بعد قراءتي للدراسة التاريخية التي قدمها لنا الكاتب ( آرثر كويستلر ) عن يهود مملكة الخزر , أقرر وإستناداً الى القرآن الكريم وهو مرجعنا الأول كمسلمين عرب , أن تسمية هذه الدراسة تترجم الى العربية تحت عنوان : (( السبط الثالث عشر )) وليس القبيلة الثالثة عشرة , لأننا نبتغي ترجمة معنى العنوان .. لا ترجمة مبناه .
ورد في سورة الأعراف قوله تعالى (( وقطّعناهم إثنتي عشرة أسباطاً أمما وأوحينا الى موسى إذ إستسقاه قومه أن إضرب بعصاك الحجر فإنبجست منه إثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسَهم يظلمون )) .
وللإستزادة فإن مؤلف هذه الدراسة آرثر كويستلر كان قد أهداها الى ناشر الكتاب بالكلمات التالية : (( الى هارولد هاريس .. الناشر الذي لم أخالفه أبداً , وهو الذي قام بإقتراح عنوان هذا الكتاب )) .
بداية نتساءل : من هم الأسباط ؟ والجواب إنهم أولاد يعقوب الذين تكلم عنهم المفسرون وثبتوا أسماءهم كالتالي : ( روبيل , شمعون , لاوي , يهوذا , زيالون , يشجر ) وهؤلاء أمهم ليا بنت ليان خال يعقوب . أما ( دان , نفتالي , جاد , أشر ) فقد ولدوا ليعقوب من سريتين من سراياه وحين ماتت زوجته ليا تزوج أختها راحيل التي أنجبت له ( يوسف , بنيامين ) .
حسب العقيدة اليهودية .. فإن كل اليهود الذين عاشوا في مصر قبل العبور كانوا من أولاد وأحفاد يعقوب .. وأن هذه المجموعة البشرية هي التي عبرت مع النبي موسى عليه السلام الى فلسطين فتم تسميتهم بالعبرانيين الذين إنقسموا الى إثني عشر سبطاً , أي فرعاً من قبيلة , تنتمي كلها الى النبي يعقوب عليه السلام .. إذن من أين سيأتي السبط الثالث عشر موضوع كتاب آرثر كويستلر ؟ هذا ما سنعرفه بعد أن نتعرف على الكاتب .
قبل الدخول الى هذه الدراسة نتعرف أولا على المؤلف آرثر كويستلر الذي تذكرني صورته بصورة أستاذي وأبي الروحي ( الأستاذ الدكتور عناد غزوان إسماعيل ) يرحمه الله الذي أفتخر أنه كان أستاذي ومشرف أطروحتي في مرحلة الدكتوراه , والذي كان علمه وخلقه الكريم , خير نبراس لي في محنة البحث , وتجربة الحياة .
ولد آرثر كويستلر في بوداپست عام 1905 لعائلة يهودية هنگارية , درس سنواته الأولى في هنگاريا , ثم أتم دراسته في النمسا , وعمل مبكراً من حياته في مهنة المتاعب .. الصحافة .
وصل كويستلر الى فلسطين عام 1926 وعاش لأسابيع قصيرة في ( كيبوتز ) لكن أعضاء ذلك الكيبوتز رفضوا عمله معهم ولهذا بقي في الشهور التالية يعمل بأي عمل ليسد مصروفه متنقلاً بين حيفا وتل أبيب والقدس , عانى حينها من الجوع وتألم لذلك غادر فلسطين عام 1927 وذهب الى برلين حيث حصل هناك على عمل كمراسل صحيفة يعمل في الشرق الأوسط , فعاد الى القدس بوظيفته وكتب خلال سنتين العديد من المقالات والبحوث السياسية وأجرى العديد من المقابلات مع رؤساء وملوك ورؤساء وزارات في الشرق الأوسط .
تنقل في عمله ما بين باريس وألمانيا حيث قام عام 1932 بالإنتساب للحزب الشيوعي الألماني وألف كتابا عن الخطة السوفييتية الخمسية لم يتفق مع رأي السلطات السوفييتية ولذلك لم ينشر إطلاقاً .
عام 1935 تزوج من الناشطة الشيوعية دوروثي آسچر لكنهما تطلقا عام 1937 . عمل كمراسل حربي أثناء الحرب الإسپانية فتم إعتقاله وسجن 4 أشهر وحكم عليه بالموت ثم تمت مبادلته مع أسرى من الطرف الآخر فأطلق سراحه .
حين عاد الى پاريس قام مع مؤلفين آخرين بإصدار ( إنسكلوبيديا المعرفة الجنسية ) وفي نفس العام إنتهى من كتابة روايته ( المصارعون ) . عام 1938 إستقال من الحزب الشيوعي لأنه وحسب وصفه قد ( خيب أمله ) وفي العام 1941 نشر روايته المدمرة ضد الشيوعية ( ظلام عند الظهيرة ) التي جلبت له شهرة عالمية واسعة وترجمت الى 33 لغة .
دخل الى بريطانيا كمهاجر غير شرعي عام 1940 فتم إعتقاله , وحين إشتهرت رواية ظلام عند الظهيرة , أطلق سراحه فتطوع في الجيش البريطاني .
عام 1944 سافر الى فلسطين وهناك إلتقى بزعيم عصابة الأرگون ( مناحيم بيگن ) الذي كان مطلوباً للحكومة البريطانية التي تحكم فلسطين والتي وضعت مكافأة مقدارها 500 جنيه إسترليني لمن يدل عليه , وقد حاول إقناع بيگن وقتها بنبذ الإرهاب والقبول بوجود دولتين على أرض فلسطين . كتب كويستلرعن ذلك بعد سنوات في مذكراته يقول : (( حين إنتهى اللقاء , لاحظت كم كنت غشيماً بتصوري أن مجادلتي يمكن أن تحظى بأدنى إهتمام )) .
بقي كويستلر في فلسطين حتى عام 1945 يجمع مادة لكتابه التالي الذي عنوانه ( لصوص في الظلام ) ثم عـاد الى إنكلترا حيث كانت ( ماميان پيگت ) التي ستصبح زوجته الثانية .
لتسليط الضوء على آرائه كيهودي بخصوص تأسيس الوطن العبري لليهود , فهو يرى أن من حق اليهود أن يعيشوا في إسرائيل , ولكنه ليس حق تمنحه لهم الأسطورة الدينية كأرض ميعاد ولكن .. كحق منحته منظمة الأمم المتحدة حين أقرت قرار تقسيم فلسطين , لأن اليهود لو كانوا سيعودون الى فلسطين بإعتبارهم ( عبرانيين ) و ( شعب الله المختار ) وبإعتبار فلسطين أرض الميعاد فهذا سيعني حتما ً أن يهود أوربا الأشكناز ليس من حقهم أن يعيشوا في إسرائيل لأن لا علاقة لهم بأسباط يعقوب الإثني عشر الذين عبروا مع موسى من مصر الى فلسطين بل هم قوم مختلفون .. وهذا هو موضوع كتابه ( السبط الثالث عشر ) الذي قام بنشره عام 1976 .
الكتاب مكون من 246 صفحة من قطع كبير المتوسط يحتوي على الفصول التالية :
# إزدهار وسقوط الدولة الخزرية .
# تراث الدولة الخزرية .
# التذييلات والمصادر والمراجع .
الإمبراطورية الخزرية القديمة كانت إمبراطورية قوية تكاد تكون منسية اليوم في أوربا الشرقية , أهلها من القبائل الآرية التركية الوثنية ، إضطروا الى إعتناق اليهودية عام 740 ميلادية حتى يضمنوا لأنفسهم أن لا تعتدي عليهم الممالك المسلمة والمسيحية المحيطة بهم , لأنهم ليسوا من أهل التوحيد . سقطت دولتهم حين هاجمها جنكيز خان فقتل منهم من قتل .. أما البقية فقد هاجروا الى وسط أوربا , ويعدهم المؤرخون أسـلاف اليهود الأوربيين المعاصرين ( الأشكناز ) .
كان للخزر نفوذ يمتد من البحر الأسود إلى بحر قزوين ، ومن جبال القوقاز الى نهر الفولغا ، وكان لهم دور فعال في وقف هجوم المسلمين ضد بيزنطة ، تحركوا في موجات كبيرة للهجرة الى الغرب فوصلوا الى شمال أفريقيا وأسبانيا .
في الجزء الثاني من الكتاب يناقش كويستلر التأثيرات التي طرأت على التراث الإجتماعي والتركيبة العرقية لهولاء الخزر عند هجرتهم الى بولندا وليتوانيا بسبب الهجوم المغولي , تلك التأثيرات التي كتبت عنها العديد من الكتب التي تدعم رأي كويسلر .
كما يستنتج الكاتب صحة الأدلة المقدمة من قبل مؤرخين نمساويين أو بولنديين أو حتى إسرائيليين , وفي بحوث مستقلة عن بعضها , بأن اليهود القادمين الى إسرائيل من أوربا لم يكونوا يوماً من أهل فلسطين .. بل هم قوقاز .
ثم يذكر كويستلر بأن التيار الرئيسي للهجرات اليهودية لم يتدفق من غرب أوربا عبر فرنسا وألمانيا إلى شرق أوربا , لكن تيار الهجرة تحرك من الشرق الى الغرب بإستمرار .. من القوقاز عن طريق أوكرانيا الى بولندا ثم أوربا الوسطى . وعندما حدثت الهجرة اليهودية الكبرى الى بولندا خرجت الى حيز الوجود أعداد من اليهود لم تكن موجودة أصلا في كل أوربا الغربية , بل هم أحفاد الخزر جاؤوا من القوقاز منتقلين عبر الحدود .
اليهود في الوقت الحالي مكونون من فئتين : السفارديم والأشكناز . السفارديم هم من نسل اليهود الذين عاشوا منذ القدم في إسبانيا التي تسمى بالعبرية ( بلاد سفاراد ) الى أن تم طردهم منها نهاية القرن 15 فهاجروا الى الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط وحوض البلقان وبعض دول أوربا الغربية , وكانوا يتحدثون العبرية باللهجة الإسبانية ( لادينو ) وكان تعداد السفارديم في ستينات القرن الماضي نصف مليون نسمة , أما الأشكناز فكان تعداددهم 11 مليون نسمة ولغتهم هي ( يدش ) وبسبب أغلبيتهم على السفارديم أصبحت كلمة أشكنازي مرادفة لكلمة يهودي . يقول كويسلتلر عن ذلك : (( إن قصة إمبراطورية الخزر التي تتكشف ببطء عن الماضي .. تبدو وكأنها خدعة قاسية لم يقم التاريخ بمثلها قط )) .
التاريخ الأشكنازي كان معروفا ومحترماً في الإتحاد السوفييتي السابق حيث كانت المليشيات الأشكنازية تحرس ( بيروبيدجان ) الواقعة شرق سبيريا والتي تقدر مساحتها بكبر مساحة سويسرا , وهي محصورة بين نهر آمور من جهة والصين ومنغوليا من جهة أخرى والتي بدأ الأشكناز في حوالي العام 1928 ببناء المستوطنات فيها بمساعدة الحكومة السوفييتية , وفي العام 1934 بدأت لغتهم ( يدش ) تعتبر لغة رسمية الى جانب اللغة الروسية , وتم منحهم الحكم الذاتي في هذه الجمهورية المستقلة القائمة الى حد اليوم والتي تمنح الملاذ الآمن لأي أشكنازي يرغب في ممارسة ( حقه في العودة ) الى بيروبيدجان .
نعود الى آرثر كويستلر عام 1983 وقد أصبح شيخاً في 78 من العمر , بكل هذه التجربة العريضة في الصحافة والأدب .. وبكل تفاصيل حياته المليئة بالنضال من أجل تحقيق هدف .. والذي يعني أنه شخص يمتلك الشجاعة للوقوف بوجه أقسى الصعاب دون أن يتخلى عن الحياة بسهولة .
يوم 3 / 3 / 1983 وجد آرثر كويستلر مع زوجته (( منتحران )) بجرعة كبيرة من الحبوب المهدئة تم إبتلاعها بواسطة الكحول .. وبعد الكشف على الجثتين كان قد تبين أنهما إنتحرا منذ يومين . وقد ترك المرحوم رسالة يقول فيها إنهما هو وزوجته إنتحرا بمحض إرادتهما ودون مساعدة أحد . لكن كثيرين يقولون أن ذلك الإنتحار كان ( بمساعدة ) الموساد .
ترك كويستلر ثروة تقدر بمليون جنيه إسترليني أوصى بأن تستخدم لإستحداث تخصص تدريس الباراسايكولوجي في إحدى الجامعات البريطانية , فقبلت جامعة إيدنبرگ هذا العرض وحققت للراحل أمنيته . ميسون البياتي – مفكر حر؟