السمائم المهاجرة

من أوراق الأمس
السمائم المهاجرة
ارتأت كتلةٌ من آلافِ طيورِ السَّمامةِ اللعوبةِ المهاجرةِ جنوباً في رحلتها السنوية بحثاً عن مناطقَ دافئة تقيها موسمَ الشتاءِ القارسِ برياحه و ثلوجه ، ارتأتْ أخذَ المدخنةِ الرئيسيةِ المهجورةِ لمدرسةٍ قديمةٍ وسطَ المدينة، كنزْلٍ مؤقتٍ تحطُّ فيهِ الرحالَ لبضعةِ أيامٍ في شهرِ أيلولَ كلَّ سنةٍ فترتاحُ من عناءِ السَّفَرِ و تتزوّدُ بالطاقةِ اللازمةِ لمتابعةِ رحلتها نحو الشمسِ و الدفء.
كانَتْ تلكَ الطيورُ تنطلقُ مع صباحاتِ أيلول المشمسةِ فَتُقْلِعُ منَ المدرسةِ باكِراً منتشرةً في كلِّ بقاعِ المدينةِ، متراميةً ما بينَ الحقول و المراعي بحثاً عن الطعام .
و في المساء، و مع غروب الشمسِ، تجتمعُ أفواجُ الطيور آلافاً مؤلفةً و متداخلةً لتبدأ رقصةَ المساءِ حيثُ تقومُ بحركاتٍ بهلوانيةٍ رائعة بالهواءِ مشكلةً هالةَ شبحٍ رماديٍّ مُسوَد، متمايل الشكل و متغيِّرالملامح، يكبُرُ و يكبُر بانضمام كافة فلولِ الطيورِ المستبيتةِ فوقَ سُدَّةِ الأفق، فتغدو السماءُ مسرحاً فضيَّ الخشبةِ تتملكُهُ آلافٌ من هذه الطيورِ بينما تغصُّ التلةُ المقابلةُ بالحضورِ متمتعين بنزهةٍ سحريةٍ يتخللها عرضٌ فنيٌّ أخّاذ. و تستمرُّ رقصةُ المساءِ حتى انسكابِ قرصِ الشمسِ كليّاً في كفِّ الأُفُقْ .
أما مسكُ الختامِ فهو عمليةُ المبيتِ ، حيثُ تقومُ أسرابُ الطيورِ الراهفةِ المَرِحَة بحركاتٍ دائريةٍ حلزونيةٍ محيطُها أفقُ السماءِ و مركزها قمةُ تلك المدخنةِ فتخلقُ فراغاً هوائياً يساعدها على الرصدِ المحكمِ للمكانِ فتبدأ بالهبوطِ الى فتحةِ المدخنةِ بانسيابٍ طبيعيٍّ و بدونِ جهدٍ يُذْكَر فتغدوا كوكبةُ الطيورِ و كأنها دخانٌ منبثقٌ من المدخنة و متناثرٌ في السماء.
اقترن نزولُ آخرِ الطيورِ إلى المدخنةِ مع تلاشي آخرِ شعاعٍ ذهبيٍّ للشمسِ فوق الأفق .
عندها لاحَ من بعيدٍ طائرٌ متربِّصٌ جائعٌ عريضُ الأجنحةِ عرض السماء، جعلَ من مساحاتِ الفضاءِ ملعباً لفنونِ تحليقه، أتى باحثاً عن فريسةٍ تكونُ لهُ غذاء اليوم، بعد أن أصابهُ الإحباطُ لعدمِ تمكُّنهِ من افتراسِ أيةِ غنيمةٍ قبيلَ حلولِ المساء ، فبدأ يقتربُ بهدوءٍ نحو قمةِ المدخنة، فقد جاءَ تابعاً حواسه الملتهبة من نظرٍ حادٍ، وشمٍّ حساسٍ راجياً أن تغلبَ عليهما حاسةُ الذوقِ سريعاً.
لقد تخيَّل الطائرُ المتعجرفُ أنهُ يستطيعُ النيلَ من ايٍِّ من تلكَ الطيورِ الأليفةِ الهَشَّة سريعةِ العطب، فانقضَّ بشراسةٍ و تكبُّر ظَنّاً أنه هوَ الآمرُ الناهي ملك السماء و سَيّد الأرض و هو يقرِّر أيّّ من تللكَ الطيورِ الضعيفةِ ستكونُ له طعام العشاء، فانقضَّ على مدخنةِ المدرسةِ العملاقة، عندها حبسَ كلُّ الحضورِ أنفاسهم و مضت ثوان صامتة مليئة بالترقب و الظنون وكأنها سنون.
و فجأة خرج الطائر المغرور متخبطا بجناحيهِ فاقداً قدرتهُ على التحليقِ السريعِ و كأنَّهُ قد نسيَ فنونَ الطيران ، محاولاً الهروب كفأرٍ مذعور .
لقد غدا الصيّاد هو الطريدة فها هو يحاولُ الطيرانِ وقد فقد وجهتهُ و ضاعتْ ناصيته مستجدياً النجاة .
كانت أعين الحضورِ تترقّبُ المدخنةَ متسائلةً أيّ مخلوقٍ عملاقٍ قد أنزلَ بهذا الطائرِ المتكبِّرِ الخوف و أجبره على الفرار ؟
فجأة ، و إذ بوابلْ غاضبْ من تلكَ الطيورِ تنبثقُ معاً من فوهةِ المدخنةِ كبركانٍ متمرِّد و قد شكلت عملاقاً متحركاً خرج من المدخنة كما يخرجُ الماردُ من فوهةِ الزجاجةِ متعقباً ذاك المخلوقِ المهزومِ و كلما ابتعدَ ذلك الطائر كلما تغلّبت عليه غريزةُ الجوعِ فإذ به يعاود الكرة مرَّة أخرى راجياً نتيجةً مختلفة، و ها هي الطيورُ الصغيرةُ له بالمرصاد إلى أن أُصيب بالخيبة و الهوان فتركَ المكانَ و فرَّ مهزوماً حتى اختفى ما بعد خط الأفق.
عندها تعالت هتافات الحضور، تصفيقهم و تهليلهم لهؤلاءِ الطيورِ الصغيرة، كيف استطاعوا باتحادِهم و نبذِ الذاتِ أن يهزموا طائر متغطرس.
تلك الحادثة دعتني أنبش من دفاترِ الماضي و أوراقِ الذكريات، مع اختلاف الزمان و المكان، أكثر من أربعين سنة و أبعد من آلاف الأميال، أعادتني طفلاً في الصف الرابع و أمامي كتابُ القرائةِ أما النصُّ فكان عن شيخٍ مُسِنٍّ على فراشِ الموتِ و قد دعا أولادَه الثلاثة فأمر كل منهم بكسر حزمةٍ من عيدانِ الشجرِ فلم يستطعْ احدٌ ذلك، ثم حلَّ الحزمةَ و أعطى كلَّ ولدٍ عوداً واحداً فكسرَ كلٌ منهم العود بسهولة عندها قال الشيخ الحكيم وصيته لأبنائه و كانت آخر كلمات تلفَّظَ بها قبيل وفاته ً اتَّحدوا فبالإتِّحادِ قوة، و يد الله مع الجماعة ً .
الأرقش
أيلول 2011

swallo1

About الأرقش

كاتب وطيبيب سوري يعيش بأميركا
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.