الشهبانو فرح بهلوي إمرأة من أجمل نساء الأرض , وتمتلك إضافة الى جمالها الإمبراطوري الأخاذ شخصية قوية وطلة محببة أطلت بها على العالم وهي تقف الى جانب زوجها شاه ايران السابق محمد رضا بهلوي فبهرت كل من رآها , يكفيها للتدليل على ذلك أن إسم ( فرح ) الذي تحمله صار بسببها إسما عالميا أطلقه الناس على المولودات البنات في كل أرجاء المعمورة منذ اليوم الذي تزوجت فرح من شاه ايران وحملت لقب شهبانو في 21 ديسمبر 1959 .
دار معها الزمان في دورة صعود عجيبة فحولها خلال فترة قصيرة من طالبة عادية في كلية للهندسة المعمارية في باريس الى ( شهبانو ) وهي كلمة فارسية تعني ( إمبراطورة ) , وشخصية من أكثر شخصيات زمانها بريقا وجاذبية .
شخصية هذه المرأة ستتضح أكثر ليس من خلال دورة الصعود المجنونة هذه , ولكن من خلال الدورة المجنونة التالية التي سيدورها الزمان بعد عشرين عاما لتبدأ رحلة التحول .. فقد تمت الإطاحة بشاه إيران محمد رضا بهلوي .. وكان على الأسرة الشاهنشاهية مغادرة البلاد الى حيث لا أرض تقبلهم .. ثم موت الشاه والتنقل في المنافي .. ومقاساة مختلف أنواع الهموم . لكن الشهبانو فرح كانت مثار إعجاب الجميع .. لا لجمالها الأخاذ أو تعلقها بمظاهر الحياة الشاهنشاهية التي عاشتها سابقا , ولكن لصبرها وجلدها وقوة أرادتها , فرغم أنها فقدت كل شيء ولم يبق لديها غير الأمل , إلا أنها لم تكن تظهر أحزانها لأحد . قبل أن تحتفل بعيد ميلادها السبعين بأيام .. ترجلت هذه الفارسة عن ظهر جوادها لتتوسد الثرى بعد رحلة عذاب عاشتها ثلاثين عاما أثبتت فيها أن قيمتها كإنسانة .. كانت أكثر إشراقا من جمالها الإمبراطوري الأخاذ , وأثمن من كل جواهرها النفيسة , وأكبر من كل الألقاب الإمبراطورية التي حملتها .. فتحية لشهابها الذي أومض في سمائنا عابرا من ظلمة الأزل .. الى ظلمة الأبد .
نتعرف على الشهبانو فرح من خلال كتاب مذكراتها ( حب دائم _ حياتي مع الشاه ) .
الكتاب مكون من 447 صفحة من قطع كبير المتوسط وهو من إصدار مطابع هيبريون في نيويورك 2004 .
لم ألاحق هذا العدد الكبير من الصفحات للبحث عن قصة الحسناء والعاشق ولا عن الثراء والجواهر والرحلات الأغرب من الخيال , لكني بحثت عن إجابة لسؤال محدد واحد هو : لماذا أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية فتاها المدلل شاه إيران ؟
كتاب ( حب دائم ) يقع في خمسة أبواب و19 فصل .. لكنه لم يكن يحمل الإجابة عن سؤالي , ليس لأن الشهبانو لا تعرف الجواب .. ولكنها وكعادة الملوك .. تحدثت فيما وقع .. أما لماذا وقع .. فهذا ليس من شأننا , وهي محقة في ذلك الكتمان , فحتى آخر لحظة من حياتها كانت تنتظر عودة إبنها الأمير رضا ليتوج شاها على عرش إيران خلفا لوالده المعزول . ولذلك فالدخول في تفاصيل الأسباب التي أدت الى عزل الوالد .. قد تعرقل مشروع عودة الإبن .
أهدت الكتاب : الى الشعب الإيراني والى أطفالي ولأجل محبة مليكي .
في الجزء الأول من الكتاب حدثتنا عن طفولتها وأهلها بشكل عام . في الجزء الثاني من الكتاب حدثتنا عن لقائها بالشاه في باريس حين زار كلية الهندسة المعمارية التي كانت طالبة فيها .
في الجزء الثالث من الكتاب زواجها ودخولها الحياة الرسمية للقصر الشاهنشاهي .
الجزء الرابع يتحدث عن المنفى وموت الشاه في مصر .
الجزء الخامس يتضمن حديث لها عن مشاعرها إتجاه ايران وإتجاه زوجها المتوفي بعد العودة من دفن الشاه .
ثم فصل صغير عن وضع النساء في إيران أثناء العهد الشاهنشاهي .
ثم خطبة ( قورش الأعظم ) التي يقول فيها : أنا قورش , ملك الدنيا , الملك الأعظم , وبإرادتي أكون ملكا على بابل , وأرض أكد وسومر , وملكا على الجهات الأربع ….. الخ حتى نهاية الخطبة .
وينتهي الكتاب برسالة موجهة من ولدها الأمير رضا ولي عهد ايران الى الشعب الإيراني من قصر القبة في القاهرة بتاريخ 31 تشرين الأول 1980 .
حدثتنا الشهبانو في أحد أجزاء كتابها عن تأميم مصدق للنفط وحكاية صعوده الى السلطة ثم الإطاحة به .. قد يتساءل المرء : وماذا في ذلك ؟ الإمبراطورة تحدثنا عن جزء من تاريخ إيران .. لكنني أقول إن تاريخ ايران ( الأريامهري ) طوله 2500 سنة على الأقل .. فلماذا لم تختر الشهبانو فرح غير حكاية مصدق لتقصها علينا .. مع أن الشهبانو لم يكن يزيد عمرها أيام حكاية مصدق عن 15 سنة .. ولم تكن قد تعرفت على الشاه .. ولم تكن قد تزوجته بعد .. وكل ما روته لنا في كتابها لا يعدو عن أن يكون مجرد حكايات ( سمعتها ولم تعشها ) وربما ما سمعت لم يكن هو الصواب بعينه ؟ هل حكاية مصدق فيها مفتاح دال على سبب الإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوي ؟
حين تستطرد الشهبانو فرح بالحديث فهي تحكي لنا عن حكاية إصابة الشاه محمد رضا بهلوي بالسرطان خلال السنوات الأخيرة من عمره .. لكنه كان يخفي عنها وعن الجميع حكاية هذا المرض الذي لم يعد بمقدوره إخفاؤه بعد الإطاحة به . طيب .. هذه نقطة جديرة بالدراسة , فلو كانت الولايات المتحدة الأمريكية غير راضية عن الشاه محمد رضا بهلوي , وتريد عزله عن الحكم .. فقد كان من الممكن أن تتصرف معه مثلما حصل مع والده ( رضا خان ) حيث تم عزله وتعيين إبنه من بعده .. فلماذا لم تتبع الولايات المتحدة الأمريكية هذه الآلية .. فتعزل الشاه بحجة المرض .. أو تنتظر موته المقبل سريعا .. أو حتى في حالة ما إذا كانت الخطة السياسية ( مستعجلة جدا ) فبإمكان أي طبيب إمبراطوري ( قتل ) الشاه .. بحجة المرض . ثم تعيين إبنه وربطه بمعاهدات جديدة وقيود يكون من شأنها تنفيذ ما تريد السياسة الأمريكية من ايران ؟ وإذن فوجود الشاه شخصيا لم يكن عقبة.. لكن وجود العائلة الشاهنشاهية برمتها على دست الحكم .. كان هو المشكلة , لذلك كان ينبغي الإطاحة بهم جميعا … لماذا ؟
كان علي أن أبحث في كتاب الشهبانو فرح عن نقطة ( تفجر الأزمة ) بين شاه ايران والولايات المتحدة الأمريكية .. وقد وجدت هذه النقطة فعلا , حين حدثتنا الشهبانو عن أول زيارة لهما هي والشاه الى الولايات المتحدة الأمريكية بعد فوز الرئيس الأمريكي ( الديمقراطي ) جيمي كارتر عام 1977 بالدخول الى البيت الأبيض .
تقول الشهبانو : كان لدينا إجتماع مع جيمي كارتر وزوجته .. حالما دخلنا قاعة الإجتماعات لاحظنا أن السلطات الأمريكية كانت قد فتحت الأبواب والممرات بأكثر من المعتاد وسمحت للمعارضين الإيرانيين بالتسلل الى الداخل أكثر مما يجب , وحال مشاهدتهم لنا علت هتافاتهم وصراخهم وشغبهم .. عندها إضطرت الشرطة الأمريكية الى إستعمال العصي والهراوات ضدهم ثم إستعملت الغازات المسيلة للدموع .. ولأنهم كانوا قريبين جدا منا فقد تنشقنا هذه االغازات .. ونقلت جميع وكالات الأنباء العالمية صورنا ونحن نسعل وندمع سواء في جلسة الإجتماع أو عند إلقاء الكلمة الإفتتاحية بداية الإجتماع . وكان الشاه متنرفزا من الحكومة الأمريكية … لماذا يفعلون بنا ذلك ؟ لكن الجانب الأمريكي كان متعنتا في قضية المطالبة بالحريات في ايران … ثم تضيف الشهبانو تساؤلا مهما فتقول : (( كيف سيتفاهم الشاه وهو يحكم ايران منذ 37 سنة مع رجل أتى الى البيت الأبيض قبل شهر ؟ زوجي كانت له روابط متينة مع الجمهوريين ولا نعتقد أننا سنتمكن من مواصلتها مع هذا الرئيس الديمقراطي )) . إنتهى
صحيح أن الرئيس جيمي كارتر كان قد وضع ( الحريات ) موضوعا أساسيا على جدول أعماله الرئاسي .. ولكن بإسم الحريات إمتهنت سياسته ( الحريات ) في جميع أنحاء العالم , مثلما إمتهن خلفه بوش الإبن الديمقراطية بإسم نشر ( الديموكرسي ) لذلك علينا أن لا نصدق فرية أن الرئيس جيمي كارتر كان قد سمح بإهانة شاه إيران داخل البيت الأبيض الأمريكي من أجل حرية الشعوب الإيرانية , ولكن دعونا نبحث عن السبب الحقيقي لذلك التصرف .
تحدثنا الشهبانو فرح بعد ذلك عن أن زوجها الشاه أقنع جيمي كارتر أثناء الإجتماع بوجهة نظره .. لذلك حصلت حالة رضا أمريكية كاملة عن شاه إيران وسياساته .. هذا الرضا جعل الدموع تنهمر من عينيهما هي والشاه عشية ذلك اليوم مما جعلهما يصفان ذلك اليوم بأنه يوم (( الدموع في الصباح .. الدموع في المساء )) .
حين عادا الى ايران كانت علاقتهما مع جيمي كارتر علاقة صداقة متينة .. جعلته يزورهما بعد شهرين في ليلة 1 / 1 / 1978 لتمضية إحتفال الكريسماس في طهران .. ثم إلتحق بهما الملك حسين ملك الأردن , فكانت جلسة عائلية رائعة تخللها العزف الموسيقي لولي العهد الأمير رضا .
يوم 16 / 1 / 1979 أي بعد عام وإسبوعين من تلك السهرة العائلية , كان على الشاه محمد رضا بهلوي وعائلته مغادرة ايران منفيين .. فهل يعرف أحد حقيقة ما كان يدور ؟ هل صحيح أن بإمكان ثورة ( شعبية ) في عالمنا الحر العادل الديمقراطي القانوني المتحضر أن تطيح بنظام من أعتى نظم الحكم في العالم ؟ ويملك جهاز مخابرات عريق مثل السافاك ؟ أم أن الولايات المتحدة هي التي حركت هذه الحشود لتحقق للسياسة الأمريكية ما لن يتمكن الشاه من تحقيقه ؟
في أكثر من مكان من الكتاب تبدي الشهبانو فرح ( وهي محقة ) دهشتها من الإيرانيين الذين يطالبون بالديمقراطية والحرية .. كيف يطيحون بنظام الشاه ثم يقبلون بدلا عنه حكومة ( ملالي ) ؟ متى كانت الحكومات الدينية في أي مكان من العالم ومن أي ديانة كانت .. حكومات ديمقراطية وتعترف بالحرية ؟ والأكثر غرابة .. كيف يثور الحزب الشيوعي اللنيني ( تودة ) أو الحزب الشيوعي الماوي ( سارباداران ) على شاه ايران ليعقباه بحكومة إسلامية متطرفة ؟ مع أن الشيوعية تتقاطع مع الدين وتراه ( أفيون شعوب ) ؟
# سنتعرف أولا على الخلفية التاريخية للعائلة الحاكمة البهلوية الشاهنشاهية .
رزق ( رضا خان ) من زوجته ( تاج الملوك ) يوم 21 شباط 1921 بثلاثة أطفال في ولادة واحدة . المولودة الأولى كانت ( أشرف رضا بهلوي ) , أما المولود الثاني فقد كان الذكر البكر الذي يرزق به ( رضا خان ) وقد أطلق عليه إسم محمد .. فصار إسمه ( محمد رضا بهلوي ) ثم أخ أصغر ثالث هو ( علي رضا بهلوي ) . وكان لهؤلاء المواليد أخت شقيقة كبرى من زواج آخر لأبيهما تدعى ( فاطمة رضا بهلوي ) وجميعهم ولدوا قبل أن يصبح والدهم ( شاه ) عام 1925 .
عام 1921 قام رضا خان بالتعاون مع ( السيد ضياء الدين طباطبائي ) بالتخطيط لإنقلاب ناجح أدى الى الإطاحة بالعائلة الحاكمة القاجارية عام 1925 ليتم في العام 1926 تتويج رضا خان ( شاه ) على ايران وفي نفس اليوم تعيين ولده البكر ( محمد رضا بهلوي ) الذي لم يتجاوز الخامسة من العمر ( وليا للعهد ) .
درس الأمير محمد رضا بهلوي في مدرسة داخلية سويسرية وأتم دراسته عام 1935 , في هذا الوقت كان والده ( الشاه رضا ) قد طالب المجتمع الدولي بتغيير تسمية بلاده من ( الإمبراطورية الفارسية ) الى إسم أكثر بساطة هو ( ايران ) .
حين عاد الأمير محمد رضا بهلوي الى ايران تم إلحاقه بأكاديمية عسكرية ايرانية في طهران وبقي فيها حتى عام 1938 .
تزوج الأمير محمد رضا بهلوي من الأميرة فوزية بنت الملك فؤاد وأخت الملك فاروق , وقد أقيم حفل الزواج في القاهرة 14 آذار 1939 . كانت بريطانيا التي تحكم ايران ومصر تحلم بتوثيق أواصر سيطرتها على المنطقة بمثل هذه الزواجات الملكية .. ولا عجب فيما بعد حين سنجد محمد رضا بهلوي ينادي بنسيبه الملك فاروق .. ملكا على العرب والمسلمين .
عام 1941 كانت الحرب العالمية الثانية في أوج إشتعالها . قامت ألمانيا النازية في هذا العام بخرق معاهدتها مع الإتحاد السوفييتي المعروفة بإسم معاهدة ( مولوتوف _ ريبنتروب ) وهاجمت الإتحاد السوفييتي بما عرف بإسم ( عملية برباروسا ) التي كان لها تأثير كبير على ايران التي كانت تريد أن تبقى بلدا محايدا في هذه الحرب .
حين أعلن ( الشاه رضا ) موقفه الى جانب ألمانيا النازية , قامت كل من بريطانيا والإتحاد السوفييتي بغزو ايران والإطاحة بالشاه رضا وإجباره على التخلي عن العرش لإبنه ولي العهد محمد رضا بهلوي .
الشاه الجديد كان ولدا صغير السن ( 20 سنة فقط ) لذلك كان يعمل بالمشورة البريطانية تماما وخلال بداية فترة حكمه كانت ايران واسطة الدعم الغربي ( البريطاني والأمريكي ) الى الإتحاد السوفييتي لكي يصمد بوجه النازية .
عام 1945 دعى الملك فاروق شقيقته فوزية لتقوم بزيارة رسمية الى مصر وفي أثناء هذه الزيارة قام بتطليقها من شاه إيران محمد رضا بهلوي . ولحد اليوم لم يعلن عن السبب الحقيقي لذلك التصرف من قبل فاروق , ففي حين يتحدث بعض المصريين بمنطق حموات مضحك , عن أن فوزية كانت ( جوعانة ) في بيت زوجها بدليل أنها فقدت الكثير من وزنها , كما أنها كانت محاطة بشلة غريبة من الحاشية , وهذا منطق لا يليق للتحدث به عن إمرأة من عامة الشعب فكيف بأميرة وبنت ملك وأخت ملك وزوجة شاه !!؟… نجد آخرين يتحدثون عن عدم قدرتها على إنجاب ولي للعهد وهو كلام غير صحيح أيضا بدليل ولادتها لبنت وولد من زواجها الثاني من اسماعيل شيرين الذي عينه فاروق وزيرا للحربية لمدة يوم واحد ثم أطاح به إنقلاب الجمهورية . لكن المرجح أن الملك فاروق كان قد علم بطريقة ما أن ايران ستقبل على مرحلة تغييرات لا تحمد عقباها لذلك قرر تجنيب أخته ويلات تلك المرحلة .. فكان الطلاق . ومن سخرية القدر أن فاروق كان قد تمت الإطاحة به بعد طلاق أخته بأربع سنوات عام 1952 , فيما بقي شاه ايران على عرشه حتى عام 1979 وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن منطقة الشرق الأوسط كانت تشوى على صفيح ساخن من الدسائس والمؤامرات … وكل شيء فيها جائز ومحتمل .
طلق الشاه محمد رضا زوجته الأميرة فوزية رسميا عام 1948 , وبعد فترة قصيرة تعرف على ( ثريا أصفندياري ) عن طريق إحدى قريباتها , وهي مسيحية إيرانية يعمل والدها في السلك الدبلوماسي أما والدتها فهي سيدة ألمانية .. وتمت الخطبة لكن الزواج تأخر حتى عام 1951 بسبب قلاقل وقعت في ايران ولم تنته طيلة فترة الخطبة .. بل يقال أن المظاهرات كانت تعم شوارع طهران طيلة شهر العسل .
فقد تعرض الشاه الى محاولة إغتيال فاشلة يوم 4 شباط 1949 عند زيارته الى جامعة طهران , حيث قام ( فخر أريا ) بإطلاق 5 رصاصات عليه من مسافة 10 أقدام , مزقت إحدى الرصاصات خد الشاه , أما ( فخر أريا ) فقد تم قتله في الحال على يد ضابط موجود في المكان . وبعد التحقيق تبين أن فخر أريا كان شيوعيا من حزب توده الموالي للإتحاد السوفييتي وهو حزب محظور , إضافة الى أنه كانت هناك شهادات تؤكد أن القائم بمحاولة الإغتيال كان ينتمي أيضا الى أحد التيارات الدينية المتشددة .
حادثة الإغتيال هذه تجعلنا نلقي الضوء على العلاقة الخاصة التي تربط ايران بكل من الإتحاد السوفييتي والشيوعية من جهة _ والإسلام والتشيع من جهة ثانية . فمن يتصفح مؤلفات الشاه مثل كتابيه ( حكاية الشاه ) أو ( واجب من أجل وطني ) يدرك على الفور أن إدعاء الشاه ب ( علمانية ) ايران في عهده ( وهي عضو في حلف السنتو الذي كان يديره نوري السعيد رئيس وزراء العراق ) لم يكن أكثر من مزحة يراد بها مماشاة الدول الغربية مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بتصوير ايران دولة حديثة وتتعامل مع المفاهيم الحديثة بإنفتاح , وهي ليست دولة دينية بما يعنيه تصور الدولة الدينية من إنغلاق وتحجر وعدم مسايرة لروح العصر .
في نفس الوقت فإن الشاه في كتابيه هذين .. لا يعلن إسلامه فقط .. ولكن يعلن تشيعه ( الإثني عشري ) ثم يروي لنا حكايات مطولة عن إعتقاده الراسخ بأن الإمامين ( علي والعباس ) عليهما السلام هما ( الإمامان الحاميان ) لشخصه . جرعة ماء من يد الإمام علي في المنام أشفته من حمى التايفوئيد , يد العباس حمته من التدحرج الى الوادي عند سقوطه من على حصان عن سفح جبل , ثم يد العباس مرة أخرى تحميه في حادث تحطم طائرة , ورؤية الإمام علي في المنام حمته من كثير من المكائد التي دبرت له .
حين وقف والده ( رضا خان ) الى جانب ألمانيا النازية .. دفع ذلك بريطانيا والإتحاد السوفييتي الى غزو بلاده وإجباره على التنازل عن العرش لإبنه .. ومنذ ذلك اليوم يقوم الإتحاد السوفييتي وبريطانيا بتقاسم المصالح في إيران . ولكي يكسب السوفييت رجال الدين الى صفهم أولئك الذين يعارضون الشاه بسبب ( علمانيته ) .. كان السوفييت يعلنون ( وهذا ضد توجهاتهم الفكرية بالطبع ) أنهم يريدون من علاقتهم مع ايران تأسيس دولة ( دينية / شيوعية ) لذلك كنا نرى نوعا من المسايرة بين حزب تودة الشيوعي ورجال الدين .. فالحزب كان يحتفل بكل المناسبات الدينية في مقرات حزبه .. وبالأخص مناسبة عاشوراء .. أما لماذا ؟ فليضمن الإتحاد السوفييتي تواجده المكثف على الساحة الإيرانية . فإذا أخذنا بنظر الإعتبار أن الشاه كان ( مسلما ) وكان ( شيعيا ) وهو يفخر بذلك .. فبأي طراز من طرز ( الدولة الإسلامية ) كان الإتحاد السوفييتي ( الشيوعي ) يعد الإسلاميين الإيرانيين عند تأسيس دولتهم ؟
عندما إنتهت الحرب العالمية الثانية وبدأت الحرب الباردة ودخل الأمريكان في ساحة الصراع الإيرانية .. كان من مصلحة الأمريكان أن يقوم شخص ( شيوعي _ إسلامي ) بمهاجمة الشاه في إستهداف شخصي لقتله , لأن معنى ذلك أن رد فعل الشاه سيكون تصفية القيادات الدينية والقيادات الشيوعية , عندها تتفرق القواعد الحزبية وتنكشف أسرارها وتحالفاتها .. فيتم القضاء على الشيوعيين . أما وجود أي حركة مناوشة بين الشاه المدعوم من بريطانيا بقوة _ وبين مواطنيه من الشيوعيين أو الإسلاميين فمعناها إضعاف لقوة الشاه داخل ايران وبالتالي إضعاف للهيمنة البريطانية أيضا . وكان هذا هو السيناريو الأمريكي الأول لطرد البريطانيين والشيوعيين , والسيطرة على ايران .
أما السيناريو الأمريكي الثاني للسيطرة على ايران فقد كان كالتالي :
ليس مستغربا على الأمريكان تنفيذ تطلعاتهم حول العالم بزعم تأييد حركات تحرر الشعوب , ففي هذه الفترة كانوا قد أوصلوا تيتو الى حكم يوغسلافيا وسكارنو الى حكم أندونيسيا وعبد الناصر الى حكم مصر وتحالفوا مع هوشي منه في فيتنام .. ولهذا فليست قضية جديدة عليهم فيما إذا وصل الدكتور مصدق الى مكتب رئاسة الوزراء في ايران وهو المدعوم شخصيا من قبل السفير الأمريكي في طهران ( هنري غرادي ) .
عند قيادة مصدق للحركة الوطنية الإيرانية .. وعلى طريقة الشعارات الأمريكية فقد زعم محاولته تحقيق الديمقراطية وجعل ايران دولة دستورية .. ( ولضرب البريطانيين في مقتل ) .. دعا الى تأميم الصناعة النفطية الإيرانية التي كانت بريطانيا تستحوذ عليها , والتي كان الأمريكان يدعون ( أن لا رغبة لهم فيها ) وأنهم يشاركون بريطانيا خشيتها من الشيوعيين الإيرانيين , الذين وبمساعدة الإتحاد السوفييتي ( قد يفلحون ) بالإطاحة بالحكم في ايران ومعه مصالح البريطانيين والأمريكان .
عام 1951 قام البرلمان الإيراني وبالإجماع بالتصويت لصالح تأميم الصناعة النفطية الإيرانية وذلك معناه إقفال شركة النفط البريطانية الإيرانية التي كانت الدعامة الرئيسية للإقتصاد البريطاني وواجهة رئيسة من أوجه التواجد البريطاني في المنطقة . بعد شهر واحد من التأميم تم إنتخاب مصدق رئيسا لوزراء ايران .
ومن أجل إحكام الصنعة في هذه اللعبة ذات الوجهين ( معاهم / عليهم ) أعلن الأمريكان نيتهم الإطاحة بمصدق قبل بداية الإنتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1952 . فقامت بريطانيا بدعوة ( كيرمت روزفلت الإبن ) من السي آي أي الى لندن للقيام بعمل مشترك بريطاني أمريكي تمت تسميته ( العملية أجاكس ) للإطاحة بالدكتور مصدق .
تحت الإدارة المباشرة لضابط المخابرات الأمريكي كيرمت روزفلت الإبن وهو حفيد الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت تقرر دعم العسكريين الإيرانيين الموالين للشاه للإطاحة بمصدق كرئيس للوزراء .
تؤكد السفارة الأمريكية في طهران أن مصدق كان يحظى ذلك الوقت بدعم شعبي ايراني يكاد يكون مطلقا وأن الأمريكان لايرغبون في زواله عن الحكم . لذلك عاد كيرمت روزفلت الى طهران يوم 13 تموز 1953 ليخطط لمصدق مشروع ( إطاحة وحمايه ) في نفس الوقت . ويظهر أن أفلام الخمسينات البوليسية كانت تؤثر كثيرا على عقول الناس في تلك الفترة .. لهذا فقد خطط سيناريو الإنقلاب على مصدق بحبكة سينمائية .
يوم 1 آب 1953 كان شاه ايران يتعاون مع مخابرات دولة أجنبية من أجل الإطاحة برئيس وزرائه ( مع أنه يستطيع إقالته من منصبه بتوقيع صغير ) . حملت السيارة كيرمت روزفلت الى القصر الشاهنشاهي عند منتصف الليل .. ومن أجل أن لا يراه الحرس عند البوابات فقد تمدد على المقعد الخلفي للسيارة وتمت تغطيته ببطانية , حين وصل الى البوابة الداخلية للقصر صعد الشاه الى السيارة , وتم التفاهم بينهما على بداية تنفيذ خطة الإطاحة بمصدق .. وقد أعلم كيرمت الشاه أن المخابرات الأمريكية قد رصدت لذلك مبلغا مقداره مليون ريال ايراني وتساوي ذلك الوقت 15 ألف دولار أمريكي .
الشيوعيون الذين كانوا يرون كل ما يتعارض مع الشاه أو بريطانيا قريبا الى قلوبهم .. عاضدوا مصدق خلال هذه الفترة وقاموا بمظاهرات حاشدة تأييدا له .. رغم هذا صرحت الولايات المتحدة الأمريكية أنها قد فقدت الثقة كليا بمصدق . لذلك ففي يوم 16 آب 1953 قام الجناح اليميني في الجيش الذي كان مواليا للشاه برد فعل على هذه التظاهرات وذلك بترشيح ( فضل الله زاهدي ) ليكون رئيسا للوزراء . فقامت حشود من المواطنين يقودهم ضباط سابقون في الجيش بأفعال وصفت على أنها إنقلاب ضد الشاه مما أجبره على مغادرة البلاد , حملته الطائرة الى بغداد ومنها الى روما حيث بقي 5 أيام . وكان بود الأمريكيين لو ان الخطة وقفت الى هنا وأطيح بالشاه فعلا .. وخرجت بريطانيا من ايران .
في تلك اللحظات أدرك البريطانيون أن وجودهم في ايران سينتهي إن لم يتمكنوا من إعادة الشاه إليها .. وهكذا تفاهموا بجدية مع الأمريكان حول تقاسم المصالح في ايران , وبعد 5 أيام في روما وصل الإيعاز الى الشاه بالعودة الى طهران .
خلال اليومين التاليين جاب الشيوعيون أنحاء طهران حاملين الرايات الحمراء , مطيحين بكل تماثيل ( رضا خان ) والد الشاه الحالي , هاتفين بشكل محتد جدا .. وهذا ما أقلق رجال دين محافظين من أمثال ( الكاشاني ) وأعضاء جبهة وطنية من أمثال ( مكي ) فقام هؤلاء بالإصطفاف الى جانب الشاه مخافة وقوع مالا يحمد عقباه . في يوم 18 آب 1953 كان مصدق قد سقط أما الشيوعيون فتمت مطاردتهم وتشتيتهم .
لم يكن لحزب توده ومن ورائه الإتحاد السوفييتي من خيار غير القبول بالهزيمة أمام مؤامرة السي آي أي التي تمخضت الآن عن إدعاء فضل الله زاهدي ومن مخبأه السري , بشرعية كونه هو الرئيس الحالي للوزراء وإتهامه لمصدق بأنه كان قد إنقلب على الحكم عندما تجاهل تعليمات الشاه .
( أردشير ) إبن فضل الله زاهدي كان وسيلة الإتصال بين والده والمخابرات الأمريكية , ولذلك ففي يوم 19 آب تم دفع 100 ألف ريال ايراني ( من المال الذي رصدته المخابرات الأمريكية ) الى جماعات حزبية موالية للشاه .. فخرجوا في مظاهرات تأييد سارت من جنوب طهران حتى المركز . حيث إنضم إليها آخرون بالهراوات والسكاكين والحجارة .. فسيطروا على الشارع وحطموا سيارات الشيوعيين وضربوهم وأخمدوا أي حركة مناهضة للشاه .
السفير هندرسون أوصى أردشير بعدم إلحاق أي أذى بمصدق .. أما كيرمت روزفلت فقد سلمه 900 ألف ريال ايراني التي تبقت من ميزانية العملية أجاكس .. لنفس غرض حماية مصدق من الأذى . عندها تم إعتقال مصدق وإحالته الى محاكمة صورية .. وتم الحكم عليه بالإعدام , لكن الأمريكان تدخلوا لدى الشاه فتم تخفيف الحكم الى 3 سنوات سجن في قاعدة عسكرية .. ثم إقامة جبرية في البيت مدى الحياة . وتعيين فضل الله زاهدي رئيسا للوزراء .
كل طموح الأمريكان من هذه العملية كان طرد البريطانيين والشاه معهم من ايران والحلول محلهم .. لكن بريطانيا كانت قوية بما فيه الكفاية تلك الفترة .. فلم تغلب .. وكل ما تمكن عليه الأمريكان خلال هذه المرحلة هو مقاسمتها المصالح في إيران وتسبيب أكبر الأذى للشيوعيين الذين آزروا مصدق ومن خلفهم الحكومة السوفييتية ومصالحها .
خلال الفترة المقبلة سيفهم الشاه أن عليه الموازنة في علاقته مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة بعقد صلات وثيقة مع الطرفين .. والإستمرار في نهج تحديث ايران بما كانت تدره عائدات النفط على خزينة بلده .. هذا التحديث الذي كان يثير حفيظة رجال الدين , أما الشيوعيون فقد كانوا مستثارين على الدوام بسبب كون ايران عضوا مهما في حلف السنتو ( حلف بغداد ) الذي كانت أول مهامه محاربة تغلغل الشيوعية في منطقة الشرق الأوسط .
أطل شاه ايران على الأمة بخطاب باكي عام 1958 أعلن فيه طلاقه من ثريا أصفندياري بسبب عدم قدرتها على الإنجاب في الوقت الذي هو بحاجة الى ولي عهد يخلفه على العرش بعد عمر طويل .
وفي العام 1959 تمت خطوبته وزواجه من ( فرح ديبا ) التي أنجبت له إبنه البكر رضا ثم أعقبته بإبنتين وولد .. وكانت هي الوحيدة التي تم تتويجها ( شهبانو ) أي إمبراطورة , ليس من بين جميع زوجاته , ولكن من بين جميع زوجات ملوك الفرس الذين حكموا الإمبراطورية الفارسية على مدى 2500 سنة , وكان ذلك عام 1965 .
يوم 10 نيسان 1965 وقعت محاولة جديدة لإغتيال الشاه .. فقد أطلق عليه النار احد الجنود بينما كان موكبه متجها الى قصر المرمر , فتم قتل الجندي على الفور , بينما قتل في هذه العملية إثنان من حرس الشاه المدنيين . وكل عمليات الإغتيال هذه كانت محاولات من جميع أصحاب المصلحة في السيطرة على ايران .
في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي كانت أحوال الشرق الأوسط تتحرك بصورة مرعبة . فقد وقعت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967 وبعد 6 أيام من القتال جاءت نكسة عربية ممضة جعلت المنطقة العربية تحترق بإشتعال ينبي بكل الإحتمالات .
1968 تغير نظام الحكم في العراق الجار الغربي لإيران .. حيث أوصل الأمريكان البعثيين الى الحكم .
عام 1971 بدأ التدخل السوفييتي في شؤون أفغانستان الجار الشرقي لإيران مما عدته الولايات المتحدة صفحة جديدة من صفحات حربها الباردة ضد الشيوعية .
عام 1973 وقعت حرب تشرين العربية الإسرائيلية التي كان مخططا لها أن تكون خاتمة الحروب العربية مع إسرائيل .
عام 1975 بدأت بوادر إندلاع الحرب اللبنانية لطرد الفلسطينيين وتأمين جبهة إسرائيل الشمالية . أما في تشرين الثاني 1977 فقد أقدم الرئيس المصري أنور السادات على القيام ب ( رحلة العار ) حيث إستقبله مناحيم بيغن للتفاوض حول إتفاقية سلام مصرية إسرائيلية منفردة .
بعد هذه الزيارة مباشرة إدعت إسرائيل أن قوة الردع السورية والفلسطينيين يتمركزون على حدودها وأنهم قد يهاجمونها ردا على الإتفاق مع السادات .. فهاجمت جنوب لبنان وإحتلته في 4 آذار 1978 .
17 أيلول 1978 وقع السادات إتفاقية كامب ديفيد . فتشضى الوضع العربي , وصارت ايران محصورة من شمالها مع الإتحاد السوفييتي الذي هي معنية بقتاله بحكم كونها دولة عضو في حلف السنتو . والى شرقها الأفغان وقد إندلع القتال بينهم منذ 7 سنوات . والى غربها العرب وقد عصفت بهم أقدارهم … وكان عليها أن تكون المعادل الموضوعي الذي يحسم لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية كل هذه الخلافات … فكيف تحقق ذلك لإيران ؟
# سندخل الآن في تفاصيل لماذا أسقطت الولايات المتحدة الأمريكية فتاها المدلل شاه ايران ؟ وقد تبدو نقطة الدخول للإجابة على هذا السؤال بعيدة قليلا عن صلب الموضوع لكنها ضرورية جدا . وسنتعرف فيها على سبب الإنشقاق الشيوعي ( السوفييتي _ الصيني ) .
عندما قام الحزب الشيوعي الصيني الذي قاده ماوتسي تونغ وخلال الأربعينات من القرن الماضي بخوض ( حرب مقاومة اليابانيين _ والحرب على شان كاي شك وحزبه القومندان في وقت واحد ) نشأت جذور الإنشقاق ( السوفييتي _ الصيني ) لأن ماو كان قد تجاهل تعليمات ستالين و( الكومنترن ) عن كيفية إدارة الحرب في الصين .
وقّع ستالين مع ( شان كاي شيك ) معاهدة صداقة عام 1945 وبعد هزيمة اليابانيين , قام ستالين بخرق تلك المعاهدة فإنسحب من منشوريا وسلمها الى ماو تسي تونغ ومعها مساعدات عسكرية بقيمة مليار دولار أمريكي , لمساعدته في تأسيس ( جمهورية الصين الشعبية ) في أكتوبر 1949 . بعد شهرين زار ماو موسكو .. فتم منحه 300 مليون دولار أمريكي بفوائد مخفضة , مع التحالف عسكريا معه لمدة 30 سنة .
رغم هذا كان ماو ومعه الكثير من الشيوعيين يجادلون فكرة أن تكون روسيا هي القائد الفكري والعقائدي للشيوعية في آسيا والعالم .
وفاة ستالين عام 1953 تركت فراغا في قوة العالم الشيوعي , وكان ماو يؤكد على فكرة أن قائد مجموعة من الدول الشيوعية لا يجوز أن يكون فردا ,, بل دولة . ومن العوامل التي تدعو ماو الى هذا الرأي هو خشيته من تزعزع مكانته عند مواطنيه الصينيين الذين لا يقبلون فكرة أن يكون زعيمهم ( تابعا ) الى شخص غريب .
رغم أن خروشوف كان قد أعاد للصين قاعدة لوشون البحرية إضافة الى مختلف أنواع الدعم التي عرضها أثناء زيارته للصين عام 1954 إلا أن ماو بدأ يتضايق من خروشوف بسبب أن الأخير قد ألقى خطابا عام 1956 في أحد مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفييتي إنتقد فيه سياسة ستالين الذي يكن له ماو أكبر الإعجاب .
تعارض ماو مع خروشوف مرة اخرى حين ساءت العلاقة بين الإتحاد السوفييتي والزعيم اليوغسلافي تيتو . ورغم توقيع معاهدة صداقة ( صينية _ سوفييتية ) بين البلدين عام 1950 إلا أننا عند الوصول الى العام 59 سنجد أن الوضع قد أصبح جاهزا للإنشقاق بين القوتين الشيوعيتين .
أثناء أزمة الصواريخ الكوبية , إلتقى خروشوف بالرئيس الأمريكي أيزنهاور وتم تصعيد الحرب الباردة بينهما .. إلا أن الروس ورغم هذا التصعيد مانعوا في تنفيذ وعودهم السابقة للصين بتطوير سلاح نووي صيني . كما مانعوا في دعم الصين في المناوشات الحدودية الصينية الهندية 1962 التي نتجت عن أزمة الصواريخ الكوبية .
فشل ( الجماهير الصينية العاملة ) في تحقيق أهدافها أدى الى موت الملايين , ولهذا فقد قام خصوم ماو في داخل الحزب الشيوعي الصيني بمحاولة للإطاحة به .. فقام هو .. بالإطاحة بهم متهما إياهم بأنهم عملاء الى قوة أجنبية ( يقصد بها السوفييت ) . وقد وصل الخلاف الى العلن في إجتماع الحزب الشيوعي الروماني حين سمى خروشوف ماو بكلمات ( قومي , مغامر , منحرف ) فرد عليه ماو بمطالبته بإعادة النظر في ( نظامه الأبوي , وجوره , ودكتاتوريته ) .
إنفراط العلاقة بين القوتين الشيوعيتين جعل الصين تنظر الى نفسها كقوة مستقلة تسعى الى التأثير في الحركة الشيوعية العالمية ومحاولة تزعم هذه الحركة .. عندها بدأ ( الماويون ) ينشرون تأثيرهم السياسي الشيوعي في تنافس مع سياسة الإتحاد السوفييتي . وكانت أكثر دول العالم تضررا من هذا الإنشقاق هما : أفغانستان في قارة آسيا , والصومال في قارة أفريقيا , لأن الأمريكان ما أن دخلوا على خط الصراع ( السوفييتي _ الصيني ) في هذين البلدين حتى أحالوا أفغانستان والصومال … الى ( أرض خراب ) .
بالعودة الى خارطة آسيا نجد أن البلد الوحيد الذي له حدود مع كل من الصين والإتحاد السوفييتي .. هو أفغانستان . وأفغانستان بلد وعر وفقير .. لم يطمع به أحد عند قسمة المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية , فلا هو تحت الحماية البريطانية مثل الهند ولا هو تحت الحماية الأمريكية مثل الباكستان .. لذلك قررت الصين والإتحاد السوفييتي إستعماله كساحة رخيصة لتصفية حسابات إنشقاقهما على بعضهما . فبدأت الخلايا الماوية بتشكيل وحدات أو تنظيمات صغيرة إستعدادا لدمجها في أحزاب كبيرة تعمل على تنفيذ الأجندة الصينية ضد الإتحاد السوفييتي .
( منظمة الشباب التقدمي ) الأفغانية تأسست عام 1965 لمعارضة ملك أفغانستان ظاهر شاه , ومن أبرز الوجوه المؤسسة لهذه الحركة هو الشيوعي الماوي ( أكرم ياري ) .
بقيت المنظمة تعمل سرا وأصدرت صحيفة ( شعلة جاويد ) أي ( شعلة دائمة ) كان لها تأثير لم يعرف من قبل في توجيه الرأي العام في افغانستان , فقامت حكومة ظاهر شاه بتحريك رجال الدين الأصوليين ضد الحركة الماوية وصحيفتها مما أسفر عن وقوع إشتباكات بين الطرفين .. تسببت في أن يقوم ( قلب الدين حكمتيار ) شخصيا بقتل القائد الطلابي الماوي ( سيدال سخوندان ) داخل الحرم الجامعي لجامعة كابول .. وحكمتيار هو الذي أصبح لاحقا قائدا للحزب الإسلامي الأفغاني أكبر حليف للولايات المتحدة الأمريكية داخل أفغانستان .
لم يسكت الإتحاد السوفييتي على هذه التحركات الماوية داخل أفغانستان .. لذلك قام بدعم ( داوود خان ) وهو إبن عم ظاهر شاه وصهره , ومعه حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني ( لينيني ) فأطاحوا بحكم ظاهر شاه وأصبح داوود خان رئيسا ( للجمهورية ) .
حالما تسلم حزب الشعب الديمقراطي السلطة في أفغانستان حتى أعلن أن العدو رقم واحد بالنسبة له هم الماويون ( منظمة الشباب التقدمي ) وشن عليهم حملة قتل بالجملة راح ضحيتها آلاف من الماويين , فقام من تبقى منهم بتأسيس منظمات جديدة هدفها مقاتلة اللنينين ( حزب الشعب الديمقراطي ) ومقاومة التغلغل السوفييتي في أفغانستان . ولعبوا في ذلك دورا حاسما عن طريق إنضواء منظماتهم هذه تحت عباءة الأحزاب الإسلامية التي كانت مدعومة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية .. ولم يكن للأمريكان مانع من دعم الماويين .. طالما هم يقومون بخدمة هدفها الأسمى وهو الإطاحة بالإتحاد السوفييتي .
وما يهمنا من كل هذا الكلام .. هو ربطه بما سيقع في إيران , فقد تأسس الإتحاد الإيراني الشيوعي ( سارباداران ) وهو منظمة ماوية إيرانية عام 1976 وذلك بإتحاد مجاميع من الماويين الإيرانيين هدفهم القيام بأفعال عسكرية داخل ايران .. ومثلما فعل الماويون داخل أفغانستان بإنضوائهم تحت عباءة الأحزاب الإسلامية .. فكذلك فعلوا في إيران .
خلال العامين 77 _ 1978 كانت الأوضاع الداخلية في ايران في حالة غليان دفعت الرئيس الأمريكي جيمي كارتر الى إستغلالها في قضية ( دعم الحريات ) التي وضعها على جدول أعماله الرئاسي . ولم تتوفر عندي دراسة دقيقة عن العلاقة التي قامت بين الحزبين الشيوعيين الإيرانيين ( تودة , والسارباداران ) غير أن من المؤكد أنها كانت علاقة سيئة , وأسوأ ما فيها هو الميكافيللية المقيتة التي مارسها الحزبان .
عام 1978 إندلع العنف في إقليم حيرات الأفغاني فقتل فيه ما يزيد عن 100 ألف إنسان , وكان أبطال التمرد ضد الحكومة فيه .. هم الماويون والأحزاب الإسلامية التي تأويهم .. وكان من المقرر لهذا العنف أن يندلع الى إيران بمساندة الساربدران والإسلاميين الإيرانيين الذين يوالونهم . خصوصا وأن مدينة مشهد الإيرانية لا تبعد عن مدينة حيرات الأفغانية بغير طريق معبد طوله 200 كيلومتر , عندها ستصبح الحرب إقليمية ولا أحد يحزر نتائجها , وقد خشيت فيها الولايات المتحدة الأمريكية على مصالحها .. فأرادت إستغلال الموقف بما يحقق لها أكبر الفائدة فأطاحت بالعائلة الشاهنشاهية الإيرانية وحققت من خلال ذلك ما يلي :
# قضت على جميع المعاهدات والمواثيق التي كانت هذه العائلة قد منحت بموجبها الصلاحيات والحقوق والإمتيازات الى بريطانيا وروسيا بعد إجبار ( رضا خان ) والد الشاه على التنحي عن الحكم بعد مناصرته للنازيين . ولذلك نشاهد أن بريطانيا لم يكن لها حتى تمثيل دبلوماسي أو سفارة في ايران حتى عام 1988 لا بل كانت تمد صدام حسين بالدعم التكنولوجي العسكري طيلة حربه مع ايران بما عرف ب ( العملية بابل ) .
# إذا كانت أفغانستان دولة فقيرة ولا ضير من أن يتحارب فوق أرضها الشيوعيون الماويون مع الشيوعيين اللينينيين , فإيران دولة غنية بنفطها ومصادرها , ووقوع الحرب فيها على شاكلة ما يقع في أفغانستان معناه كارثة عالمية على مستوى النفط والمحروقات , لذلك ينبغي حماية إيران من ذلك .
# إذا كان الإسلاميون في إيران قد تحالفوا مع الشيوعيين من أجل إسقاط الشاه .. رغم كل الخلاف العقائدي القائم بين الجميع .. فإن تسليم الحكم في ايران الى الإسلاميين سيجعلهم ينقضون تعهداتهم مع الشيوعيين .. وعوضا عن ذلك .. فإن الإسلاميين هم الذين سيتولون تصفية الشيوعية في إيران .
# تأسيس حكومة إسلامية ( شيعية ) في ايران .. كفيل منذ الآن بتأسيس النزاع الطائفي الذي سيقضي على أي شكل من أشكال وحدة الشرق الأوسط العربي الذي يراد له أن يبقى في حالة إنقسام يسهل التغلغل فيه .
حين تبحث عن الإطاحة بشاه ايران في الموسوعات البريطانية والأمريكية والكندية والأسترالية .. تجدهن مثل ( البلابل ) كلهن يغدرن بصوت واحد : (( ثورة شعبية عارمة أطاحت بشاه إيران )) لهذا تعالوا نتابع كيف هذه (( الثورة الشعبية )) قامت بذلك .
من أجل التخلص من الضغط البريطاني بعدم زحزحة الشاه عن عرشه كان يجب دفع الشاه الى خطوة حمقاء غير محسوبة ( لاتدري من أوحى له بها !!؟ ) ففي سبتمبر 1978 قام بتحريك قوات إيرانية لتتسلل عبر البر من جنوب البصرة وتدخل الكويت .. ثم إنضمت إليها قوات محمولة بحرا وجوا إنتشرت في قطر والبحرين والسعودية والإمارات .. عدا سلطنة عمان التي كانت القوات الإيرانية على أراضيها فعلا بسبب وجود معاهدة عمانية إيرانية لدحر تمرد ظفار العمانية .
هدد الشاه أن أي من سيتعرض لقواته فإنه سيواجه بالردع النووي , مبررا هذا التسلل العسكري بأن متغيرات مهمة ستقع في المنطقة وهو يخشى منها على سلامة ايران . إستمر التسلل 4 أيام , بعدها أرغمته القرارات الدولية على سحب قواته .. والتسلل منسي اليوم وكأنه لم يكن . غير أن أهم تداعياته كان .. نزع غطاء الحماية البريطاني عن الشاه .. فالبريطانيون مستعدون لخسارة أي شيء ولا خسارة شركاتهم النفطية في الخليج , وبذلك سهل على الأمريكان الإطاحة به دون مساألة من أحد .
ورغم هذا فقد زارته وفود أمريكية وبريطانية بعد سحب قواته من دول الخليج , معربة له عن إستمرارها في دعمه .
بعد عدة أيام نشرت صحيفة البرافدا الروسية ما معناه ( بسبب علاقات الجيرة المميزة فأن أي تدخل في شؤون ايران سيعتبره الإتحاد السوفييتي تدخلا في شؤونه الداخلية ) فقامت الحكومة الأمريكية يوم 7 ديسمبر 78 بنشر إعلان رسمي ( عن عدم نيتها التدخل في ايران تحت أي ظرف ) ورغم هذا ففي أواخر ديسمبر كان ( جورج لامبراكيس ) السكرتير الأول في السفارة الأمريكية في طهران قد صرح (( قريبا .. سيحل نظام حكم جديد في ايران )) .
بداية شهر كانون الثاني 1979 قام نائب القائد العام لحلف الناتو الجنرال روبرت هويسر بالتواجد في طهران في مهمة بمنتهى السرية . فقامت الصحف السوفييتية بنشر مقال عنوانه (( الجنرال هويسر في طهران للتخطيط لإنقلاب )) . فقامت صحيفة نيويورك هيرالد توربيون بعد أيام بنشر مقال عنوانه (( الجنرال هويسر في طهران لمنع وقوع إنقلاب )) .
المهم أن الجنرال خلال هذه الأيام كان قد أشرف على إعدام جميع القادة الكبار في الجيش الإيراني الموالين للشاه والذين من الممكن أن يديروا البلد في حالة غياب مليكهم . ثم أشرف هويسر على تسفير الشاه وعائلته الى خارج ايران يوم 16 / 1 / 1979 ثم غادر عائدا من حيث أتى .
القائد العام للقوة الجوية الإيرانية الجنرال ربيع قال أثناء محاكمته التي سبقت إعدامه : (( الجنرال هويسر رمى الشاه خارج ايران مثلما يرمى فأر ميت )) .
يوم 24 / 1 / 1979 أذاع ( مهدي بزركان ) الرئيس الصوري لمجلس الجمهورية الإسلامية : (( الجمهورية الإسلامية التي نبتغيها لن تكون مثل ليبيا أو العربية السعودية .. لكنها ستكون حكومة إسلامية تشبه حكومة الخليفة علي خلال العشر سنوات الأولى من حكمه )) .
وهكذا نجح الأمريكان في أن يحققوا لرجال الدين الإيرانيين الحلم الذي طالما منّاهم به السوفييت .. وإذن ما الحاجة بعد اليوم الى أي تحالف مع الأحزاب الشيوعية ؟
شعر الماويون المتحدون مع الإسلاميين في أفغانستان أن الإطاحة بشاه إيران أصبحت عقبة تحول دون نشرهم العنف من إقليم حيرات الأفغاني الى داخل ايران وبذلك تضيع عليهم فرص كثيرة لإلحاق الضرر بالإتحاد السوفييتي فقاموا بخطوة إنتقامية من الأمريكان .
قام عدة مسلحين يرتدون ملابس الشرطة الأفغانية , بإختطاف السفير الأمريكي في أفغانستان ( أدولف سبايك دوبس ) عند حوالي الثامنة صباحا بحجة مبادلته مع 3 أسرى لدى الداخلية الأفغانية .
عند الساعة 12 ونصف ظهرا حصل تبادل إطلاق نار وتم قتل السفير … كانت هذه الحادثة بعد 28 يوم من الإطاحة بشاه ايران و20 يوما من خطاب مهدي بزركان .
عندها خطط الأمريكان لأدخال السوفييت الى داخل أفغانستان .
يوم 24 ديسمبر 1979 دخلت القوات السوفييتية الى أفغانستان من إقليم حيرات متجهة الى قندهار حيث لاقتها هناك قوة أخرى دخلت من حدود أفغانستان الشمالية الشرقية لتقع في مصيدة الإسلاميين والماويين الذين دعمتهم الولايات المتحدة الأمريكية بكل شيء .
ولم تكتف الولايات المتحدة الأمريكية بكل هذا بل قامت بتكليف مخابرات دول حليفة لها هي مصر والسعودية وباكستان وايران بالإشراف المباشر على هذه الحرب بتزويدها بالمقاتلين والسلاح والمال , كما أمنت لها متطوعين من اليمن والجزائر ودعمتها بخبراء عسكريين من جمهورية الصين الشعبية وإسرائيل . ورغم مضي 30 عاما على هذه الحرب ورغم زوال الإتحاد السوفييتي .. فإن هذه الحرب لم تزل قائمة .. لكنها غيرت إسمها من ( حرب باردة ) الى ( حرب على الإرهاب ) .
الشهبانو فرح … إستهلت كتابها ( حب دائم .. حياتي مع الشاه ) بعبارة للشاعرة الإيرانية فروغه فروغزادة : (( الطير الذي إستشهد .. يتذكر رحلته )) .
تذكرت هي رحلتها … غير أن مسيرتي مع كل خطوة من هذه الرحلة .. كانت تصور لي ملايين الذين ماتوا بلا رحمة .. ولا معنى , في حروب لم تزل الإنسانية تثبت فيها كل يوم أن الإنسان ليس أكثر من حيوان كاسر.. يتحكم فيه غرور قوته وجشعه وأنانيته .. حيث لا عزاء للحق … ولا للخير … ولا للجمال . ميسون البياتي – مفكر حر؟