من أهم المشاكل التي تواجهني وأنا أقوم بدور المُدرّس لأولادي في البيت هو أنني ألاحظ أن الطالب في المنهاج الدراسي
المقرر له أن يتعلمه لا يتعلم منه إلا وجهة نظر واحدة حول الموضوع المقرر له في المنهاج الدراسي, وهذه المشكلة تضعني في موقف محرج مع نفسي وتجعلني أقرر بأن الناس المتعصبين اليوم لثقافتهم ودينهم كانت ناتجة عن سلسلة أخطاء خرجت من مناهج التدريس وهي أن الطالب منذ نعومة إظفاره لا يعرف أن هنالك آراء أخرى ووجهات نظر متعددة,وهذا ما يجعل الناس اليوم في مجتمعنا العربي الإسلامي متعصبين ومتقوقعين ومنزوين ومنعزلين على رأي واحد, ولا يدرك هؤلاء أن هنالك مئات الثقافات المنتشرة في العالم ولديها أفكار قد تكون مقنعة بالنسبة لهم رغم أنها تختلف كل الاختلاف عن ثقافتنا.
وإذ دائما ما تكون عندي رغبة لتوضيح الأمر للطالب-وهو أحد أولادي- فالمنهاج المقرر مُقرر للطالب على أساس تلبية وجهة نظر واحدة وهنا ينفرد المنهج الدراسي والمُعلم في الطالب معا وهذا نوع آخر من أنواع ديكتاتورية التعليم أو سلطوية التعليم التي تؤكد على أساس الهيمنة على الطالب هيمنة فوقية, فلا يدرس الطالب إلا وجهة نظر واحدة فقط لا غير ولا يتعلم معها إلا وجهة نظر واحدة فهو لا يعرف بأن الموضوع الذي يدرسه في المنهاج له رؤية أخرى من زوايا مختلفة,وهنالك مدارس علمية تتبنى وجهة نظر أخرى, ولا يدرك الطالب بأن هنالك ثقافات متعددة في العالم تحمل في طياتها أفكارا أخرى ووجهات نظر أخرى,ولديها أخلاق أخرى.. أي أن هنالك الرأي والرأي الآخر, وحين نغض الطرف عن آراء المجتمعات الأخرى فإننا لا نستطيع أن نغض النظر عن تنوع الأمزجة داخل الثقافة الواحدة وهذه الأمزجة لديها أفكارا أخرى ووجهات نظر أخرى منبثقة من أمزجتها وذوقها المختلف.
وهذا الأمر لا يتعلق في الطالب وحده بل نرى له مثالا آخر ونموذجا آخر وصورة أخرى طبق الأصل عن الصورة الأصلية التي تتم فيها الجريمة في المدرسة, فهذا النوع من التعليم والتلقين يعتبر جريمة بحق الطالب, وجريمة أخرى مشابهة لهذه الجريمة في المسجد ودور العبادة, ففي المساجد ينطلق الشيوخ والخطباء لإلقاء الدروس والمحاضرات وهم يتبنون وجهة نظر واحدة ورأيا واحدا ليس له ثانٍ, ففي المسجد تتكرر الصورة أثناء حشو مخ وعقل العابد في المسجد بوجهة نظر واحدة ولا نسمع من الشيوخ وهم يقولون: هذه المسألة اختلف عليها العلماء, أو لا نسمعهم يقولون بأن هذه المسألة لها وجهة نظر أخرى, علما أن التراث العربي الإسلامي انفرد قديما بوجهات نظر مختلفة ولذلك انقسمت الأمة الإسلامية إلى أربعة مذاهب وهن: المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية, وهذا الانقسام أو التعدد في الآراء قد انقرض منذ القرن الرابع الهجري, وهو ما نراه عكس ذلك اليوم محافظا على سياسة التعليم من خلال وجهة نظر واحدة فقط لا غير.
وفي المدرسة كما هو في المسجد نلاحظ أن الصورة واحدة وطريقة التعليم واحدة والمنهج غير المبتكر واحدا, وهنا جريمة أخرى وهي أن الطالب في المدرسة لا يتعلم أسلوب الحوار العلمي لأنه أصلا لم يتعلم إلا أسلوبا علميا واحدا, ويتخرج الطالب من المدرسة وهو لا يعلم بأن هنالك وجهات نظر أخرى ولا يتعلم بأن هنالك مذاهب علمية وفلسفية أخرى, فحتى نهاية المرحلة الثانوية في المدرسة يبقى الطالب أسيرا لمنهاج واحد ولوجهة نظر واحدة وهذا ينعكس على شخصيته حيث يفقد الطالب القدرة على إدارة الحوار, فطالما أنه تعلم في مدارس تتبنى وجهة نظر واحدة طالما كانت لغته العلمية بعيدة عن لغة الحوار العلمي, ذلك أن معرفة المذاهب الأخرى والمدارس الأخرى يثري عقلية الطالب وتحفزه هذه الطريقة على تعلم احترام الرأي الآخر مهما كان ذاك الرأي صحيحا أم خطئا أو بلغة أخرى مهما كان ذلك الرأي مقبولا لديه أم غير مقبول, وليس من المهم تربية الطالب في المدرسة على رأي واحد والمطلوب من معرفته للمناهج وللمدارس وللآراء الأخرى,نعم, أن هذه الآراء تجعل الطالب بعد تخرجه الجامعي يعرف بأن هنالك أناس لديهم آراء مختلفة عن رأيه,وبالتالي نكون أمام مجتمع من الصعب جدا أن يجد الإرهاب طريقا إليهم, لأن الإنسان يتعلم احترام الرأي واحترام صاحبه, أما تدريس الطالب من وجهة نظر واحدة ومن خلال رؤية واحدة للموضوع تجعل الطالب في المستقبل متعصبا لرأيه وخصوصا رأيه الديني مما يجعلنا جميعا في المستقبل نقف أمام متعصبين دينيين لمذهبهم, وهذا هو الحاصل اليوم في المجتمعات العربية, وكل ذلك قد حصل نتيجة عشرين سنة من دراسة الطالب لرأي واحد منذ دراسته التمهيدية والابتدائية إلى أن يتخرج من الجامعة وعقله وذهنه لا يعرفان الرأي والرأي الآخر.