السر يا بنيتي أن تتبعي حدسك وأحاسيسك كأم

sultanagrandfilleكانت رحلة ولا أجمل….
كلفتني عشر ساعات سواقة ذهابا وإيابا…
ورغم جمال الطريق أفقدتني لهفة الوصول الكثير من الإحساس بذلك الجمال…
قضيت بضعة أيام أحتفل بعيد الحب مع بنجي وجازي، وياله من عيد!
والداهما سافرا إلى لاس فيغاس ليحتفلا به على طريقتهما، وتركاني مع ملاكين لأحتفل به على طريقتي…
….
تركت لي ابنتي قائمة بما يجوز ومالا يجوز…
بنجي ازداد وزنه فوق المعدل العام للأطفال في عمره، أرجوك يا أماه
أن لا تعطيه الحليب الكامل الدسم..
فقط نصف موزة مع الإفطار..
عصير فواكه غير مضاف إليه السكر…
لا آيس كريم….لا بيتزا….لا همبورغر…لا هوت دوغ…
انتبهي في الحديقة العامة فهو يركض بدون انتباه..
لا تدعيه يعربش على القضبان بمفرده، لا تدعيه يتزحلق بمفرده…
لا تشترِ لهم لعبا، لم يعد لدينا مكانا لنحتفظ بهم!
لا…لا…لا…
تطول القائمة ولا تنتهي…
….
ألقيت بالقائمة في سلة المهملات…
وكسرنا كل القيود…
شربنا حليبا كامل الدسم، وأكلنا آيس كريم وبيتزا وهمبورغر، وكل ما وقعت عليه عين بنجي…
تعربش بمفرده، وتزحلق بمفرده، وركض بمفرده، وبقيت أراقب من بعيد وأضحك على قوائم الامهات…
زرنا متجرا للألعاب واشتريت لهما ما اختاراه…
سمحت له ولأخته أن يمارسا داعشيتهما، ويقطعا رؤوس اللعب وأطرافها من خلاف، دون أن أكترث!
….
فعلت ذلك لسببين لا ثالث لهما:
ـ الجدة تأمر ولا تؤمر!
ـ ديكتاتورية الجدة كديكتاتورية الله، كلاهما فرض وليسا خيارا!
فالتربية بالنسبة للجدة، وبعد أن تدربت بتربية أولادها، التربية بالنسبة لها تتم بالحدس ووفقا للأحاسيس الدفينة بما هو صح وما هو خطأ، ولا تتم وفقا للقوائم!
هناك عامل مشترك بين الجريمة والإبداع…
كلاهما كسر للقيود وتجاوز للأعراف…
الإبداع بدافع الحب، والجريمة بدافع الكره، ولذلك شتان بين الاثنين….

سألتني مرّة ابنتي: ماما، يبدو أنك ربيتينا بطريقة أسهل وأقلّ تعقيدا مما يتحتّم عليّ أن افعله مع جازي وبنجي، ما السر؟
ـ السر يا بنيتي أن تتبعي حدسك وأحاسيسك كأم، وتربي بطريقة عفوية تلقائية دون توتر واستنفار…
هذا السر لا ينطبق على التربية وحسب، بل على كل شيء في الحياة..
الحياة يجب أن تعاش بطريقة تلقائية عفوية دون توتر…
كلما واجهناها بسلام وسكينة كلما عشناها بمتعة وبلا تحديات…
عندما نتوتر، لسبب أو لآخر، يخلق التوتر لدينا نوعا من الطاقة السلبية التي تصطدم بكل شيء نصادفه حتى لو كان حقلا من الزهور…
يفقدنا التوتر، أيا كان نوعه، قدرتنا على أن نملك إحساسا بالهدوء والطمأنينة، فينقلنا من وضع سيء إلى وضع أسوأ…
ليس هذا وحسب، فالتوتر ينتقل بالعدوى، تلك حقيقة فلسفية وعلمية في آن واحد…
لقد أثبتت التجارب والدراسات أن الناس المتوترين يساهمون في توتير من حولهم!
وتأتي الحقيقة الفلسفية لتؤكد أن نوع الطاقة التي يملكها الإنسان يتوقف على الحالة العقلية التي يعشها، ومن ثم يشع تلك الطاقة أيا كان نوعها، يشعها كي يمتصها الناس من حوله..
من كان في وضع عقلي مسترخي وهادئ يشع طاقة ايجابية تبث في الآخرين من حوله العزم والنشاط..
ومن كان عقله في حالة تأزم واستنفار يشع طاقة سلبية تستنزف عزيمته وعزيمة الآخرين من حوله..
….
في كتابه
Change your thoughts Change your life
(غيّر أفكارك تغيّر حياتك)

يقول المفكر والفيلسوف الأمريكي
Wayne Dyer:

(كن كالنهر ينساب ولا يُقاوم….
يدخل في الشقوق ويمر من فوق الصخور ويجد دوما طريقه إلى المصب بعفوية وانسيابية…)
ويركّز في الكتاب نفسه على مبدأ ال
Daosim
(الداويّة)، وهي فلسفة صينية عمرها أكثر من ثلاثة آلاف عام…

ذلك المبدأ الذي ينحصر في عبارة قصيرة واحدة:
Let it go!

أي (لا تتمسك بشيء)، وهو يقصد لا تقبض على أي حدث بطريقة عصبية، ولا تتشبث بأية قضية…
كن مرنا ودع الأمور تأخذ مجراها بعفوية حتى تجد نفسك عند “المصب” الذي تهدفه بلا تعب ولا استنزاف!
….
لدينا في أجسادنا مؤشر حساس جدا للتوتر والإنفعالات، تتحرك ابرته نحو الأعلى أمام أصغر وأتفه الصعوبات، وكلما ارتفعت تلك الابرة إلى الأعلى كلما استنزفت بعضا من طاقتنا الإيجابية، وقللت من احتمال انجازنا لأعمالنا بابداع…
لا أستطيع أن أكتب حرفا مالم يكن ذلك المؤشر بمستوى الصفر!
أي مالم أكن في حالة سكينة تماثل سكينة طفل نائم….
….
كنت ولم أزل اؤمن بأن النجاح على أي صعيد أسهل بكثير من الفشل..
النجاح لا يحتاج إلى جهود بل إلى قدرة على ضبط النفس والحفاظ على سلامة الأعصاب، أما الفشل فلا يتغلب علينا حتى يستنزفنا من كل طاقة…
هناك مثل أمريكي يقول: إذا كانت المطرقة الآداة الوحيدة في يدك، سترى كل شيء مسمارا!
نعم، عندما تتأهب لتطرق، سترى كل شيء قابلا للطرق، وستزرع الحياة مساميرها في كل خطوة من طريقك…
وهناك مثل آخر يقول:
Love your work and you will never work،
عندما تحب عملك لن تعمل!

المقصود أنه عندما تمارس عملك بحب، لن تبذل جهدا كي تنجزه، وسيصبح مع الزمن طريقة حياة تجري بهدوء وانسيابية إلى المصب الذي تبغاه…
الحفاظ على سكينتك وهدوء أعصابك مهارة وفن…
تزداد مهارتك ويزداد اتقانك لهذا الفن كلما مارست مهامك بوعي وبحب وبهدوء، متجاهلا ضغط اللحظة ومتمسكا برضاك عنها مهما كانت صعبة…
……..
أكبر أنواع الضغوط اليومية في أمريكا هي دفع الفواتير، وقوائمها أطول بكثير من القائمة التي تركتها لي ابنتي بخصوص الاعتناء بولديها…
في محاولة للتخفيف من تلك الضغوط ومواجهتها بهدوء، تقول الكاتبة الأمريكة
Louise Hay،

في كتابها:
You can heal your life
(تستطيع أن تلئم جروح حياتك)، تقول:

(عندما تستلم فاتورة في البريد افتحها وقبلها برضى، ثم اكتب شيكا بالمبلغ وارسله قبل الموعد المحدد وانتعش لأنك أكملت مهمة لهذا اليوم!!
وتتابع قولها: (انجز مهامك بحب وبلا توتر!
عندما تفعل ذلك تمشي في الحياة بلا اصطدامات وبكامل طاقتك، الأمر الذي يقودك من نجاح إلى آخر…)
….
نعم لدي قناعة مطلقة من أن الكون لا يعطيك مالم تكن في وضع يؤهلك لتستلم…
وخير الأوضاع الإسترخاء إلى حد السكينة..
الخير يتجنب الأشخاص المتوترين، ويبحث دائما عمن ينساب كالنهر بعفوية وتلقائية كي يساعده للوصول إلى المصب!
….
القوائم الحديّة وتطبيقها بحذافيرها يثير التوتر، ويمنعك من أن تعيش اللحظة بسلام…
لذلك ضربت بقائمة ابنتي عرض الحائط وعشت عيدا للحب ولا أجمل…
عادت جازي وبنجي إلى معتقلهما، وأنا عدت إلى حريتي….
استمعت في طريق العودة برحلة طولها ثلاثمائة ميل، غرقت خلالها بالجمال الصارخ المحيط بكلا الطرفين..
وعدت لأمارس حياتي بلا “قوائم” وبهدوء وسكينة يحسدني عليها طفل نائم…..

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.