل!
في أكثر شوارع أمريكا ازدحاما، في وسط مدينة فلادليفيا وفي منطقة مكتظة بالناس، هبط عليّ عصفور من السماء، اقترب من طاولتي أمام أحد المطاعم والتقط قطعة من الحلوى كانت في يدي، لم يفرّ هاربا بل وضعها على طاولتي، وبوقاحة فظيعة راح ينقرها وينظر إليّ متحديّا!
مسكينة أنت يافاطمة! لو كنت عصفورا أو حوتا في أمريكا، لحظوت بسمكة أو قطعة من الحلوى، ولكان خيرا لك من أن تكوني إحدى ضحايا السيّدة حلميّة في بلاد الإسلام.. بلاد الجوع و الخوف والإرهاب!!
لي صديق عربي يشتغل مهندسا في ورشة لبناء أحد الجسور في كاليفورنيا، قال لي: صدر أمر من الجهات المختصة بإيقاف العمل في بناء الجسر لمدة ثلاثة أشهر
ـ ولماذا؟
ـ أبلغونا بأنّ هناك بعض العصافير النادرة الوجود والمهددة بالانقراض ، تعشعش بالقرب من ورشة العمل وترقد فوق بيوضها خلال تلك الفترة، لذلك يجب أن نوقف العمل خوفا عليها وعلى فراخها من الضجيج !
قلت مرّة لجارتي أمّ العزّ، وكانت تقطن في الشقّة التي تعلو شقّتي في الوطن الأم: دخيلك ياأم العزّ، أتوسل اليك أن تخففي من ضجيج السهرة هذا المساء فأنا مرهقة حتّى العظم ودوامي يبدأ في الساعة الثامنة صباحا، علني أحظى بقسط وافر من الراحة والنوم . كشّرت عن أنيابها، وكأن جيفة التصقت لتوها بفمها، ثم رمقتني بنظرة ازدراء من قمّة رأسي حتّى قدميّ: إذا لم يعجبك الوضع بإمكانك أن ترحلي .
…….
وبدأت البحث عن بناية لاتعيش فيها أم العزّ، فوجدت نفسي على متن طائرة نقلتني من دمشق إلى لوس انجليس . بنيت لعائلتي عشا صغيرا وجميلا، جميلا جدا، قرب أحد الجسور المتناثرة في هذا العالم الكبير، أحلّق منه عاليا في الفضاء وأعود إليه بلا ازعاج.. بلا صداع.. وبلا ضجيج . لكنني مازلت أحنّ إلى شقّتي هناك، أحنّ إلى أم العزّ وأنيابها الصفراء.. أحنّ إلى وقع رقصها على أنغام موسيقا عشّاقها، تتسلل من نوافذي وتسرق النوم من عيوني، أحن إلى الأسر.. أحنّ إلى الوطن. لاأعرف لماذا ! لماذا يحنّ القط إلى خنّاقه؟ هل من مجيب؟
**********
من صور الطفولة التي مازالت أيضا حيّة في ذاكرتي، صورة الآنسة وسيلة معلّمة الصف الأول الإبتدائي، وهي تعلّمنا كيفيّة الوضوء. كانت تقودنا من غرفة الصفّ إلى الفناء الخلفي للمدرسة حيث يوجد صنبور ماء واحد، تحيط به بركة من الأوحال، تغطس بها أقدامنا الصغيرة حتّى الكواحل ونحن نقف في الطابور استعدادا لممارسة طقوس الوضوء. كان بيننا طفلة مسيحيّة واحدة، مازلت أذكر اسمها ـ جاكلين ايليّا لحّام ـ. كانت تجلس على بعد وتراقب عمليّة تطهيرنا، وهي ترتدي بدلتها الأنيقة وجواربها البيضاء وحذاءها اللامع. كنت أحسد جاكلين وأغار من منظرها اللائق الجميل، لكننّي كنت أشعر في الوقت نفسه بالأسى عليها، إذ لم يكتب لها قدرها كمسيحيّة أن تتعلم الفرق بين النجاسة والطهارة على غرارنا ـ نحن الأطفال المسلمون!
إذا كانت النظافة من الإيمان، ماعليك كي تقيّم حجم إيماننا، إلاّ أن تدخل دورة مياه تابعة لجامع في أيّ تواجد اسلامي، لافرق بين جامع في قرى اليمن وآخر في مدينة غاردن غرووف في جنوب كاليفورنيا!
في الصيف الماضي وخلال تواجدي في الوطن الأمّ، قمت بزيارة ترافقني ابنتي إلى الجامع الأمويّ. دخلنا قاعة كتب على بابها “مقام رأس الحسين”. رأينا عشرات النساء والأطفال والرجال يفترشون الأرض وهم يغطّوون في نوم عميق. سألت بعض المارة عن قصّة هؤلاء النيام، فأخبروني أنّهم زوّار من بلاد اسلاميّة، ولكي يوفّروا اجور الفنادق يضطّرون للنوم داخل الجامع. تحوّلت القاعة الى فرن درجة حرارته تصهر الحديد. لامراوح، لانوافذ لتجديد الهواء. رائحة النيام تزكم الأنوف وتثير لديك حاسّة الإقياء. ناهيك عن أرض الجامع والتي افترشت بالسجّاد. في محاولة، حسب اعتقادي، لمنع السرقات قاموا بربط كلّ سجّادة بالأخرى بخيطان من القنّب، ونتيجة للغبار المتراكم فوقها عبر السنين، تحسّ وأنت تمشي كأنّك تمشي في مستنقع للأوحال جفّت مياهه، فتأكل خشونة الأرض من قدميك. حاولت ابنتي أن تمشي على أطراف القاعة، ملتصقة بالحائط كي تتجنّب أن تدوس فوقها!
مليون دولار أمريكي في ذلك الصيف كلّفت عمليّة ترميم مأذنة الجامع، وكانت التحقيقات جاريّة مع وزير السيّاحة لاتهامه بالإحتيال والنفاق وسرقة تلك الأموال!
كلّ شيء في تلك البلاد النائمة يبدو على خير مايرام، طالما عبد الباسط يرفع الآذان، والسيّدة حياة تطقطق بسبّحتها، تكبّر ربّها وتصلّني على نبيّها، وعبادة الله في كلّ مكان تجري على قدم وساق!!
تصوّر نفسك سائحا وخطر ببالك أن تزور كنيسة، ليس في باريس أو لندن أو بيفرلي هيلز، وإنّما في أحد أدغال افريقيا، أو في جنوب السودان، أو في بنغلادش كأفقر أقفار الله، هل تعتقد أنّك ستدوس فوق أرضها على ذرّة من الغبار، أو تزكم أنفك رائحة لانسان؟! ليست الأزمة أزمة مال، إنّها أزمة عقل ودين، أزمة عقل سقط رهينة ذلك الدين! أمّة ابتلت بعقلها ووجدانها، وقبل أن تبتلي بهما ابتلت بدينها!
(للحديث تتمة) وفاء سلطان (مفكر حر)؟