الديمقراطية الأثينية

بقلم : عضيد جواد الخميسي

كانت أثينا مابين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد تتمتع بنظام سياسي استثنائي وهو الحكم الديمقراطي. وبموجب هذا النظام ، يتمتع جميع المواطنين ” الذكور” حصراً بسن الثمانية عشر كحد أدنى ، بحقوق سياسية متساوية ، وكذلك لحرية التعبير المطلقة وتوفير فرصة المشاركة بشكل مباشر بمعترك السياسة. علاوة على ذلك ، فأن مشاركة المواطنين لاتقتصر على الحضور فقط لانتخاب المرشحين في مراكز الأقتراع بشكل مباشر ، بل تعداها الى أكثر من ذلك ، حيث نال المواطنون حق المشاركة باتخاذ القرارات المناسبة والتي ربما يرونها تهدف لتحقيق مآربهم وطموحاتهم من أجل سعادتهم ورفاهيتهم ، إذ كانت مشاركتهم فاعلة ونشطة في المؤسسات التي تحكمهم ، وبالتالي كانوا يسيطرون بشكل مباشر على جميع مفاصل العملية السياسية .

الديمقراطية في المصادر القديمة
كانت بعض المدن التابعة الى أثينا ، وقبل ان تعم الديمقراطية في عمومها ، تطبق بعض الأساليبب الديمقراطية في إدارة شؤونها، لا سيما في مدن ” أرغوس ” ، ” سيراكيوز” ،” رودس” ، و ” أريثري”. بالإضافة إلى ذلك ، ففي بعض الأحيان، حتى نظام حكم الأقلية الذي قد تتبعه بعض الولايات ، لربما ينطوي على درجة عالية من المساواة السياسية . ولكن النسخة الأثينية في تطبيق النظام الديمقراطي ، بدءاً من عام 460 قبل الميلاد الى عام 320 قبل الميلاد بإشراك جميع المواطنين من الذكور في عملية إتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، كانت بالتأكيد الأكثر تطورا ونجاحاً.
إن المصادر الحديثة التي تصف تطبيق نُظم الديمقراطية والمدرجة في نصوص دستور أثينا يعود بالأساس الى مفاهيم مدرسة أرسطو .
كما وان المؤرخين الاغريق ، “هيرودوتس ” ، ” ثوسيديديس”، ” زينوفون ” دونّوا أكثر من 150 خطابا مؤثراً تعود للشخصية الوطنية والمعارض المشهور ” ديموسثينس ” (384 ــ 322 ق.م ) والتي كان يلقيها في الجمعية الوطنية لعموم أثينا لمعارضته الشديدة للملك المقدوني ” فيليب الثاني “. وتضمنّت أيضا كتابات المؤرخين المنقوشة على الحجر، المراسيم والقوانين والعقود والتشريفات العامة وغيرها .

الجمعية والمجلس
كلمة الديمقراطية
( dēmokratia )
مشتقة من
( ديموسdēmos )
، التي تشير إلى الشعب، و
( كراتوس kratos )
، بمعنى الحكم ، فالديمقراطية هي ” حكم الشعب ” .

إذ يمكن لأي مواطن ذكر ، المشاركة في الهيكل الديمقراطي الرئيسي في أثينا ، وكذلك في الجمعية العمومية
( إكلسا ekklēsia )
، وفي القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد ، قد تراوح عدد السكان الذكور في أثينا من 30,000 إلى 60,000 شخص .

وقد أثنى أرسطو على دستور أثينا ووصفه بأنه ( أرقى من سائر دساتير العالم في نواحٍ كثيرة ) ، وذلك ( لأن الدولة يعد نظامها جيد إذا كان الشعب وفيّاً لدستورها على الدوام، وإذا لم يثر فيها نزاع أثيم يستحق الذكر ، وإذا لم يستطع أحد أن ينصب نفسه دكتاتوًراً ) .


وكان الأثينيون يحضرون اجتماعات الجمعية الوطنية بين فترة وأخرى,
وكان من حق الجمعية الوطنية أن تقبل أو ترفض ما يعرض عليها من الاقتراحات الصادرة من مجلس الشيوخ والمكوّن من ثلاثمائة شخص من أعيان أثينا الكبار، وكان لها كل الحق في مناقشتها أو تعديلها . على أن مجلس الشيوخ نفسه لم يكن يحتم عليه أن يعرض على الجمعية أي مشروع في وسع أعضائه أن يتفقوا عليه .
وكان المواطنون هم الذين يختارون الشيوخ . وكانت الجمعية الوطنية تختار في كل عام اثنين من المواطنين الكفؤين الاثنيين ليرأسا الهيئتين القضائية والإدارية في الدولة . وكان يشرف عل تلك الهيئتين، محكمة مؤلفة من 104 من القضاة الكبار والمخضرمين . وكان من حق هذه المحكمة أن تشرف على جميع فروع الإدارة ، وأن تستدعي كل موظف عمومي بعد انتهاء مدة خدمته لتحاسبه على أعماله ، فقد أصبحت قبيل الحروب البونية هي المسيطرة على جميع الإدارات الحكومية والمشرفة على جميع المواطنين .
وكان مجلس الشيوخ هو الذي يرشح القائد الأعلى للجيش ، على أن تختاره الجمعية من بين المرشحين .
تعقد الجمعية اجتماعاتها مرة واحدة على الأقل في كل شهر ، ولربما مرتين أو ثلاث مرات في مكان عام على تلة ( بنيكس Pnyx ) وفي مساحة مخصصة يمكن أن تستوعب حوالي 6000 مواطن. ويمكن لأي مواطن التحدث إلى الجمعية والتصويت على القرارات ببساطة عن طريق رفع الأيدي. والفوز يكون للأغلبية ويكون القرار نهائيًا ولا يحق لأي شخص او جهة حكومية الطعن فيه ، لأنه قرار الشعب … والجهة التي تصادق على القرار مكونة من تسعة أشخاص
( الرؤساء proedroi)
، المنتخبون بالقرعة ، والذين ينظمون الإجراءات ويقيّمون التصويت ، ولا يعاد انتخابهم لمرة أخرى ابداً ..

ومن بين القضايا المحددة التي تناقش في الجمعية العامة تقرير القضايا العسكرية والمالية ، وتنظيم الإمدادات الغذائية والتموين المدني والعسكري والحفاظ عليهما ، والشروع في التشريع والمحاكمات السياسية ، واتخاذ القرارات بإرسال مبعوثين الى الدول والأقاليم ، واتخاذ قرارات بشأن توقيع أو عدم توقيع المعاهدات ، والتصويت لحجب أو إنفاق الأموال ، ومناقشة المسائل العسكرية. ويمكن للجمعية أيضا التصويت لإبعاد أو نفي أي مواطن من أثينا ، أذا كان مجرماً خطيراً ، أو عابثا بأمن الشعب والحكومة أو من الجواسيس ووكلائهم ، في هذه الحالة يجرى اقتراع سري حيث يكتب الناخبون اسم الشخص المدان على قطعة من الفخار المكسور
( أوستراكون ostrakon )
ووضعها في صناديق كبيرة من الفخار مخصصة لهذا الغرض …

كان من بين العناصر الهامة في المناقشات التي كانت تدور في اجتماعات الجمعية العامة ، هي حرية التعبير (بارهيسيا parrhēsia ) التي أصبحت ، ربما ، امتياز المواطن الأكثر قيمة في أثينا. بعد مناقشة مستفيضة وشاملة، تصدر بعدها قرارات بأجل معين ، ومراسيم مؤقتة أو محددة
(psēphismata )
تعتمد فيها ويتم فيها تعريف القوانين
( nomoi ).
كما وتعمل الجمعية على صحة صدور القرارات وتنفيذ المسؤولين لواجباتهم بشكل صحيح.

تشكيلات الجمعية الوطنية
كان لدى أثينا ، وكذلك ( إليس، تيجيا ، وثاسوس) هيئة دستورية (باولي) ، وهي أصغر من الجمعية الوطنية العليا ، ولها صلاحيات خاصة بالبت في مواضيع وقضايا معينة قد نوقشت بوقت سابق في اجتماعات الجمعية . بالإضافة إلى ذلك ، ففي أوقات الأزمات والحروب ،إذ يمكن لهذه الهيئة أيضًا اتخاذ قرارات بدون انعقاد اجتماع للجمعية الوطنية. وكانت الهيئة (باولي) تتألف من 500 مواطن يتم انتخابهم بالقرعة وتكون عضويتهم في هذه الهيئة تمتد لعام واحد فقط غير قابلة للتجديد مرة أخرى.
و هيئة (باولي) تمثل 139 منطقة إدارية تابعة للعاصمة ” أتيكا” ( دولة اليونان حاضراً ) وهي بمثابة الجهة المسؤولة والمشرفة على اللجان الادارية والفنية والسياسية ومتابعة القرارات والتوصيات التي تتخذها تلك اللجان في الجمعية الوطنية لحين التصويت عليها من قبل الأعضاء .
ثم كان هناك أيضا لجنة تنفيذية مصغرة و منبثقة من باولي والتي تتألف من 50 عضوا ( لجنة القبائل ) ، حيث ينتخب عضو واحد من كل عشرة أعضاء ينتمون الى نفس القبيلة ، تعرف باسم بريتانيس
prytaneis
وهي منتخبة على أساس التناوب بين جميع القبائل ، ومهام هذه اللجنة متابعة أحوال واحتياجات المواطنين في حياتهم اليومية بشكل تفصيلي، إذ كل قبيلة تشكل السلطة التنفيذية داخل الهيئة مرة واحدة في السنة. والمدير التنفيذي لهذه المجموعة لديه رئيس ( إيبسيتات ) يتم اختياره بالقرعة يوميا من قبل الأعضاء . الخمسون عضواً يجتمعون في مبنى المعروف باسم بولويترين
Bouleuterion
في “أغورا الأثيني ” ــ وهو الجزء المكشوف من مبنى الجمعية الوطنية لتمكين المواطن الأثيني العادي الحضور والمشاركة في نقاشات اللجنة وقراراتها .

بالاضافة الى جميع تلك المؤسسات السياسية التشريعية والتنفيذية ، كانت المحاكم القانونية
(دايكستيريا dikasteria )
تعمل جنبا الى جنب لتلك المؤسسات التي كانت تتألف من 6000 شخص من المحلفين وهيئة واسعة من كبار القضاة
( آرشاي archai )
الذي يتم انتخابهم سنويا وبالقرعة.

في الحقيقة ، كانت هناك آلة مصممة خصيصًا للأقراص الملونة وكل قرص ملون هو بمثابة بطاقة الناخب في وقتنا الحاضر ، وهذه الآلة بمثابة صندوق للاقتراع
(كليروتيرين kleroterion )
لضمان اختيار المرشح عشوائياً ، وكان على القضاة أن يخوضوا عملية الانتخاب لمرحلتين . ويمكن للمحاكم الطعن في القرارات والقوانين التي تصدرها الجمعية وهذه من الحالات النادرة ، كون قرارات الجمعية تخضع لدراسة ونقاشات مطولة وشاملة حتي يتم البت فيها ، ومن ثم تخضع للتصويت العام ..وكان على القضاة أيضا اتخاذ القرارات بشأن النبذ والنفي ​​وكذلك التجنس وإسقاط الديون.

وكان هذا النظام المعقد ، دون شك ، يضمن وجود درجة مناسبة من الضوابط والتوازنات لإحتمال إساءة استخدام السلطة ، ولضمان تمثيل كل منطقة ادارية على قدم المساواة ومنحها سلطات متساوية. مع اختيار الأشخاص عشوائياً دون تخصيص لشخصية معينة لشغل مناصب مهمة وبشروط محدودة للغاية .
وكان من الصعب على أي فرد أو مجموعة صغيرة أن تسيطر على العملية السياسية وكذلك في صنع القرار، أو قد تؤثر بشكل مباشر عن طريق النفوذ والابتزاز، أو غير مباشر عن طريق الرشوة على سير العملية الانتخابية لأن لا أحد يعرف أبدًا من سيُنتخب ..

المشاركة في الحكومة
وكما ذكرنا من قبل ، فإن المواطنين الذكور فقط ممن هم في الثامنة عشرة من العمر أو أكثر يمكنهم التحدث والدخول في المناقشات والتصويت في الجمعية (هذا المبدأ يبدو نظريًا ، لان ليس لدى المواطنين آنذاك وثائق تثبت أعمارهم ، ويقتصر الأمر على التخمين ) ، في حين كانت الوظائف الحكومية الكبيرة والتي تسند مثلا الى القضاة والمحلفين والمراكز العليا الاخرى ، تقتصر على أولئك الذين تجاوزوا الثلاثين عاماً فأكثر من العمر. لذلك ، تم استبعاد النساء والعبيد والأجانب المقيمين
(ميتويكوي ــ غير معروف الجنسية metoikoi )
من الدخول في العملية السياسية.

المشاركة الجماعية لجميع المواطنين الذكور والتوقع بأن عليهم المشاركة الفاعلة وبحماس منقطع النظير في يوم الانتخاب ، ونخص بهذا الاقتباس من ثوسيديديس:
” نحن وحدنا ، نعتبر المواطن الذي لا يشارك في السياسة ليس فقط شخص أناني ويفكر بمصالحه الخاصة ، بل انه عديم الفائدة أيضا ” .

وهذا يدل على إهتمام الحكومة الراهنة بالأسلوب الديمقراطي لإختيار الحكومة الجديدة وعزمهاعلى تجسيد تلك الممارسة بأوسع نطاق ممكن ، و حتى كان هناك التجسيد الإلهي للديمقراطية المثالية ، إلهة ديموقراطيا
Demokratia.

إن المشاركة الواسعة والمباشرة للمواطنين في السياسة ، تعني أيضًا أن الأثينيين قد طوروا مفهوم المشاركة الجماعية في الحكم ، وهي حالة فريدة من نوعها آنذاك ، وربما أيضاً ، يعتبرونها فخراً في نظامهم السياسي ، كما هو واضح في الخطبة التي ألقيت في حفل التأبين لجنازة ” بريكليس Pericles ” الشهيرة والذي كان قد ألقاها في إحدى التجمعات الأنتخابية قبيل وفاته في بداية الحرب البونية الأولى..
( يطلق على دستور أثينا “الديمقراطية” لأنها تحترم مصالح الأقلية ، ولكن ليس الشعب بأكمله. عندما تكون هناك مسألة لتسوية النزاعات الخاصة ، فالجميع متساوون أمام القانون ، ولكن عندما تكون مسألة وضع شخص واحد قبل الآخرين في مناصب المسؤولية العامة ، فإن ما يهم ليس هو انتماؤه لطبقة معينة أو قبيلة بارزة، بل المقدرة الحقيقية والحكمة التي يمتلكها الرجل .طالما أنه قادرا على تكريس قابلياته في خدمة الشعب ، وليس عليه أن يبقى في حالة غموض سياسي بسبب الفقر الذي قد يعاني منه ). (لوح رقم 2.37 ثوسيديديس) ..
و بريكليس ( 495 ــ 431 ق.م) كان رجل دولة يوناني بارز ، إذ كان خطيباً ، وشخصية محبوبة من قبل الشعب خلال العصر الذهبي لأثينا . والفترة التي قاد فيها أثينا ، سميت “عصر بريكليس” بسبب تأثيره القوي في السياسة الداخلية والخارجية لأثينا، وحرصه البالغ، ليس فقط على ثروات وموارد بلده وحسب، بل على مجمل التاريخ اليوناني خلال القرن الخامس قبل الميلاد ولحين وفاته. إذ كان متحمساً ومؤيدًا بقوة لفكرة الديمقراطية ، على الرغم من أن الشكل الذي اتخذته كان مختلفًا عن الوقت الحاضر حيث كان بإمكان المواطنين الذكور في أثينا فقط المشاركة في السياسة. ومع ذلك ، فإن إصلاحاته من شأنها، وضعت حجر الأساس لتطوير أنظمة سياسية ديمقراطية لاحقة.
ويعني اسم بريكليس “محاطاً بالمجد” ، وقد إرتقى إلى مستوى اسمه من خلال جهوده الرامية إلى جعل أثينا أعظم الامبراطوريات اليونانية ، إذ كان تأثيره على المجتمع الأثيني ، والسياسة ، والثقافة كبيراً لدرجة أن المؤرخ ثوسيديديس (460 ــ 395 ق.م)، أطلق عليه لقب “المواطن الأول في أثينا” .

المشاركة العامة
على الرغم من التشجيع بالمشاركة بكثافة شديدة في الانتخابات المزمع إجراؤها ، فقد كان يتم دفع تكاليف حضور الناخبين الى الجمعية الوطنية في مدد معينة قبيل موعد الانتخابات ، وهو إجراء تقوم به الدولة ليشمل المواطنين الذين يعيشون في أماكن بعيدة ولا يمكنهم تحمل نفقات السفر والاقامة ، وتعويضهم عن إجور العمل الذي يمارسونه عند انقطاعهم عنه والتي يتقاضونها تشجيعاً للحضور. إذ كان هذا المال لتغطية النفقات فقط وليس كرشوة تُعطى للناخب ، على الرغم من أن أي محاولة للكسب من قبل المسؤولين عن هذا النشاط الانتخابي العام ، فان الدولة قد شرّعت قوانين بعقوبات صارمة قد تصل الى عقوبة الموت .. بحق المخالفين
كان المواطنون السياسيون يشكلون 10-20٪ من السكان ، وقد قُدِّر بحوالي 3000 شخص فقط ممن شاركوا بنشاط ملحوظ في السياسة العامة. ومن ضمن هذا العدد ربما كان هناك أقل من 100 شخص منهم ، هم من الأغنياء والذين يمتلكون نفوذاً وسلطة ولديهم أفضل المتحدثين في الحشود الانتخابية ،كما لهم هيمنة كبيرة في الساحة السياسية من داخل الجمعية الوطنية وخلف الكواليس في الاجتماعات السياسية التآمرية الخاصة
(زاينموسياي xynomosiai )
والمجموعات
( هيتراراي Hetaireiai)
، وكان على هذه الجماعات أن تجتمع سراً، وبالرغم من حرية التعبير ، فإن الانتقادات المستمرة للأفراد والمؤسسات يمكن أن تؤدي إلى اتهامات بالتآمر و الإستبداد ، وبالتالي تؤدي إلى النبذ والإبعاد ثم النفي .

السلبيات والانتقادات
يشير منتقدو الديمقراطية ، مثل ثوسيديديس، وأريستوفانيس ، إلى أن الأساليب أو الإجراءات في الإعداد للإنتخابات لم تكن تحت سيطرة النخبة من السياسيين فحسب بل تعداها الى أكثر من ذلك ، فقد كانوا يتلاعبون في عقول وعواطف الناخبين من الفئات الفقيرة ومن الذين يفتقرون الدراية والمعرفة ، بل يمكن أيضاً أن يتأرجح رأي الشعب بخطبة رنانّة ومؤثرة من خطيب لآخر ، مما يترتب عن ذلك نتائج خطيرة عند إتخاذ قرارات مهمة وحاسمة .
ربما كانت أكثر القرارات السيئة الصيت التي اتخذتها الجمعية الوطنية الأثينية بتأريخها، هي إعدام ستة قادة عسكريين بعد انتصارهم الساحق في معركة ” أرجينوساي” في عام 406 قبل الميلاد ، وكذلك إصدار قرار حكم الإعدام الجائر بحق الفيلسوف المشهور “سقراط ” ، وذلك في عام 399 قبل الميلاد.

بعد الجهود الحثيثة في بناء وإرساء أسس الديمقراطية ، كأسلوب نظام حكم سياسي متقدم ومتطور جدا في أثينا آنذاك ، إلا ان تلك النهضة السياسية قد تراجعت بعد حين لـدرجة تم فيها استبدال الديمقراطية التي سادت خلال العصر الذهبي لأثينا ، بنظام سياسي آخر يسمى حكم الأقلية أو ” الأوليغارشية ” وهي ( شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية ) ، وذلك بعد الهزيمة الأثينية الكارثية في صقلية عام 409 ق.م .

الختام
يبدو أن التغيير الدستوري ، وفقا لثيوسيديديس ، هو السبيل الوحيد لكسب الدعم الذي تشتد الحاجة إليه من بلاد فارس ضد العدو القديم سبارتا ، مع ذلك فقد عادت الديمقراطية في شكلها الجديد الى حد ما لأثينا في نهاية المطاف ، ومهما يكن الأمر ، فقد قام الأثينيون ما يكفي بالفعل في إنشاء نظامهم السياسي للتأثير على الحضارات اللاحقة لما بعد ألفي سنة.
وعلى حد تعبير المؤرخ
” رافلاب ” KA Raaflaub
، فان الديمقراطية في أثينا القديمة:

” نظام حكم ثوري فريد ، عُرفت مبادئها الأساسية إلى حد لم يسبق له مثيل ، بحيث لم يجرؤ أي حاكم أبداً على منح جميع مواطنيه حقوقاً سياسية متساوية ، بغض النظر عن أصلهم وثروتهم ومكانتهم الاجتماعية وتعليمهم وخصالهم الشخصية وأية صفات أخرى تحدد موقعهم في المجتمع “.
هذه المُثل التي أشار اليها “رافلاب” لأنها تشكل حجر الزاوية في أي نظام سياسي ديمقراطي، ولجميع الديمقراطيات في عالمنا المعاصر.
لقد زودنا اليونانيون القدماء بالفنون الجميلة ، ومعابد الأخلاق ، والمسرح الخلاّق ، ثم العلوم ، والمعارف ، والعظماء من رجال الفكر والفلسفة ، ولكن تبقى الديمقراطية وهي لربما ، إرثهم الأعظم ، وأكثرها تأثيراً و ديمومة في التأريخ والحاضروالمستقبل ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البروفسور بول كارتيليدج ــ التجربة الديمقراطية ــ جامعة أكسفورد للنشر ــ نيويورك ــ 2016 .
أيلي بلاكويل ــ رحلة الى العالم الأغريقي القديم ــ لندن 2011 .
جون فيرغسون ، كيتي تشيشولم ــ السياسة والمجتمع في عصر أثينا العظيمة ــ شركة وارد لوك للنشر ــ فبراير 1979 .

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.