السودان وحصاد ثلاثة عقود من حكم الإخوان المسلمين

بقلم بابكر فيصل بابكر/
مرت في الثلاثين من حزيران/يونيو الماضي الذكرى التاسعة والعشرين للانقلاب العسكري الذي دبرته الجبهة القومية الإسلامية (الفرع السوداني لجماعة الإخوان المسلمين) وأطاحت من خلاله بالحكومة الشرعية المنتخبة لتفرض سيطرتها على السلطة لثلاثة عقود، وهي أطول فترة ينالها نظام حكم عسكري أو مدني منذ أن انتزع السودان استقلاله عن المستعمر الإنكليزي في كانون الثاني/يناير 1956.
تبنت الحكومة الانقلابية برنامجا دينيا رساليا يتخطى حدود السودان ويهدف لإحياء الخلافة الإسلامية. وشرعت في تحويل الحرب الأهلية في جنوب السودان لحرب دينية يخوضها النظام تحت مسمى الجهاد الهادف لتثبيت أركان دولة الشريعة الإسلامية، هذا فضلا عن فتح أراضي السودان لقيادات الحركات المتشددة من كل أنحاء العالم بمن فيهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهما.
أثارت التوجهات الرسالية عداوات غير مسبوقة بين السودان وجيرانه، حين قام النظام الانقلابي بدعم الحركات الجهادية في إرتريا وأثيوبيا ومصر من أجل إسقاط الأنظمة الحاكمة في تلك الدول. بل مضى لأبعد من ذلك عندما حاول اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك أثناء حضوره لمؤتمر القمة الأفريقية في أديس أبابا في عام 1995 وهي المحاولة التي اعترف بتفاصيلها عراب النظام الراحل الدكتور حسن الترابي.


أفضت تجربة حكم الإخوان المسلمين للسودان إلى قيام نظام حكم استبدادي شمولي فاسد
أما في الداخل فقد صنع النظام الانقلابي دولة حربية استخبارية من الطراز الأول، أهدرت في ظلها جميع حقوق الإنسان وسلبت الحريات وأشعلت الحروب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. وهي الحروب التي راح ضحيتها مئات الآلاف من البشر وفر الملايين لمخيمات النزوح واللجوء في دول الجوار.
ومن ناحية أخرى، فإن سياسات النظام الانقلابي العدائية قد عزلت السودان عن جواره الإقليمي وعن العالم. ودفعت بالولايات المتحدة الأميركية إلى ضم اسمه لقائمة الدول الراعية للإرهاب، وكذلك فرضت عليه عقوبات اقتصادية ومالية شاملة، وهو الأمر الذي قامت به أيضا العديد من الدول الأوروبية.
كانت نتائج هذه التوجهات الرسالية الطائشة كارثية على البلد وعلى سكانه، حيث أدت إلى انفصال جنوب السودان وإعلان دولته المستقلة في العام 2011. كما أنها سارت باقتصاد البلد نحو الهاوية، مما أدى لهجرة ملايين السودانيين من أصحاب الكفاءات والمؤهلات العلمية بحثا عن لقمة العيش الكريم.
مؤشرات الانهيار الاقتصادي الذي انتهت إليه دولة الإخوان المسلمين الرسالية كثيرة؛ منها التدهور الكبير في قيمة الجنيه السوداني تجاه الدولار الأميركي، فعند استيلاء الحكم الانقلابي على السلطة كان سعر الدولار يساوي 10 جنيهات سودانية، وهو اليوم يساوي 42 ألف جنيه. وكذلك، فإن ديون السودان الخارجية كانت عند مجيء حكومة الإخوان تساوي 13 مليار دولار بينما تصل اليوم إلى 53 مليار دولار.
أما التضخم فقد بلغت نسبته في شهر أيار/مايو الماضي 111 في المئة. ويعيش 47 في المئة من السكان تحت خط الفقر ويحصل 25 في المئة على أقل من 1.25 دولار في اليوم الواحد. ومن جانب آخر فقد ظل اسم السودان يشكل حضورا دائما ضمن أسماء الدول العشر الأكثر فسادا في العالم بحسب مؤشر منظمة الشفافية الدولية.
صنع النظام الانقلابي دولة حربية استخبارية من الطراز الأول، أهدرت في ظلها جميع حقوق الإنسان
وفي الناحية الأخلاقية، كان الفشل أكبر بكثير من النواحي السياسية والاقتصادية، وهنا جوهر المأساة. فمشروع الإخوان المسلمين يطرح موضوع القيم كأساس لجميع شعاراته، ومع ذلك يشهد السودانيون كيف صار الفساد ونهب مال الدولة فعلا عاديا في ظل الحكم الرسالي، إلى جانب الانتشار الواسع للمخدرات وغسيل الأموال وعصابات النهب، فضلا عن الارتفاع غير المسبوق لمعدل الإصابة بمرض الإيدز والاعتداءات الجنسية على الأطفال حتى داخل المساجد!
غير أن النتيجة المهمة في هذا الإطار تتمثل في أن التجربة السودانية أثبتت فشل شعارات الإخوان المسلمين من شاكلة “الإسلام هو الحل” ودعوتهم لتطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية باعتبار أنها ستجلب الحلول السحرية لجميع المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية.
وهذا هو الأمر الذي اعترف به الدكتور حسن الترابي بعد فوات الأوان، حين قال إن “الحركات الإسلامية تريد إقامة دول إسلامية وتطبيق الشريعة ولكنها لا تعرف طريقة إقامة الدولة وشكلها. إن المشروع الإسلامي في الأغلب نظري لا علاقة له بالواقع”. وأضاف الترابي: “يجب أن تأتي كل الحركات الاسلامية في عالمنا بالبرامج المفصلة في كل هموم الحياة، الآن هم مواجهون بالأسئلة الصعبة حول العلاقات الدولية وقضايا الديموقراطية ومعاش الناس، ليت الحركات الإسلامية تخرج من الشعارات المبهمة إلى تقديم مناهج مفصلة”.
قد أفضت تجربة حكم الإخوان المسلمين للسودان إلى قيام نظام حكم استبدادي شمولي فاسد، يقف على رأسه رجل واحد، عمر حسن البشير، طوال 29 عاما، ولا يزال يطمح للبقاء في سدة الحكم إلى أجل غير معلوم، على الرغم من كل التدهور والانهيارات التي شهدتها وتشهدها البلاد في مختلف المجالات.
إن الدرس الأهم الذي يجب استخلاصه من هذه التجربة الطويلة هو أن نظام الحكم المدني الديموقراطي القائم على التعددية السياسية وفصل السلطات وإتاحة الحريات، والمستند إلى فكرة المواطنة كأساس للحقوق والواجبات، هو النظام الأمثل للحكم مهما كانت عيوبه، فإيجابيات هكذا نظام أكثر ـ بما لا يقارن ـ من فوائد أية نظام آخر كما أن السلبيات المرتبطة به هي الأقل من أية نواقص مصاحبة لنظم الحكم الأخرى.

شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.