جريمة قتل تهزّ شوارع دمشق؟
منذ وقوعها قبل أسبوعين وحتى هذا اليوم، ما زالت تهزّها؟ دمشق التي تنطلق منها صواريخ وقذائف وطائرات محمّلة بالبراميل موجّهة إلى الريف الدمشقي؟ دمشق التي شهدت في الأشهر الماضية، سقوط قذائف في أحيائها المركزية التي تقطنها غالبية ثرية وموالية لنظام الأسد؟ هل ما زال هناك ما يهزّ العاصمة دمشق بعد أكثر من 200 ألف قتيل سوري وملايين المهجّرين؟ جريمة قتل مروّعة بحق شاب في السادسة عشرة من عمره، ما زالت أصداؤها تتردّد في صفحات التواصل الاجتماعي وفي جلسات الدمشقيين وتتسرّب إلى خارج الحدود فتُعاد صياغتها في أحاديث السوريين في بيروت.
وكأن الدمشقيين يعيشون في السويد، فوق أرض من الهدوء والسلام، يظلّلهم القانون إلى جانب أشجار وارفة، وسماء زرقاء صافية لا يعبث بركودها سوى سرب عصافير، وحديثاً، بعض الطائرات والصواريخ وسحب دخان لدنة تتصاعد بكثافة متحدية الجاذبية كأنها خارجة من فوهة بركان. الجريمة جريمة أينما وقعت وكيفما ارتكبت. والشاب الذي قتل، يتقد المستقبل في عينيه الطفوليتين. أمّه فقدت وحيدها، غابت روحها وشاهدنا صورها تتمدّد إلى جانبه على سرير المشفى، تشبك أصابعها بأصابعه الباردة، تقبّله ثم تضع يده على وجهها في حركة واهمة بأنه لم يرحل. أمّه مقهورة وما قيل عنها ولها في صفحات التواصل الاجتماعي غير إنساني. قيل ما معناه أن أمهات سوريات كثيرات فقدن أولادهن في معارك، مع النظام أو ضدّه. وأنها فقدت إبنها بعدما قُتل وهو بصحبة أصدقائه، يتعاطون المخدّرات، يسرفون في التعاطي، فيدفنون صديقهم حيّاً في حفرة بعمق مترين وعرض متر، ويغلفون رأسه بكيس نايلون فيموت بعد ثلاث ساعات. أمّه رأت يديه وأمسكتهما طويلاً وقبّلتهما وعانقت وجهها بهما. رأتهما مخدوشتين بعد محاولته المستميتة للخروج من قبره. شمّت رائحة التراب في يديه. لنتخيّل أنها لن تنعم بعد الآن برائحة المطر، الوسمي، أول قطرة تهطل بعد جفاف الصيف، فتتصاعد تلك الرائحة من مسامات الأرض كما يتصاعد الدخان في سماء دمشق.
المتّهمان الوحيدان في الجريمة، ينتميان إلى عائلتين مواليتين لنظام الأسد، وبعض أفرادها ينتمي إلى الشبيحة وقوى الدفاع الوطني. بعض أفرادها ارتكب جرائم صغيرة أو كبيرة بحق نشطاء ومتظاهرين بداية الثورة. عائلة الشاب المقتول، موالية أيضاً ولم تفوّت فرصة بعد الجريمة التي أودت بابنها لالتماس عدالة “السيد الرئيس بشار الأسد”. ولكل عائلة من تلك العائلات الثلاث (عائلتا القاتلين وعائلة المقتول)، علاقات وثيقة لها شكل هرمي، تبدأ بضباط أمن وتنتهي بالعائلة الحاكمة. عائلة المقتول تبذل كل علاقاتها في سبيل تجريم المتهمين ومعاقبتهما والثأر لدماء ابنها عبر “القضاء”. وعائلتا المتهمين بالقتل، تبذلان أيضاً ما في وسعهما لتبرئة ابنيهما. أحد المتهمين بالقتل، هرّبه والده إلى تركيا خوفاً من “الاعتقال”. هل باتت تلك العائلات الدمشقية أو الساحلية المقرّبة والموالية، تخشى السجن والاعتقال؟
عائلة المقتول وعائلة المتّهم بالقتل (نيابة عن نفسه وعن المتّهم الآخر الفارّ)، أنشأتا صفحتين في “فايسبوك” للدفاع عن قضيتهما، في اعتراف غير واعٍ بمنجزات الثورة السورية. استعراض القضايا الخاصة لتحويلها إلى قضايا شأن عام، واحد من تلك الإنجازات. المتابع لتلك الصفحتين (المتابع الحيادي وغير المعني مباشرة)، سيصاب بنوع من الفصام وسيلهث للحاق بمستجدات القضية وبالتعليقات الحديثة التي يحرص أهل المعنيين على إبرازها كل لحظة من النهار والليل، وكأن الكون يقف عند هذه القضية، المعقدة على ما يبدو. كل طرف من الأطراف، يسانده فرع مخابرات وأحد المقرّبين من العائلة الحاكمة. كل طرف يشدّ القضية إلى مصلحته. كل طرف يروي القصة بطريقته. ولا وجود حتى الآن لطرف ثالث قضائي “عادل” و”نزيه”، يروي الجريمة كما حصلت، وليس كما يراد لها أن تحصل. المتابع الحيادي وغير المعني مباشرة والمتواضع في أمور التحقيق في الجرائم واقتفاء أثر المجرم، سيقرأ الروايات العديدة المحاكة حول القضية، وسيكتشف بلا أدنى عناء، حقيقة ما حدث. فكيف بالمخابرات السورية وأجهزتها المدرّبة لعقود والقضاء السوري العادل أو غير العادل؟ هل يعقل أن تعجز كل تلك المؤسسات عن كشف أسرار الجريمة؟
ثم يغطس المتابع في قضية العصر وهي صفة “شهيد”. إذ أطلق أهل المقتول على إبنهم البالغ من العمر 16 عاماً، لقب الشهيد. في حين انشغلت عائلتا المتهمين بالقتل، بـ”صواب” إطلاق هذه الصفة على المقتول في جريمة قتل أو في جرعة مخدرات زائدة كما أشيع في ما بعد، إما للتغطية على الجريمة أو للتخفيف من وطأتها أو لتشويه سمعة عائلة المقتول الدمشقية الشيعية العريقة البعيدة كل البعد من مفردات سوقية مثل الحشيش أو المخدرات! ثم ماذا؟ ثم يكتب الموالون لعائلتي المتهمين بالقتل ما معناه أن الشهيد ليس شهيد الجرعة الزائدة، بل “عنصر الجيش العربي السوري وقوى الدفاع الوطني الذي يحمي حدودنا”. وبالتالي، هم يسقطون صفة الشهيد عن الشاب المقتول كما يسقطونها عن أكثر من مئة ألف سوري قضوا تحت القصف وفي مجازر ارتكبها النظام وفي الكيماوي وتحت التعذيب. في تلك اللحظة، تضيق سوريا وتضيق، ويخيّل لنا أنها لا تضمّ سوى عائلة المقتول والموالين لها وعائلتي المتهمين بالقتل والموالين لهما، و”الجيش العربي السوري وقوى الدفاع الوطني”، و”السيد الرئيس بشار الأسد” وعائلته وبعض أجهزة المخابرات. تضيق سوريا على ناسها وأهلها ومناطقها فتصبح جغرافيتها ممتدة فقط بين أحياء أبو رمانة والمالكي ومشروع دمّر.
أهم ما في القضية هو أن عائلتي المتهمين بالقتل (بغض النظر عما إذا ارتكبا الجريمة أم لم يرتكباها)، تطالبان الآن بتحويل قضية ابنيهما إلى القضاء! تطالبان بإخلاء سبيل الشاب المحتجز لدى فرع أمني وتحويله إلى القضاء. وممّ يشكو فرع المخابرات؟ هل بات فرع المخابرات فجأة مكاناً غير مستحب ولا يتمتع بالنزاهة! المتهم (نيابة عن نفسه وعن الآخر الفارّ) اعترف بجريمته وقال في التحقيق إنه خطط مسبقاً مع صديقه الفارّ و”اللاجئ” إلى الأراضي التركية لقتل صديقهم الثالث الذي يصغرهم بسنوات ثلاث، وإنهما حفرا الحفرة مسبقاً ودفناه حياً. فيقول أحد أفراد عائلة المتهم، تلك العائلة المعروفة بممارساتها التشبيحية التي ارتكبت بداية الثورة جرائم صغيرة وكبيرة بحق المتظاهرين والتي ينتمي بعض أفرادها لقوى الدفاع الوطني، كتبت في صفحتها: “لكل من يقول إن (…) اعترف، الاعتراف عند الأجهزة الأمنية لا يؤخذ بعين الاعتبار في المحكمة. لأنه، عند الأمن، تعرفون جيداً أن أي شخص قد يعترف بأنه السبب في ثقب الأوزون أو في إعصار كاترينا، أو أنه السبب في خروج البرازيل من كأس العالم أو حتى ممكن يعترف أنه السبب في انقراض الديناصورات”. لماذا هذا الاتهام الصارخ بحق أجهزة الأمن التي آمنتم بها لسنوات وعملتم معها وما زلتم تلجأون إليها؟ هل باتت تلك الأجهزة، الآن فقط، أقبية للتعذيب ولاستجرار الاعترافات تحت سلطة الضرب والتعذيب والعنف والدماء؟
إذاً، هل بات شبيحة النظام يعترفون بأن ثورة ما اندلعت في سوريا قبل ثلاثة أعوام ونيف؟
هل باتوا يؤمنون بأن من اعترف في فرع “المخابرات الجوية” بانتمائه إلى “عصابات إرهابية” هو بريء من هذا الاتهام؟
هل صدقوا أن أطفال درعا اقتلعت أظفارهم تحت التعذيب أيضاً وأن عاطف نجيب المسؤول عن أحداث درعا ما زال حرّاً طليقاً حتى يومنا هذا؟