وداعا صديقي الغالي فيتالي تشوركن …. بقلم: الدجال بشار الجعفري
يقدم المرء التعازي أحياناً بحكم الواجب الاجتماعي وأحياناً بفعل الحزن، ففي الحالة الأولى ينضم الإنسان إلى أقرانه معزياً بوفاة شخص كانت تجمعه به صداقة أو معرفة أو قرابة أو جيرة.
وأما في الحالة الثانية فالإنسان ينضم إلى صفوف أهل الفقيد متألماً لخسارة الراحل وكأنه أحدهم، يتلقى التعازي من المعزّين الذين يعرفون حق المعرفة حجم وقيمة العلاقة التي كانت تجمع بينه وبين من ذهب إلى دار الحق فجأة، ومن دون سابق إنذار يخفف من غلواء الصدمة وشدة وقوعها. هذه كانت حالتي عندما انهالت علي مئات الرسائل والاتصالات والايميلات من كل حدبٍ وصوب تحمل تعازي مرسليها الشخصية لي جراء رحيل المندوب الدائم لروسيا الاتحادية لدى الأمم المتحدة، السفير فيتالي تشوركن، وذلك لعلم هؤلاء الأصحاب بعمق العلاقة التي كانت تجمعني بالراحل.
ويتحول الحزن إلى ألم بسبب غيابي عن مكان عملي حالياً وعدم تمكني من توديع الجثمان وتقديم واجب العزاء – أقصد حزن العزاء- بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن زوجتي لزوجته السيدة إيرينا ولأعضاء الوفد الروسي الدائم الأصدقاء الذين كانوا خير سند لسفيرهم في الدفاع عن مصالح بلادهم في ساحة الوغى الدبلوماسية الأهم والأخطر والأشرس في عالم السياسة الدولية، وأعني بذلك بطبيعة الحال، منظمة الأمم المتحدة «وتفرعاتها» المنظورة وغير المنظورة.
وصل فيتالي إلى نيويورك قبلي بشهرين تقريباً، وأمضينا معاً عشر سنوات حافلة بالأحداث الجسام التي دأبنا على مواجهة أعاصيرها معاً عبر نسج خيوط التنسيق والتعاون وتبادل المعلومات والنصائح بصراحة وحرفية عالية وحكمة وثقة متبادلة، جعلتنا ننتقل في علاقتنا من مستوى الزمالة إلى مستوى الصداقة المتينة التي كانت عدسات كاميرات الإعلاميين والمراسلين تنقلها بأدق تعابيرها ولاسيما خلال جلسات مجلس الأمن… التاريخية التي سجلت رفع فيتالي يده فيها عاليا ست مرات لكسر التآمر على سورية ولإجهاض مناورات الضباع والذئاب البشرية وآكلي لحوم وحقوق البشر في مجلس الأمن، ذاكرتي لن تنسى ما حييت مواقف حاسمة للسفير فيتالي تشوركن، وسجلات الأمم المتحدة حفظت بعضاً من هذه المواقف أما ما لم يسجل- وهو الأهم- فسيبقى تراثاً دبلوماسياً ينتقل من جيل لآخر ويحمل بصمات فريدة لفيتالي.
دافع صديقي فيتالي عن ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي بقوة القانون وليس بقانون القوة، الأمر الذي جعله نبراساً نادراً في سجلات الأمم المتحدة. كان فيتالي وسيبقى مهماً، ليس فقط لبلاده العزيزة روسيا الاتحادية بل للبشرية جمعاء، لأنه كان من المدافعين بقوة عن المبادئ وعن فلسفة الدبلوماسية الدولية متعددة الأطراف. ولن ينسى العالم منظره هو وسفير الصين المميز أيضاً في ٤ شباط، ٢٠١٢ عندما رفعا يديهما لتسجيل أول فيتو في مجلس الأمن ضد مشروع قرار غربي كان يخيط حبائل الدم لسورية تماما كما فعلوا في كل من العراق وليبيا ويوغسلافيا والصومال وأفغانستان واليمن وغيرها…
لم يكن فيتالي تشوركن سفيراً فوق العادة بل رجل دولة يليق بعظمة روسيا الاتحادية وبمستوى العلاقات المميزة التي تجمع بين موسكو ودمشق.
رحم اللـه صديقي الغالي وأدخل الصبر على غيابه في قلوب زوجته إيرينا وأولاده وزملائه ومحبيه وهم كثر