كتابة موسى الشديدي: مجلة ماي كالي
عندما تقف امرأة أمام حشد غفير تقتنص في قبضتها منديل رقيق وتصرخ فيهم “أعطني حريتي أطلق يدي” حينها تتخطى هذه السيدة كونها مجرد فنانة إلى ثائرة على الأنماط السائدة في مجتمعها.
فلم تكن وقفة أم كلثوم المحكمة أمام الجموع على المسرح بهدف إبهاجهم وتسليتهم فحسب, بل كانت تُسلك بتلك الوقفة المحترفة الجماهير في ثقب إبرة, وتحقنهم بجرعة زائدة من الثقافة فينتشون بصوتها, و يدخلون نوبة هستيرية في حظرتها لا يُخرج منها بانتهاء الحفل بل تستمر إلى ما هو ابعد.
كان صوتها سياسيا كصوت المدافع, حتى إنها كانت تناضل بفنها ضد الاحتلال الإسرائيلي وترفع همة الجيوش العربية وتلهم الشعب الصبر وروح الكفاح, وفي الوقت ذاته كان صوتها رومانسيا كفيل بجعل القلوب تنصهر عشقا.
في الساعة العاشرة ليلا أول كل يوم خميس في الشهر كان صوت أم كلثوم يسحل كل العرب بعيدا عن أشغالهم على عجل, والركوع أمام أجهزة المذياع بكل إجلال خاشعين أمام وطئه صوتها كان طقسا جماعي, بدأت أم كلثوم مسيرتها الفنية وهي طفلة صغيرة تغني في قرى مصر و ذكر الناقد والصحفي رجاء النقاش – الذي التقى بأم كلثوم شخصيا – في كتابه ” لغز أم كلثوم” تفاصيل هامة حول صعوبة تلك البداية قائلا:
“لقد كانت تلبس العقال حتى تبدو كالرجال, فلم يكن من السهل أن تقف فتاة وتغني بين الفلاحين دون أن يصيبها رذاذ من الاتهامات الخلقية, ومن يلقي نظرة على صورة أم كلثوم اليافعة مع أخيها خالد يحس إن والدها وأهلها كانوا يحاولون أن يخفوا وراء ملابسها كل مظاهر الأنوثة حتى لا يكون هنالك حرج وهي تقف وسط الرجال لتغني.”
الست والجندر:
قد تكون أعظم فنانة في تاريخ العرب بأسره حتى أنها لا تحتاج مع اسمها لقب ليدل عليها فاسمها كفيل وحده للتعريف عن ظاهرتها المتفشية, وهنا يتجلى معنى أن تكون غني عن التعريف, لكن كل ذلك البريق الوهاج الذي أحاط بكوكب الشرق كان جديرا بجعل حياتها الجنسية لغزا محيرا يكاد يكون معدوم الذكر مسلوب الظل.
كانت امرأة صلبة بشخصية قوية وقرارات حاسمة شجاعة ولأسباب أخرى لم تكن تلبي النمطية الجندرية في وقتها تماما وهذا على ما يبدو ما لاحظته هدى بركات وعبرت عنه:
“عرفت كذلك أني أصغي لأم كلثوم وهى تأخذني إليها، لأنها ليست مطربة أنثى. ليس تماما. وجهها ليس جميلاً كوجوه النساء ولها رئتان هائلتان … ثدياها كبيران لكن رقبتها غليظة لتستطيع احتواء حنجرتها، ولأن صوتها أكثر من جنس واحد فهو يطلع حتى قبة الرحم، ويهبط حتى بئر الخصيتين. الحامض والسكري. صوت بلا جنس والاثنان معاً. كلام أغانيها في مذكّر يتضمن التأنيث، ولقبها الست. الست فقط كأنه توكيد لما ليس مؤكداً، ليس بديهيا. للقطع والهروب من الحيرة، وهى لا تستحي في المناجاة والغزل تحكى عن ليالي العشق والوصل وعن دوران الكؤوس بالشراب وعن فم الحبيب، تسمعها النساء رجلا، ويسمعها الرجال امرأة. وصوتها يغضب كأنثى ويطيع كرجل حين الاثنان عاشقان. زمن صوتها هو أيضاً ملتبس بين أنوثة الارستقراطية الذاهبة وذكورة بدايات التحرير، بين الكهولة والمراهقة. وبيولوجيا صوتها خلط وندف لانتظام الهورمونات وانفصالها بين الشارع العام ومشربيات الحريم الظليلة بالياسمين، بين شمس المسالك المكتظة وإرتعاشات الأبخرة الطرية في الحمامات التركية. بين برادة المعادن المحترقة وشرارتها، وبرودة الحليب الذي يحمض وئيداً في الدفء. صوت امرأة ورجل معاً”
قام موقع دوت مصر بنشر تقرير صحفي تحت عنوان “هل كانت لام كلثوم ميول سحاقية ؟” ثم حذفه بعد عدة ساعات على نشره كان قد اعد ذلك التقرير إسلام الرفاعي ما استطعنا أن نحصل عليه من ذلك التقرير كان كالتالي:
“فعند النظر لكلمات أم كلثوم نلاحظ أنها مزيج بين لغة المذكر والمؤنث، في اشاره قويه لكونها أمراه خارج إطار الجنس بمفهومه الواضح وقتها، فالتفكيك اللفظي لأغانيها وأدائها ربما يلمح بشكل أو بأخر لميولها الجنسية، التي تداولها البعض على استحياء.”
الرجل في حياة الست:
مثل هذا دفعنا للعودة والتدقيق في تاريخ الرجال في حياة الست, قد يكون أهم رجل في حياة أم كلثوم شاعرها الأهم احمد رامي فيعلق رجاء النقاش في كتابه المذكور أعلاه حول هذا الموضوع:
“كان حب الشاعر احمد رامي لام كلثوم حبا حقيقيا وكبيرا ونادرا , وكان هذا الحب مصدر أغانيه التي كتبها لها من وحيها وقد بلغ عدد هذه الأغاني فيما يقول بعض المؤرخين 137 أغنية من بين 283 أغنية غنتها أم كلثوم طيلة حياتها الفنية”
ورد هذا النص تحت عنوان الزواج المستحيل, وحتى نهاية الكتاب لم يوضح بشكل قاطع لماذا كان مستحيلا!
الرجل الثاني كان ذلك الذي أعلنت الصحف ذات صباح بأنه أصبح زوج الست, انه محمود الشريف لما كان فنان شعبي يقف على أول درجات السلم, لكن الطلاق اخذ مجراه بعد اقل من أسبوعين لأسباب لا يعرفها احد بشكل مؤكد.
وقع محمد القصبجي الموسيقار الكبير عواد فرقة أم كلثوم حتى أخر يوم له في عشقها, لكن قصة حبه كانت من طرف واحد يقال انه تعذب فيه كثيرا.
إما من يمكن إن نعتبره زوجها الحقيقي الوحيد, فهو الطبيب حسن الحفناوي والذي تجمع المصادر بأنه كان طبيبها أكثر منه زوجها, واستمر زواجهما حتى وفاتها.
خصوصية الست:
قبل أن اكتب سألت نفسي, هل يحق لنا إن نتناول أسرار خاصة لشخصيه مهمة مثل أم كلثوم, تلك ألسيده التي وصل صوتها لـ14000 ذبذبه في الثانية, والتي شارك في جنازتها الملايين للبحث فيها والحديث عنها؟ بالتأكيد سيعتبر الكثير من الناس هذا نبشا لقبور الأموات وتجاوزا ما بعده تجاوز, أما أنا فأرى وقد أكون مخطئا إن الشخصية العامة تصير ملكا تاريخيا, ولا تعود ذاتها بسرها وجهرها ملكية خاصة فيما بعد, بل ملك للجمهور الذي يرتديها بقية حياته مهما عشقها أو مقتها, وتفقد ملكيتها الخاصة لها, وما كان سرا في ظرف معينة, أثقل صاحبه بعدم البوح سيسعد صاحبه بوحنا له به بعد انقضاء تلك الظروف التي قيدته فيما سبق, فيا له من نصر.
قبلة الست:
انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا صورة قبلة الست بعد ان نشرتها مجلة لبنانية لام كلثوم وهي تتلقى قبلة من سيدة على فمها.
حتى وقع بين يدي كتاب لاعتماد خورشيد عنوانه “شاهدة على انحرافات صلاح نصر” أكد لي مصدر موثوق رفض ذكر اسمه بأنه يحوي إشارة لجنسانية أم كلثوم فوجدت في صفحة 113 النص التالي: “كانت هناك المطربة الكبيرة التي فاقت شهرتها الأفاق, ولكنها كانت مصابة بشذوذ مصادقة النساء والفتيات الصغيرات”
في مقابلة لي مع احد الناشطين المصريين قال لي: “تزوجت متأخراً وكان طبيبها أكثر منه زوجها, كانت ليها صديقة مقربة منها تقريباً تعيش معاها,كان ليها خطاب وعاشقين كتير مارضيتش بحد منهم, لم تنجب أولاد، وصديقتها اختفت تماماً بعد وفاتها وماكنتش مركز الأضواء زي باقي عيلتها, مجرد قرائن”
عروض مسرحية في أوربا عن حياة أم كلثوم بين 2002 و 2004 صورتها بهيئة مثلية, كتبت على يد المصري عادل حكيم وأخرجها التونسي لطفي عاشور اعتمادا على رواية سليم نسيب ” أم” التي نشرت لأول مرة بالفرنسية سنة 1994 والتي اقترحت وجود علاقة حميمة بين أم كلثوم وزوجها ومحمود الشريف, وكذلك وضعها في مشهدين حميمين مع امرأة.
ربما كان ادوارد سعيد الأكثر جرأة بينهم عندما أعلنها في مقالة له بعنوان ” تحية لراقصة شرقية“ في جملة قصيرة بسيطة واضحة مباشرة بتاريخ 13 سبتمبر 1990: “خلال حياتها كان هنالك سجال ما أذا كانت أو لم تكن أم كلثوم مثلية الجنس, لكن يبدو أن قوة وسحر أدائها جعل الجمهور يتجاهل ذلك”
الخاتمة:
منذ بداية وحتى نهاية صناعة هذا العمل عن جنسانية أم كلثوم الضائعة, كنا نعلم علم اليقين بأنه يكاد يكون مستحيل إن نتوصل إلى جواب شافي, ما قرأته للتو مجرد افتراض يستحق إن يرى النور, وتبقى كل المعلومات المتوفرة حول جنسانية الست مبهمة وغير كافية لتكون قاطعة على الإطلاق.
.النهاية
.عن موسى الشديدي: موسى مواليد العراق بغداد ١٩٩٢، مؤلف فنان بصري ومدافع عن حقوق الانسان يتناول في اعماله قضايا حقوق المرأة والمساواة بين الانواع الاجتماعية والتوعية حول الجنسانية حتى تتحول اعماله لتكون صوت لمن لا صوت لهم. صدر مؤخرا أول كتاب له تحت عنوان “يوم لم يكن لنا أب”.