الإتحاد الإماراتية
للسَّبِ، أو الشَّتم، السياسي تاريخ، مارسته الدول رسمياً من على منابرها، كالدولة الأموية (41-132 هـ) حتى خلافة عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ)، والدولة الصفوية (1501-1736) حتى ملك نادر شاه الفيشاري (اغتيل 1747). وبين هاتين الدولتين جرت محاولات عدة للسب بأثر رجعي على المنابر. لا نقرأ هذه الممارسة حُباً بالتاريخ لإعادة أوجاعه، فمحاولاتنا جارية مركزة على التذكير بمسراته، وهي ليست قليلة، لمن يريد للأجيال التعايش بسلام، فهذا الزمن يتعارض مع الدولة القومية أو الدينية أو المذهبية الصافية.
بمعنى أن البشر تداخلوا، وفي زمن غابر نُقل عن الفارابي (ت 339 هـ) ما يفهم منه انتشار الناس على ما هم عليه مِن اختلاف: «ينافس هذا لهذا/ أقل مِن الكلم الموجزِ» (ابن أُصيبعة، طبقات الأطباء). وإن رأى أبو تمام (ت 283 هـ) تباعد الدُّنيا: «فغربتُ حتى لم أجد ذِكر مشرقٍ/ وشرقتُ حتى قد نسيتُ المغاربا» (المسعودي، التنبيه والإشراف)، فالجواهري (ت 1997) يُدني آفاقها بـ«أقل مِن الكلم الموجز»: «وتلاقت الدُّنيا فكاد مشرقٌ/ مِن أهلها بمغربٍ يتعثر» (الدِّيوان)، الشَّاعران فيلسوفان بباعهما، مثلما كان الفارابي فيلسوفاً بأفكاره وهو يفرش الكون للبشر، على أن ينافس بعضهم لبعض، وسمعت كناية بمدينة عدن «النَّفس في القلوب».
عودة إلى بدئه، إن المقصد مِن سبّ الخصم هزّ صورته، وزرع الخوف مِن توليه. لكن في الوقت نفسه يأتي بعكس المطلوب، فعندما تسمع اسماً يُشتم بكرةً وعشياً، تسأل عن السبب، وهنا يتولد التعاطف وقد يصل إلى التقديس، ناهيك عن معاندة السُّلطة به، ليصبح رمزاً للتمرد.
بدأ السَّب رسمياً، في تاريخ الإسلام، في عهد الدولة الأموية بسبّ خصومها، وظل هذا التقليد حتى خلافة عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ) فأبطلها (الكامل في التاريخ والفخري). هناك مَن قُتل لرفضه للسَّب، حتى حار والي المدينة هشام بن إسماعيل (ت 87 هـ)، وقد أمره عبد الملك بن مروان (ت 86 هـ) أن يجعل آل علي يسبون علياً (اغتيل 40 هـ) وآل الزُّبير يسبون عبد الله بن الزُّبير (قتل 73 هـ)، ولولا مشورة أخته، وكانت حكيمةً، بعد أن أبى الطرفان التَّنفيذ، لقامت وقعة ليست أقل من «الحرة» بالمدينة (64 هـ). قالت: «اترك الذي تهلك عشيرتُه على يديه، راجع أمير المؤمنين»! لكن الأمر لا يقبل المراجعة، فأشارت: «إن كان لابد من أمرٍ فمرْ آل علي يشتمون آل الزُّبير، ومرْ آل الزُّبير يشتمون آل علي! قال هذه أفعلها! فاستبشر الناس بذلك وكانت أهون عليهم» (الزُّبيري، نسب قريش). هذا وأعفي كبير العلويين علي بن الحسين (ت 94 هـ) من الحضور.
توقف السَّب بأمر مِن عمر ابن عبد العزيز، ولم يمارسه الأمويون بعده، ومع شدة القتل والتصفيات ضد الأمويين، في بداية دولة بني العباس (132-656 هـ)، لم يصدر أمر بالسب السياسي، إلا أن المأمون (ت 218 هـ) بادر إلى إعلان سبهم، لكن القاضي ابن أكثم (ت 245 هـ) أفشله بالتحذير من العامة (ابن طيفور، كتاب بغداد). بعدها، بنحو سبعين عماً، أخرج المعتضد بالله (ت 289 هـ) الكتاب نفسه من الخزانة، وأمر بتنفيذه.
قال الطبري (ت 310 هـ): «الكتاب الذي أمر المعتضد… يقرأ بعد صلاة الجمعة على المنبر. فلمّا صلى الناس الجمعة بادروا إلى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب فلم يُقرأ» (تاريخ الأمم والملوك). كذلك «نودي في الجامعين أن الذِّمة بريئة ممن اجتمع من النّاس على مناظرة وجدل. وأن مَنْ فعل ذلك أحلّ بنفسه الضرب. وتقدم إلى الشّرّاب، والذين يسقون الماء في الجامعين ألاّ يترحموا على معاوية» (المصدر نفسه). نقل الطبري كتاب السب المذكور كاملاً.
هنا جاء دور العقلاء لمنع الفتنة فابن أكثم قال للمأمون: «الرأي أن تدع النَّاس على ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فِرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة» (ابن طيفور). كذلك كانت نصيحة القاضي يوسف الأزدي (ت 298 هـ) للمعتضد: «إني أخاف أن تضطرب العامة» (الطبري). إذا أردنا ترجمة نصيحة الأزدي «اضطراب العامة» بمفاهيم اليوم هو هذا خطاب الكراهية نفسه، ببعث الأموات ليقفوا مقابل بعضهم بعضاً ويتسابوا بألسنة الجهلاء.
أُوقفت ممارسة السَّب رسمياً، بعد أن تسربت إلى النفوس وصارت تمارس اجتماعياً، إلا أنه ليس هناك مَن يَقدم خارج السلطة الأموية، قبل عمر ابن عبد العزيز، على سب آل البيت، علي وبنوه، مِن أهل السُّنَّة كافة، وإنما ظلت تمارس خارج السلطة بين العوام في الخلفاء الرَّاشدين الثلاثة، ومع وجود حكومات شيعية كالفاطمية والزيَّدية والسلطنة البويهية إلا أنه ليس منها مَن أعلن السَّب، حتى جاءت الدَّولة الصَّفوية، وهو ما سنتناوله لاحقاً.
فهذا ابن تيمية (ت 728 هـ) نفسه يقول: «كان سب علي ولعنه بغي، الذي استحقت به الطائفة أن يُقال لها: الطَّائفة الباغية» (مجموع الفتاوى). كذلك قال في الحسين ( قُتل 61 هـ): «الحُسين رضي الله عنه أكرمه الله تعالى بالشهادة في هذا اليوم، وأهان بذلك من قتله، أو أعان على قتله، أو رضي بقتله، وله أسوةٌ حَسنة بمَن سبقه مِن الشُّهداء، فإنه وأخوه سيدا شباب أهل الجنة» (المصدر نفسه). القصد مهما كان الباغض لمقالات تقديس آل البيت، معتدلة أو مغالية، لا يجرؤ على سبهم بعد وقفه رسمياً (99 هـ).
وظل السَّب يمارس، بجوهر سياسي ومظهر ديني، وبُث كتقليد بين العوام، سلطان يَسبُ خصمه مِن على منبر سلطنته، ومعترض يَسبُه بالخفاء، حتى عُجنت عاطفة السَّب في النُّفوس، وتحولت إلى سلوك. حصل هذا بين المذاهب أيضاً، فورد أن وزيراً حنفيّاً «شديد التعصب على الشافعية… خاطب السلطان في لعن الرافضة على منابر خراسان، فأذن في ذلك بلعنهم، وأضاف إليهم الأشعريّة» (ابن الأثير، الكامل في التاريخ).
إن ما بين السَّب والتَّكفير حبل سُرَّة يُغذي أحدهما الآخر، وكان سياسياً بثوب ديني، وظلا ينتجان الكوارث، لكن عظمة الفاجعة أن السَّاب أو المكفر كان يرمي شرارته على مئة فرد حول منبره، بينما الآن يرميها للملايين، بواسطة فضائية أو موقع تغريد. هذا ومعنى سَبَّه لغةً قطعه وطعنه، فهل ترون أن السَّبَ بالكلمات أقل من الطعنات بالخناجر؟ وكيف إذا كانت موجهةً لكبار مثل الأربعة! وللكلام صِلة.