ما حفزني على الكتابه عن ناجي العلي هو أن الشرطه البريطانيه اسكوتلانديارد قد أعادت فتح ملف التحقيق في قضية مقتله بعد أكثر من 30 عاماً على الحادثه , لتسمية القاتل الذي نعرفه كلنا وكنا بحاجه الى توثيق إسمه رسمياً كقاتل
تقرر أنه في يوم الثاني من ديسمبر 1991 سيعرض الفيلم المصري ( ناجي العلي ) الفيلم سيناريو بشير الديك وإخراج عاطف الطيب وبطولة نور الشريف , ويقال إن العقيد معمر القذافي هو ممول إنتاج الفيلم , حال الإعلان عن ذلك اتصل ياسر عرفات بحسني مبارك معترضاً بأن الفيلم قد يمسه شخصياً ولهذا قام مبارك بتكليف شخص ما لمشاهدة الفيلم للتأكد من أنه لا يمس ياسر عرفات
بعد معاينة الفيلم سُمح بعرضه , وهو فيلم هزيل تحدث عن قضية ناجي العلي تلميحاً لا تصريحاً , ولم يكن مهتماً بناجي العلي نفسه أكثر من إهتمامه بتصوير أحداث مخيم عين الحلوه في لبنان لما فيها من أكشن .. قنابل على تفجيرات على حرائق كان من الممكن التوسع بها بهذه الطريقه لو كان الفيلم عن مخيم عين الحلوه , أما وأن الفيلم عن ناجي العلي فالأمر مختلف تماماً
قضية الخلاف الجوهريه بين ناجي العلي وياسر عرفات أوجزها الفيلم بمشهد صامت واحد مدته عدة ثواني حين أظهر ناجي العلي وهو يرسم كاريكاتير : الممثل الشرعي , ويقصد به منظمة التحرير الفلسطينيه التي جعلها جمال عبد الناصر الممثل الشرعي والوحيد للكفاح الفلسطيني
في مؤتمر القمة العربي في القاهرة 1964 الذي دعا إليه جمال عبد الناصر تم تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وتكليف ممثل فلسطين في القمه أحمد الشقيري بترؤسها . وفي مؤتمر قمة الخرطوم 1967 بعد هزيمة حزيران ألقى الشقيري خطاباً تضمن 4 لاءات هي : لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف باسرائيل ولا انفراد لدولة عربية بالحل , ثم هاجم القادة العرب دون أن يسميهم وحمّلهم مسؤولية ضياع الباقي من فلسطين . تم إجبار أحمد الشقيري على الإستقاله بعد 6 أيام من خطابه هذا
جيء بيحيى حمودة أحد أعضاء المنظمه ليُعيّن رئيساً للمنظمة بالوكاله لمدة عامين . نقلت صحيفة النهار اللبنانية في 3 يناير1968 حديث يحيى حموده الذي قال فيه : تجب مواجهة الأمور وعدم المطالبة بالمستحيل ، ودعوة اليهود للتعايش مع الفلسطينيين في دولة واحده ودعوه الى اقتسام فلسطين بين اليهود والعرب مؤكداً أنه داعم للسلام ورافض للحرب
إستمر يحى حموده رئيساً بالوكاله مدة عامين ثم جيء من الكويت بالمصري من أصل مغربي ياسر عرفات الذي تربطه علاقه عرضيه بفلسطين لجعله رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينيه , وجعل المنظمه هي الممثل الشرعي والوحيد للكفاح الفلسطيني المسلح , وكان عرفات هو مرشح جمال عبد الناصر لهذه المسؤوليه كما يؤكد محمد حسنين هيكل على ذلك
جعل منظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للكفاح الفلسطيني المسلح حتم على كل الفلسطينيين المسلحين الراغبين بالإستمرار بالعمل العسكري الإنضمام إليها بما يضمن لمصر السيطره عليهم وتوجيه نضالهم بما يخدم أهداف مصر , من ناحية ثانيه أجج الصراعات الفلسطينيه _ الفلسطينيه بين مختلف فصائل النضال , من ناحية ثالثه فتح على الفلسطينيين غضب العرب , فمصر وهي تدير معارك الفلسطينيين مع اسرائيل قادمين من الإردن أو لبنان كان يجعل اسرائيل تضرب الأردن أو لبنان للرد عليهم , ولهذا طرد الملك حسين الفلسطينيين من الأردن بما يعرف بأحداث أيلول الأسود فغادروا الى لبنان . أما حين وقّع انور السادات على معاهدة التطبيع وتعهد لإسرائيل بوقف جميع الأعمال العسكريه ضدها , قامت الجامعه العربيه ومن أجل حماية حدود اسرائيل الشماليه بتخويل سوريا إرسال قواتها الى لبنان من أجل طرد الفلسطينيين منه وتحت مسمى حماية اللبنانيين من القتال الدائر بين الفلسطينيين واسرائيل , فغادروا الى تونس حتى توقيع ياسر عرفات على اتفاقية اوسلو عام 1993
من هو ياسر عرفات ؟ هو عبد الرحمن عبد الرؤوف القدوه , عائلة القدوه عائله مغربيه يهوديه معروفة جداً في المغرب , هاجر السيد عبد الرؤوف القدوه الى فلسطين بداية عشرينات القرن الماضي وعمل في التجاره وتزوج من السيده زهوه أبو السعود وهي من القدس . نتيجة لتعامل عبد الرؤوف مع العرب واليهود ثار حنق العرب عليه فاحرقوا المخازن التي تحوي بضاعته فإشتكى الى الحكومه البريطانيه التي كانت تكره العرب واليهود بسبب المشاكل الكثيره الواقعه بينهما . لم تشكه الحكومه البريطانيه فنصحه بعضهم بالسفر الى مصر والتجنس بالجنسيه المصريه ورفع الدعوى كمصري مشتكي على فلسطينيين , وهكذا قدم عبد الرؤوف وعائلته الى مصر عام 1925 وتجنس وسكن في حي العباسيه بالقاهره وبعد حوالي عام واحد ولد إبنه عبد الرحمن .. مصري بالولاده من أبوين مصريين بالتجنس
ماتت زهوه أبو السعود فتم إرسال عبد الرحمن وأخوه فتحي للعيش في بيت جدهم لأمهم في القدس حتى كبرا قليلاً وعادا الى القاهره . أتم عبد الرحمن دراسته في الهندسه وحصل على عقد عمل في الكويت , ومن الكويت جيء به لرئاسة منظمة التحرير الفلسطينيه
ناجي العلي مواليد 1938 وكان نازحاً من فلسطين الى لبنان منذ عام 1948 ويسكن في مخيم عين الحلوه قرب صيدا , يدرك الفلسطينيون أسباب مشاكلهم لمعايشتهم لها على الأرض , وليس مثل غيرهم الذين يسمعون أو يقرأون الأخبار , كان عمره 32 عام وقت وصول ياسر عرفات الى منظمة التحرير الفلسطينيه , لهذا إستخدم ناجي العلي رسوم الكاريكاتير للتعبير عن رفضه لهذا الواقع
عام 1959 انضم ناجي العلي الى حركة القوميين العرب , وعمل بين الأعوام 1960 _ 1961 رساماً في صحيفه سياسيه تُكتب بخط اليد عنوانها : الصرخه . في نفس هذه الفتره دخل الى كلية الفنون الجميله اللبنانيه لدراسة الرسم , لكنه لم يتم الدراسة فيها بسبب إعتقاله على خلفية نشاطاته السياسيه , وبعد الإفراج عنه سافر الى صور حيث عمل مدرساً للرسم في الكليه الجعفريه
عام 1961 زار الأديب والناشط السياسي غسان كنفاني مخيم عين الحلوه وشاهد بعضاً من رسومات ناجي العلي فأخذها معه ونشرها في صحيفة الحريه
في عمله كرسّام أنجز ناجي العلي أكثر من 40 ألف كاريكاتير عكست الرأي العام العربي والفلسطيني وقدمت النقد السياسي للأنظمة العربيه وُصِف ناجي العلي بسببها كأعظم رسام كاريكاتير عربي وتم إنتخابه رئيساً لجمعية رسامي الكاريكاتير العرب في عام 1979 . في عامي 1979 و 1980 حصل على الجائزة الأولى في معرضيّ الكاريكاتير العربيين اللذين أقيما في دمشق . منحه الاتحاد الدولي للناشرين في الصحف وسام ( القلم الذهبي للحرية ) في عام 1988 بعد مقتله
كان ناجي العلي معارضا شرساً لأي تسوية لا تبرر حق الشعب الفلسطيني في كل فلسطين التاريخية ، وكثير من رسوماته تعبر عن هذا الموقف . على عكس العديد من رسامي الكاريكاتير السياسيين ، فهو لا يُظهر سياسيين معينين بشخوصهم في أعماله , قال عن ذلك :
لدي وجهة نظر طبقية ولهذا فإن رسوماتي الكاريكاتورية تأخذ هذا الشكل . المهم هو رسم المواقف والحقائق ، وليس الرسم الرؤساء والقادة
نشر ناجي العلي ثلاثة كتب من رسومه الكاريكاتورية في أعوام 1976 و 1983 و 1985 وكان يعد كتابًا آخر في وقت مقتله
حنظلة هو أشهر شخصيات ناجي العلي . حنظله هو ناجي العلي نفسه . ذلك الطفل بعمر 10 سنوات الذي أجبره تقسيم فلسطين على هجر دياره عام 1948 والعيش في المخيمات , إعطاء ظهره للمشاهدين رمز على رفضه الحلول التي تفرض على الفلسطينيين من دول الوصايه على القضية الفلسطينيه أما مشابكة ذراعيه خلف ظهره فهي ترمز الى رفض المشاركه في أية حلول ترقيعيه وفي نفس الوقت هي رمز لإنعدام الحيله . وفي وقت لاحق حرر حنظلة ذراعيه حين بدأ يحمل السلاح والحجر . حنظلة يرتدي ملابس خشنه وهو حافي القدمين لأنه ينتمي الى طبقة الفقراء
رسم حنظلة كان بمثابة توقيع لناجي العلي على أغلب أعماله , ويستعمل حزب الخضر الإيراني صورة حنظلة كشعار له , كما أنه أصبح يعبر عن قضيه إنسانيه عادله أينما تقع على هذا الكوكب
من الشخصيات الأخرى في رسوم ناجي العلي شخص رقيق بائس يمثل الفلسطيني ضحية التحدي للإسرائيليين ( وغيرهم ) ورجل سمين يمثل الأنظمة العربية والزعماء والسياسيين الفلسطينيين الذين قادوا حياة سهلة وانخرطوا في التنازلات السياسية التي عارضها الفنان بحماسة . إن موضوعات الصلب التي تمثل المعاناة الفلسطينية وإلقاء الحجارة التي تمثل مقاومة الفلسطينيين العاديين شائعة أيضاً في عمله
في السنوات العشر التي سبقت التوقيع على إتفاقيه أوسلو هرول ياسر عرفات وبعض المثقفين الفلسطينيين من أجل التطبيع , لهذا إقترح محمود درويش البدء بالتطبيع مع بعض الشعراء اليساريين اليهود فنشر ناجي العلي كاريكاتير عنوانه ( درويش خيبتنا الكبيره ) مستلهماً عنوانه من قصيدة درويش ( بيروت خيمتنا الكبيره ) عندها قام درويش بتحريك عرفات وسببا لناجي مشاكل كبيره وتهديد بالقتل
لم يبالي ناجي بهذه التهديدات وأمعن في التحدي بنشر كاريكاتير يتناول شخصية رشيده مهران وهي مصريه من الإسكندريه كانت عشيقه لياسر عرفات خصص لها قصراً في تونس وكان يغدق عليها العطاء ويعطيها طائرته الخاصه لتستعملها في سفراتها وتنقلاتها فألفت هي كتاباً عن عرفات عنوانه ( عرفات إلهي ) وللتغطيه على نوع العلاقه عيَّنها مستشارته الثقافيه , فإذا كان عضو في الأمانه العامه للكتّاب الفلسطينيين وكما موضح في الكاريكاتير لايعرف من هي رشيده مهران ففي ذلك إشارة واضحه على طبيعة الدور الذي تلعبه هذه السيده في داخل المنظمه
إستشاط ياسر عرفات , وتم اغتيال ناجي العلي يوم 22 تموز 1987 أشارت تحقيقات سكوتلانديارد الى أنهما فدائيان فلسطينيان من منظمة التحرير من القوه 17 بناء على أوامر من ياسر عرفات شخصياً , السيد خالد العلي إبن ناجي العلي يؤكد أن اسكوتلانديارد يعرف القاتل لكنه لم يصرح عن إسمه وهو مصطفى عبد الرحمن من القوه 17 وبأمر من عرفات نفسه , المشكوك بهما الآخران أنكرا التهمه وإدعيا أنهما عميلان مزدوجان مع كل من منظمة التحرير وجهاز الموساد , وإعترفا على ضابط الموساد المسؤول عنهما وهو دبلوماسي في سفارة اسرائيل في لندن , عندها قامت ماركريت تاتشر بطرد هذين العميلين و 3 دبلوماسيين اسرائيليين الى خارج بريطانيا
أصابت الطلقه ناجي العلي تحت عينه اليسرى واستقرت في جمجمته , بقي بعدها فاقداً للوعي 37 يوم ثم مات . حسب رغبته كان يريد أن يدفن بجوار والده في عين الحلوه , لكن عودته الى المخيم مقتولاً معناها أن يثور الفلسطينيون ضد السلطه الفلسطينيه . فتم دفنه في مقبرة بروكوود الإسلاميه خارج لندن
قام النحات اللبناني شربل فارس بعمل تمثال لناجي العلي تم نصبه عند المدخل الشمالي لمخيم عين الحلوه في المكان الذي نشأ فيه ناجي العلي , بعد فترة قصيره تمت مهاجمة التمثال وضربه إطلاقه تحت عينه اليسرى في نفس المكان الذي ضرب به ناجي
قبل مقتل ناجي العلي بيومين كان قد صرح لمجلة الأزمنه العربيه الصادره في قبرص أن ياسر عرفات قال عنه في احدى خطبه في الكويت : من هو هذا ناجى العلى..؟؟ قولوا له إن لم يتوقف عن رسومه سأضع أصابعه فى الأسيد
أما شكر الجوهري رئيس تحرير المستقبل العربي فيروي حكاية تهديد تولى هو شخصياً نقله الى ناجي العلي قبيل ابعاده من الكويت بطلب من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ، إلى لندن , وكان نص التهديد : إن لم تتوقف فإن ثمنك هو رصاصة ثمنها عشرة فلوس , وصاحب هذا التهديد كان صلاح خلف ( أبو اياد ) الرجل الثاني في حركة فتح , يومها التقى الجوهري مع ناجي مقابل مبنى صحيفة القبس ونقل له تهديد أبو إياد فهز ناجي رأسه في إشارة تعبير عن الحزن لما آل إليه حال هذه القيادة، واللامبالاة بالتهديد، والإصرار على متابعة كشف وفضح التنازلات التي كانت بدأت هذه القيادة تقدمها منذ ما قبل الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982