كان مدرسي في المتوسطة، واسمه كاظم، منتميا إلى حزب ال…، ومع اشتداد التنكيل بالحزب حاول الهرب إلى إيران فأمسكوا به وأعدموه. اليوم لا أظن أحدا ممن درّسه هذا الأستاذ يمكن أن ينساه، كان مثالا في أخلاقه وإخلاصه في عمله. كنا أطفالا بعدُ فلم نكن نفهم ما يدور من حولنا، ولم نكن نفهم أستاذ كاظم. مرة استهزأنا به حين ابتدأنا دون مقدمات بالقول: (اليوم قمتُ بتجربة، وضعت قطعة حلوى على بلاطة مبتلّة لأرى كيف يمكن للنمل أن يصل إليها، وحرصت على أن أبلل البلاطة كلما أوشكتْ أن تجفّ، أتعلمون ما الذي حصل؟) أجبنا بالنفي ونحن نغالب ضحكنا، قال: (وجدتُ أن النمل كان يتقدم واحدة فواحدة إلى البلاطة ليصل إلى الحلوى، ماتت نملة وبعدها أخرى فثالثة ورابعة إلى أن تمكّن النملُ الميت من تشكيل جسرٍ إلى قطعة الحلوى، وأتت بعدها نمال كثيرة عبرت على جثث أخواتها بسهولة. وصل النمل إلى الحلوى وتقاسمها). ليست قصة شيقة لتعلق في الذاكرة، وليست مأساوية، بل إنها إلى الكاريكاتيرية أقرب، لكن لها مغزى عميق شرحه لنا أستاذنا الشهيد كاظم، قال ان من يريد تحقيق هدف، ربما يكون النملة التي تموت لا النملة التي تأكل الحلوى.
اليوم تذكرت كاظم، تذكرته وأنا أرى رفيقا له في الحزب يظهر في التلفزيون بكامل استرخائه، ببدلته الباريسية، بوجه متورد من النعمة، بلسان ثقيل كأنه إذا تكلم تفضل على العالمين وتغمدهم برحمته الواسعة، بعنجهيته التي تكشف خواء روحه، سألتْه المذيعة عن تصريح لزميل معه في البرلمان، فأجاب بلسان ملتاث كأنه في جلسة خمر: ومن يكون هذا؟ أنا ما أعرفه، شوفي لي سؤال يسوه!
ألتقيت كثيرين جعل منهم المالُ قرودا وسلب منهم آدميتهم… لكني لم ألتقِ بأحد على هذا القدر من الصبيانية..، يريد أن يكون مسترخيا و”مسيطرا” فيبدو قرقوزا مهرجا، لكنه مهرج يمتلك صلافة من جعلته السلطة والأموال كائنا فيه ملامح البشر لكنه إلى المسخ أقرب. وصلتْ النملة إلى الحلوى فأصبحتْ خنزيرا، أصبحتْ فيلاً، كائناً منتفخاً داس على من مات ليوصله إلى قطعة الحلوى، ونُسيتْ تلك النمال الدؤوبة التي صدقتْ أن رفاقها يستحقون التضحية من أجلهم.
مات خلق كثير ليوصلوا هذا المهرج إلى السلطة، ليجعلوه يشرب الويسكي والنبيذ المعتق ويلبس أحدث الماركات وأفخرها، ويكون له حاشية وخدم وحشم، ويتحكم بأمور شعب بأكمله.
اليوم شعرتُ أن أستاذي كاظم أخطأ خطأ جسيماً، فرجل بمثل صدقه وإخلاصه وطيب خلقه كان عليه أن يحيا، كان عليه أن يكون النملة الحية لا الميتة، كان عليه أن يبقى معنا لئلا يصل إلى الحكم سياسيون مسوخ فقدوا ذاكرتهم ونسوا أنهم كانوا يوماً ما نمالاً تتسابق للوصول إلى حلوى المال والسلطة.