حتى يشعر المكتئب بالسعادة يهرب إلى ممارسة اللذة والانغماس في الشهوات مثل ممارسة الجنس أو ممارسة التهام الطعام,وهذه حقيقة علمية, ولكننا في بيئتنا استنفذنا كل تلك الخيارات فلم نعد نتلذذ لا بالأكل ولا بالشرب ولا بالجنس الذي أصبح في الآونة الأخيرة لا يخطر على بالي ولا حتى في الأعياد أو المناسبات الوطنية,لذلك اتجهت إلى الانغماس في النوم.. كنت ليلة الأمس أغط في نومٍ عميق, آهٍ ما أجمل النوم, وآهٍ ما أجمل الحلم, كنت سعيدا بتلك الليلة حيث غمرتني السعادة إلى أبعد حدود, وكلما جاء الوقت لاستيقاظي كنت أهربُ محاولا البقاء في النوم لوقت أطول, كنتُ أعرف بأنني سعيد لأنني أحلم, وثمة أمرٌ مدهش وهو أنني لم أكن أرى في الحلم مشاهد مثيرة للسعادة, ولكن على أبلغ تقدير كنتُ أشعر بالسعادة وبالفرحة, كان هذا مجرد شعور وإحساس بالغ الأثر.. كنت أشعر بسعادةٍ لم أشعر بمثلها من قبل, كنت أشعرُ بنشوة وبراحة أبدية..كنت أعرف بأن هذا ليس حقيقة,إن الحقيقة تقول غير ذلك,الحقيقة تقول أننا تعساء على أرض الواقع وما من شيء يجعلنا في هذه الدنيا سعداء سوى حلم يستمر لعدة ثوانٍ فقط لا غير.. كنت أعرف بأن هذا وهمْ…وهمْ…وهمْ.., كنت أعرف بأن الواقع مرٌ جدا وطعمه مثل الزفت أو ورق الدُفلى, ولكنني كنت مع كل هذا مصرٌ على إغماض عينيا للبقاء فترة أطول ثم أطول, كنت أحاول أن أبقى نائما وكلما شعرت باليقظة كلما حاولت إغماض عينيا أكثر, أنا لا أريد أن أعود إلى أرض الواقع, لا أريد بأن يأخذني أحدٌ من حُلمي الطويل,حلمي المدهش.. أنا لا أريد الحقيقة, لا أريد أن يذكرني أحد بحياتي الواقعية, الحلم والنوم بالنسبة لي أفضل بكثير من الحياة على أرض الواقع , ها هم الناس الذين يعيشون على أرض الواقع يبدون في حالة سيئة , قسماتُ وجههم تنبئ عن خللٍ كبير في حياتهم, الحياة عندنا في مجتمعنا لا تستحق الجهد والمثابرة والمكابرة, كل شيء عندنا فيه تدخلٌ من جهات غامضة, جمع المال غير ممكن من خلال العمل أو من خلال أي شيء آخر, في هذا البلد الذي نعيش فيه لا يمكن أن نجد قانونا يحمينا أو حكومة تهتم بنا, أو مؤسسات ترعانا وترعى مصالحنا وتحافظ عليها وعلينا, لا يمكن في هذا البلد أن تكون إنسانا ناجحا بكثرة العمل, بل هناك جهات خفية تلعب فينا, الكل هنا يلعب فينا وفي حياتنا, ويوجد عندنا فساد كبير ولكن المشكلة أن الفساد الذي عندنا خالي من المفسدين, وليس لدينا أي شعور بالسعادة إلا أن نرى السعادة حلما لتخلصنا من الكوابيس التي نشاهدها على أرض الواقع, في بيئتنا المقفرة جدا الحياة مقلوبة رأسا على عقِب, فكل شعوب العالم تشاهدُ الكوابيس في أحلامها فقط لا غير, وتشاهد السعادة وتشعر فيها على أرض الواقع, إلا نحن نشاهد الكوابيس على أرض الواقع والسعادة فقط في أحلامنا, لذلك بقيت مصرا على النوم لأطول وقت.
وأثناء نومي جاءت قطتي البيضاء عند رأسي, وبدأت تداعب أنفي وأنا نائم, فقلت لها بصوت خافت جدا: ليس الآن, أغربي عن وجهي, ألا تعرفين بأنني الآن أحلم بالسعادة؟ كانت على ما يبدو تقترب مني (ميو ميو ميو) لكي أفتح لها باب الدار لتخرج خارج البيت, فقلت لها مرة أخرى: ليس الآن, هيا أذهبي واغربي عن وجهي, أنا أحلم أنا أحلم, مرت عليّ الدقائق والساعات وأنا أحلم وسعيد جدا في نومي, وبدأ الضوء بالهجوم على الظلام جاعلا من غرفتي مساحة كبيرة للنور, كنت أشعر بهذا النور ولكن كنت أقول لنفسي: لا تستجب لهذه الخزعبلات حاول يا صديقي أن تنام أكثر, كنت أغرقُ في النوم, أغرق في الحلم, الحلم الذي ينسيني موطني وبلدي وأهلي, الحلم الذي ينسيني كم أنا تعيس بين هؤلاء المجانين الذين أعيش معهم, هؤلاء الذين جعلوا واقعي مليئا بالكوابيس, هؤلاء الجهلة والأغبياء من الناس الذين لا يعرفون ثلث الثلاثة ولا حتى ربع الأربعة ولا خمس الخمسة.
في واقعنا الذي نعيشه الجهل يزداد توسعا في كل يوم,والجهلاء يزدادون ويغلبون الأذكياء بالعُدة وبالعِتاد , فقهاء الحيض والنفاس يقال عنهم بأنهم علماء أجلاء,فكيف ستعرف السعادة طريقها إلينا ونحن نعيش مع هؤلاء الجهلاء؟؟!!!!!!, الواقع الذي نعيشه لا يمكن لي أن أصوره لكم مهما أوتيت من قوة وبلاغة في اللغة, كل علماء الكلام واللغة عاجزون عن وصف التعاسة التي نعيش فيها,لا تكفينا قصيدة واحدة ولا يكفينا ديوان شعر واحد لوصف التفاهة التي نعيش فيها,كل علماء التكنولوجيا عاجزون عن صنع جهازٍ لنا يجعلنا سعداء,القتل في الشوارع أصبح طريقة حياة, والفساد طريقة حياة أخرى , وكل فصحاء الكوميديا السوداء والبيضاء عاجزون عن وصف الفساد الذي يسيطر علينا, هؤلاء الكموديون لا يستطيعوا إضحاكنا, جاري أبو سمر قال لي قبل شهر: عندي استعداد لدفع مليون دولار أمريكي لأي ممثل كوميدي شريطة أن يجعلني أضحك, فقلت له والدمعة تكاد أن تسقط من عيني: ولا حتى كتاباتي الساخرة؟ فقال: أبداً, وكل المهرجين لا يستطيعوا أن يجعلوا أسنانا تظهر من شدة الضحك, أسناننا لا تظهر إلا عند الفرشاة ومعجون الأسنان, وأفواهنا مغلقة لا نفتحها إلا للطعام أو عند طبيب الأسنان, وأقسم بما أنجبت الصحراء من طغاة وأفاكين ودجالين ونصابين وجهلاء بأن جاري(مهند) كان دائم الضحك, وأنا لم أره يوما إلا وكان متبسما ومع ذلك منذ عدة أشهر اختفت الابتسامة من وجهه مطلقا ولم أسأله أين اختفت تلك الابتسامات العريضة لأنني أعرف الحقيقة أكثر منه.. السعادة عندنا حلم,مجرد حلم.