وفاء سلطان
بقدر ما نستفيد من التكنولوجيا، بقدر ما ندفع الثمن باهظا.
تغزو بريدي يوميا مئات الرسائل غير المرحب بها، والتي لا أستطيع أن أضحي بثانية لأحذفها، ناهيك عن دقائق لأقرأها!
هذا الغزو يغنم وقتنا، ويحاول أن يسبي قدراتنا العقلية على التفكير والمحاكاة، ولذلك يجب أن نقف له بالمرصاد.
لم أشأ يوما أن أعمم مقالاتي على أحد، بما فيهم من يحبني من قرائي ويناشدني أن أرسل له كل جديد لي.
لا أفعل ذلك من منطلق ايماني بأن القارئ العطشان للكلمة الجميلة والمقنعة سيبحث عنها حتى يجدها، وعدد الرسائل التي تصلني من قرائي، والتي تتناول مقالات قديمة لي يؤكد لي صحة ما اؤمن به حيال تلك القضية، علما بأنني لا أنشر مقالاتي إلا في موقع واحد.
على كل حال، ومن منطلق حرصي على وقتي الثمين، أقوم يوميا بجرد سريع لعناوين الرسائل التي تصلني، في محاولة للتمييز بين الغث والثمين، وخوفا من أن أضحي برسالة لقارئ محتاج لأن يتواصل معي .
ثم وبعد الجرد، أحذف بلا شفقة الكثير من تلك الرسائل، احتراما لوقتي ولعقلي .
……
البارحة، وضمن هذا الروتين الصباحي، عثرت على رسالة بعنوان : من ملفات جرائم النظام العلوي في سوريا !
أثارني العنوان، ففتحت الرسالة لأجدها مرسلة من السيد أحمد أبو رتيمة، الذي لم يسبق لي أن تعرفت عليه.
كبست بضعة أزرار لأكتشف بأنه كاتب يتواجد على صفحات موقع “إيلاف” بثقل لا بأس به.
هالني الأمر وأرعبني، وزاد من هولي ورعبي قرائتي لمحتوى الرسالة.
يصل التطرف أعلى درجات خطورته عندما يتناول أصحاب القلم، ومن يحشر نفسه في خانة الكتاب والمفكرين، ويلبس قفاز الإنسانية ليغطي يديه الملوثتين بدماء غيره.
لن أخوض كثيرا في تلك النقطة، لأنني منكبة على كتابة مقالة أو سلسلة مقالات بعنوان ” على ضوء الأحداث ” ، وسأتناول من خلالها الحركات الجماهرية الثورية (إن صح التعبير) التي شهدها العالم العربي مؤخرا، كأسباب وكنتائج محتملة، ولن أتسرع اليوم في تسريب بعض محتوياتها، لأن الموضوع الذي أنا بصدده الآن لا يقل أهمية، ويحتاج إلى توضيح نقاط في غاية الأهمية.
حملت رسالة السيد أبو رتيمة والتي هي بعنوان: “ملفات من جرائم النظام العلوي في سوريا”، حملت مقالة له بعنوان “شهيدة الإسلام بنان طنطاوي” بيت القصيد فيها هذا السطر:
“إنها شهيدة الإسلام السورية بنان الطنطاوي ابنة العالم الفقيه علي الطنطاوي وزوجة المفكر عصام العطار والتي اغتالتها مخابرات الطاغوت في بلاد الغربة ألمانيا سنة 1981”
…….
لم أسمع بالسيدة بنان من قبل، وهزتني جريمة اغتيالها كما هزني أن يعتبرني السيد أبو رتيمة مسؤولة عن اغتيالها، فقط لأنه شاء قدري أن أولد علوية !
لم أسمع بالسيدة بنان، ولست متأكدة من نبأ اغتيالها من قبل رجالات الديكتاتور حافظ الأسد .
لست متأكدة، لا لأنني اؤمن بنظافة ذلك النظام، فتاريخه يشهد عليه ولا أستطيع أن أكذب التاريخ .
ولكن، لأنني لا أثق بالأنباء التي يوردها متطرفون قد أعمت الطائفية بصرهم وبصيرتهم .
لا أعرف السيدة بنان، وأنا من أنصار أن يقام لها تمثال في ساحة المرجة بدمشق على أنقاض تمثال الديكتاتور حافظ الأسد ، لا لأنها شهيدة الإسلام ـ فالكل يعرف موقفي من تلك العقيدة ـ بل لأنها شهيدة الرأي، شهيدة حق الإنسان في أن يؤمن بما يشاء ويقول ما يشاء!
لا أعرف السيدة بنان، ويؤسفني أنني لم أقابلها في حياتي، فأنا متأكدة أن ما يجمعني بها كامرأة سورية أكثر بكثير مما يفرقنا، ولكنني أعرف السيد زوجها والذي اعتبره الكاتب أحمد أبو رتيمة “مفكرا” سوريا!
أعرف السيد عصام العطار، لأن اسمه محفورا في ذاكرتي، كما هي محفورة الحقبة التي صنعها حزب الإخوان المسلمين وحزب البعث الحاكم في اواخر السبيعنيات وأوائل الثمانينيات، والتي ستبقى وصمة عار في جبين هذين الحزبين ـ لا بارك الله فيهما ـ وفي تاريخ سوريا.
عندما كنت ألملم كطالبة طب في مستشفيات حلب أشلاء البشر، الذين مزقتهم قنابل الإخوان المسلمين المزروعة في وسائل النقل الداخلي، كنت أعرف بأن العقل المدبر لهذه الجرائم هو عقل “المفكر” السوري عصام العطار، والذي فتحت ألمانيا أبوابها له ولأمثاله وتدفع الآن ثمن جريمتها تلك!
كنت أعرف أنه “مفكر” من الطراز الإسلامي الأول!
وكنت أعرف بأن الخليفة الإسلامي جمال عبد الناصر ـ الذي هو أيضا من الطراز الأول، فكل صناعة إسلامية يعتبرونها من الطراز الأول ـ قد شنق زعيم الإخوان المسلمين سيد قطب ولاحق أتباعه بلا رحمة، ناصبا نفسه قدوة “حسنة” لكل ديكتاتور عربي آخر علويا كان أما سنيا!
وكنت أعرف أيضا بأن السيدة نجاح العطار وزيرة الثقافة السورية آنذاك ونائبة الرئيس السوري لاحقا هي أخت السيد “المفكر” عصام العطار.
لقد استمعت مرارا لخطابات السيدة العطار في مجلس الشعب السوري، والتي أثارت غثياني إلى حد الإقياء.
كانت خطابات مليئة بلغة التملق والمديح المزيف الذي يصدمك كونه صادر عن امرأة، فالمرأة خلقت لأن تكون سيدة لا لأن تكون عبدة وتقبل يد سيدها.
في كثير من الأحيان، وأمام تملقها المفتعل والرخيص، كان الأمر يختلط على المشاهد السوري فلا يعرف إن كانت تمدح حافظ الأسد أم نبيها محمد!
إنني أتحدى أي إنسان يواجهني بخطابات رجل علوي، ناهيك عن امرأة علوية ـ بما فيهم المعتوهة بثينة شعبان ـ تمدح الأسد وزبانيته بهذا الشكل المقزز!
السيد عصام العطار والسيدة نجاح العطار ولدا في نفس البيت وشربا من نفس المنهل، وكلاهما يتشابهان في منهجهما.
كلاهما متطرفان، مهما اختلفت الجهة التي يتطرف كل منهما لصالحها.
فالأسباب التربوية والنفسية التي تدفع إلى التطرف هي نفسها، بغض النظر عن العقيدة الفكرية التي يتطرف لها الشخص، وهنا نواجه مثالا رائعا على تلك الحقيقة.
فالسيد عصام تطرف إلى الحد الذي لم يعد يميز عنده بين حافظ الأسد وبين جندي علوي يؤدي خدمة العلم، أو التحق بالجيش بحثا عن لقمة يسد بها رمقه، ولذلك لم يتورع أن يصدر أوامره إلى زبانيته بتدمير وسائل النقل المتجهة من المدن السورية الكبرى إلى المدن الساحلية أملا في قتل أكبر عدد ممكن من هؤلاء الجنود المتوجهين يوم العطلة الرسمية لزيارة أهاليهم ، وذلك بغية تحقيق مآربه السياسية.
وكذلك السيدة نجاح العطار، تطرفت إلى حد لم تعد تميز عنده بين حافظ الأسد وبين نبيها محمد، ولذلك تفانت في مدحه غير آبهة بجرائمه، وذلك بغية تحقيق مآربها السياسية على طريقة السيد أخيها.
سأتطرق بالتفصيل إلى تلك النقطة في مقالتي القادمة “على ضوء الأحداث”.
……….
عندما وصلتني رسالة السيد أحمد أبو رتيمة، أرسلت له هذا الجواب:
لا أريد أن أستلم رسائل من ناس طائفين يعمي الحقد قلوبهم
ولذلك أرجو أن تتوقفوا عن تلويث ايميلي بحقدكم
مع خالص شكري
وفاء سلطان
تفاجئت في اليوم الثاني برسالة منه تحمل مقالة له بعنوان: الإعلام الشعبي…خطوة في طريق التقدم الإنساني!
الإعلام الشعبي…خطوة في طريق التقدم الإنساني
ذلك العنوان الذي يفترض ـ وقبل أن تقرأ المقالة ـ أن يقدم لك كاتبا يعي قيمة الإعلام، ويعي في الوقت نفسه ضرورة التقدم الإنساني.
تساءلت : كيف يكون السيد أحمد أبو رتيمة ملما بما يحمله عنوان مقالته، ولا يتورع في الوقت نفسه أن يحمل طائفة تشكل خيطا في نسيج مجتمعه السوري، مسؤولية جرائم طغمة
تكرمت الطائفة السنية بانجاب الكثيرين من أمثالها؟
وهنا تكمن الخطورة، التي تنطوي عليها الحركات التي شهدها العالم العربي مؤخرا، والتي سأخوض في حيثياتها قريبا .
هنا تكمن الخطورة، تكمن في أصحاب أقلام، محسوبين على المفكرين، يظهرون مالا يضمرون !
لم يتورع القرضاوي أن يخرج إلى الملأ ليحرض على الجهاد ضد العلويين في سوريا، ولا أرى في تحريضه هذا الخطورة التي أراها في قلم كاتب ـ ومفكر إن أجاز التعبير ـ يظهر خلاف ما يضمر !
القرضاوي رجل دين سني متطرف وإرهابي، وأغلب السنة ـ خصوصا النخبة المثقفة منهم في سوريا ـ يعون تماما خطورة وجود أمثال القرضاوي في مجتمع مميز بنسيجه الإجتماعي المزركش، كالمجتع السوري .
إيماني بوجود هذه النخبة يخفف من حدة هولي ورعبي من فتاوي القرضاوي المليئة بالحقد والدعوة إلى الإرهاب وسفك الدماء .
ولكن وجود كاتب ينمق كتاباته مدعيا بأنه من أنصار التقدم الإنساني، ثم لا يتورع أن يسمي النظام الحاكم في سوريا بـ ” العلوي ” ، هو ما يهولني ويرعبني إلى حد الموت .
……….
كنت أتناول طعام الغداء منذ حوالي اسبوع مع سيدة علوية لجأت إلى أمريكا هاربة من ملاحقة السلطة لزوجها وأولادها على أمل أن تجلبهم لاحقا، بعد أن تقدمت بطلب لجوء سياسي إلى أمريكا ، ودار بيننا حديث حول ما يدور في سوريا اليوم.
هي سيدة جامعية، ورغم ظروفها وتحصيلها العالي تفاجئت بها تقول: الله يحمي بشار الأسد، يا ويل العلويين إذا استولى الإخوان على السلطة في سوريا!
صعقتني عبارتها، رغم أنني أتقبل بسهولة ما أستطيع أن أجد له سببا!
هذه السيدة ـ وفي لحظة ضغط من الأحداث الجارية ـ لم تستطع أن تخفي ما يدرو في باطن وعيها ، فجاءت زلة لسانها لتعبر عما تخفيه في اللاوعي عندها على غرار السيد أبو رتيمة.
هي تقف مع عائلتها في الخندق المعارض للديكتاتور السوري حتى الموت، لكنها تعي في الوقت نفسه بأن موقفها هذا لن يبرر لها كونها علوية أمام طغمة الإخوان المسلمين.
هذا هو التطرف، وهذا هو الخوف الذي ينجم عنه!
النخبة السنية المثقفة تخاف أن تتهم بالطائفية في مواجهتها للأسد، ولذلك موقفها يبقى ضبابيا ولا تلام عليه.
الإخوان المسلمون متطرفون وتاريخهم الإجرامي يعكس حقيقتهم رغم كل ما يحاولون اليوم جاهدين أن يخفوه .
النخبة العلوية المثقفة تعي جرائم الأسد، ووقفت له بالمرصاد ونالت نصيبها من جرائمه، ولكنها لا تأمن الجانب الآخر، ولذلك موقفهم من هذا الجانب بالنسبة لهم قضية حياة أو موت، وليس من باب الدفاع عن السلطة .
الشريحة العريضة من الطائفة العلوية، وهي على غرار الشريحة العريضة من الشعب السوري، قد أنهكها الفقر والفاقة والجهل، ولكنها تبقى متعلقة بأذيال الأسد الذي نجح بإقناعها أنه الحامي الوحيد لها من الإنقراض، وأكد لها الأخوان المسلمون ـ بنواياهم الشريرة وتاريخهم الإجرامي ـ ” صحة ” إدعاء الأسد !
أما زبانية الأسد، فتركيبتها تعكس بلا شك التركيبة الفسيفسائية للشعب السوري، ولذلك منهم السني المتفاني بولائه للأسد ـ والسيدة العطار مثال حي ـ والعلوي والمسيحي والكردي والدرذي وغيره !
للأسف الشديد، لقد نجح النظام السوري في إقناع الأقليات بأنه الحامي الوحيد لها، وساهم الإخوان المسلمين في ترسيخ تلك القناعة!
لقد أكدت في أكثر من مناسبة بأنني لا أشتري علويتي بقرش أكله الصدأ، ولكن أليس من حقي أن أخاف على عائلتي عندما يحملها هؤلاء المتطرفون مسؤولية ديكتاتور، أعتبره إرثا اسلاميا صرفا بغض النظر عن الطائفة التي ينتمي إليها؟!!
لماذا لا يقال عن القذافي، الذي راحت دبابته تدهس الشعب كالذباب، أنه نظام سني؟ !!
لماذا لا يقال عن جمال عبد الناصر الذي شنق سيد قطب بأنه مجرم سني؟
لماذا لا يقال عن صدام حسين، الذي قبر أكثر من ثلاثمائة ألف شيعي وكردي أحياءا، سنيا؟
في الجزائر لا يوجد ديكتاتور علوي، فلماذا لا يُعتبر السنة مسؤولين عن قتل قرابة ربع مليون جزائري؟
ليتهم يعطوننا مثلا عن حاكم سني عادل، كي نطالب ديكتاتور سوريا ” العلوي ” بالإقتداء به ، وأعدهم بأنني سأكون من أوائل المنضمين تحت جوقته !
هذه الأسئلة، وبالنظر إلى تاريخ الإخوان المسلمين الإجرامي، تضع تصوراتي عن نتائج الثورات التي تجتاح العالم العربي اليوم على المحك، وتلزمني بحذر أن أحد من مستوى تفاؤلي !
………
عام 2007 التقيت بالمعارض السوري السيد فريد الغادري في العاصمة واشنطن، ولمست لديه رغبة جامحة على دخول المعترك السياسي السوري كمعارض مؤمن بقضية شعبه .
بدا لي شابا مليئا بالحيوية والنشاط، منفتح العقل وسليم المنطق ، يضاف إلى ذلك إيماني المطلق بأن الرئيسي السوري يجب أن يكون سنيا، الأمر الذي شجعني على أن أدعم جهوده وأرفع رايته.
كانت محاولتي الأولى والأخيرة في خوض ميدان السياسة، وكانت تجربة فاشلة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، أقسمت أن لا أكررها ولوعشت دهرا!
صعقني عندما رد في إحدى المقابلات الصحفية على موضوع تعامله مع العلويين ، بقوله: “عليهم أن يتركوا المدن السورية وينحشروا في الجبال التي جاؤوا منها”
تصوروا رجلا بهذه العقلية، عاش معظم حياته في أمريكا، ومتزوج من سيدة درزية وهي غاية في الأخلاق والثقافة، كيف سيحكم بلدا مزقته الطائفية والحقد الطائفي؟
كان تصريحه هذا نهايته السياسية، أقولها بصدق وصراحة!
لكن، ولكي أكون منصفة، إيماني بمستوى وعي الشعب السوري بمختلف طوائفه، وخلافا لأي شعب عربي أو مسلم آخر، يخفف دوما من حدة هولي ورعبي عندما يتعلق الأمر بمستقبل سوريا السياسي .
تاريخ سورياـ اجمالاـ ليس تاريخا دمويا، والسوريون شعب يحب الحياة، ومن يحب الحياة يقدسها كقيمة ويسعى دوما لتحسينها .
الإخوان المسلمون وعائلة الأسد الحاكمة، كما هو السيد عصام العطار والسيدة نجاح العطار، قطبان متطرفان يشربان من نفس المنهل، ويجب أن يصنفا في نفس الخانة .
لقد حاول هذان القطبان، ونجحا إلى حد ما، أن يوهما الشعب السوري بأنه لا خيار أمامه سوى أن يختار أحدهما .
والطبقة المثقفة بما فيها المعارضة ـ للأسف ـ وحتى الآن فشلت في الكشف عن زيف هذا الوهم !
…………
المهم، عندما قرأت مقالة السيد أحمد أبو رتيمة عن دور الإعلام في التقدم الإنساني، راعني كيف يستطيع الإنسان أن يلعب دورين متناقضين ؟!!!
دورا يظهر من خلاله أنه رجل طائفي متطرف بامتياز، ودورا يتظاهر من خلاله بأنه مثقف كبير يعي أهمية دور الإعلام في التقدم الإنساني ؟!!
الأمر الذي دفعني أن أرسل له هذا الجواب :
…….
للمرة الثانية أطلب وبأدب أن تحذفوا عنواني من قائمتكم
تؤمنؤن بالتقدم الإنساني؟؟؟؟؟
وفي الوقت نفسه تحملون طائفة بأكملها جرائم ديكاتور
لم تبخل الطائفة السنية في إنجاب أمثاله؟؟؟؟
أرجوكم لا ترسلوا لي بعد اليوم خزعبلاتكم
التي تجملونها في مقالاتكم وتضمرون كل الشرور في قلوبكم
سأكون شاكرة لو استجبتم لطلبي
وفاء سلطان
……….
فجاءني رده ليتجاوز كل توقعاتي، وليثلج صدري الذي طالما حرقته نار الخوف على مستقبل بلدي :
أختي الفاضلة تحية طيبة وبعد
………………….
تقبلي تحيتي واحترامي واعتذاري
……..
أن يخاطبي السيد أبو رتيمة بـ ” أختي الفاضلة ” لأمر أقدره حق التقدير، وأن يعتذر بوضوح وبجرأة عن ماكتبه لأمر يفوقي قدرتي على تقديره كفاية .
شعرت، وأنا أقرأ رده، بقشعريرة باردة تسربت في كل خلاياي …
لقد منحني إحساسا بالأمان على بلد أعشقه حتى الثمالة .
لا أعرف نوايا السيد أبو رتيمة الحقيقة ولست معنية باثبات صحة تلك النوايا، ولكن اعتذاره ـ لا شك ـ يعكس سماحة أخلاقه، ويعكس قدرته على سماع الصوت الآخر مهما اختلف مع هذا الصوت .
بالصدفة المطلقة قرأت البارحة قولا للمفكر الأمريكي
Eugene Victor Debs
الذي كان مرشح الحزب الإشتراكي للرئاسة في أمريكا عدة مرات، ويعتبر أول من ساهم في تأسيس الإتحاد العمالي العالمي، جاء فيه :
“Years ago I recognized my kinship with all living things, and I made up my mind that I was not one bit better than the meanest on the earth. I said then and I say now, that while there is a lower class, I am in it; while there is a criminal element, I am of it; while there is a soul in prison, I am not free.”
” منذ سنوات مضت، لاحظت صلة القربي التي تربطني بكل الأحياء )أخيارهم وأشرارهم).
ولذلك اقتنعت بأنني لست أفضل من ألئمهم وأخسهم على سطح الأرض .
قلتها من قبل وأقولها الآن : إينما يوجد طبقة وضيعة أنا جزء منها، وأينما يوجد عنصر إجرامي أنا جزء منه، وطالما تنبض روح في إنسان أنا لست حرا “
…………
نعم، لا أحد فينا حرٌ من تعصبه…..
تلك هي الطبيعة البشرية، لكن ما يميزنا عن بعضنا البعض هو الدرجة التي ننصاع بها لهذا التعصب، والدرجة التي نسمح له بها أن يتحكم بقراراتنا وتصرفاتنا.
كما جمعتني بالسيد أحمد أبو رتيمة كلمة ود واعتذار كتبها لي، كذلك تفرقني عن السيد عصام العطار قنبلة زرعها متطرف تحت إشرافه في باص للنقل الداخلي، يغص بفقراء وطنه الذين لا ناقة لهم بالحكم ولا جمل، فأحالتهم أشلاءا.
حقا ، في البدء كانت الكلمة…
ولقد وجدت في كلمات السيد أبو رتيمة بصيص أمل، يعزز إيماني بقدرة النخبة المثقفة من المسلمين على تضميد جروح أمة….
أمة مقهورة حتى النخاع! وفاء سلطان (مفكر حر)؟