طه لمخير
إنّ أصل كلّ ميتافيزيقيا ودعوة لاهوتيّة مستغرقة في أوهام ما وراء الطبيعة وما وراء المحسوس، هو أنّ الإنسان في الأزمنة الأولى للحضارة، تلك اللحظات الجنينيّة لميلاد العقل الواعي والمستكشف والمتسائل عن طبيعة الوجود، قد اعتقد أنّه اكتشف في الحلم عالما ثانيا موازيا لعالمه الحقيقي، أو ما عبّر عنه أفلاطون بعالم المثل، ولولا هذا الحلم لما اضطر النّاس إلى يومنا هذا أن يقسموا العالم إلى قسمين، في رأي أرباب الديانات السماوية، عالم الحياة الدنيا وعالم الآخرة، ومنه جاء تصور انفصال الجسد عن الروح، وجسديّة هذه الرّوح، الّتي تنسلخ من الجسد الميّت وتصعد إلى الملكوت الأعلى…
لولا هذا التّصور البدائي لما تجرأ انتحاري أن يتمنطق بحزام ناسف ويندس بين النّاس في فضاء آهل بالأحداث والعجائز ويمزّق نفسه ومن حوله إلى هباب متناثر في الجوّ، عين هنا ولسان هناك وأحشاء هنالك، أشلاء وأشلاء ومزيد من الأشلاء تملأ عالمنا العربي، لكن اعتقاده أنّ له روحا ستنفصل عن جسده الّذي سيتبخّر بفعل أطنان المتفجرات، جعله يظنّ أنّ تلك الرّوح ستقاوم حقائق الفيزياء لتصعد صعودا ملائكيا وادعا تحفها الملائكة في موكب مهيب إلى عرش واجب الوجود، ألا بُعْدا لك يا أفلاطون، كم كبدنا حلمك من حيوات…
من العجيب أنّ الأخطاء المقدّسة الّتي تزني بعواطف النّاس في غفلة من العقل، ولعلّه (أي العقل) يعلم بعمليات الزنى المستمرّة بين الخطأ والعاطفة، لكنّ جبنه وأحيانا لأسباب إيروتيكيّة فانتازيّة تجعله يتخنّث أمام الأخطاء الّتي تتغزّل أمامه بالعاطفة دون أن يبدي اعتراضا أو يستل سلاحا من أسلحته ليدافع عن شرفه، بل يجد مبررات لذلك مستسلما لقدسيّة الأخطاء، ولعلّه…
أقول من عجائب الأخطاء البرّاقة، والعقول الميتافيزيقيّة، أنّها تبدأ في صلف وعجرفة تظهر الاحتقار للعقل العلمي، تتحرّش بحقائقه المحتشمة كما يسمّيها نيتشه، تسخر من براهينه، لا تكفّ عن شتمه وتبخيسه، رغم أنّها زانية بنت زانية، مومس من ظهر مومس، ليس لها شهادة نسب ولا أهليّة، ومع ذلك فهي مقدّسة وحقيقة خالدة
aeterna veritas
صحيح أنّهم في الغرب قد قطعوا أشواطا طويلة في التّفريق بين الخطأ المقدّس والحقيقة المحتشمة، أو بالأحرى الّتي كانت محتشمة في زمن نيتشه قبيل الثورة الفرنسيّة في القرن الثامن عشر، وأصبحت اليوم حقيقة صارخة وطاغية، بينما انقلبت تلك الأخطاء البرّاقة والمقدَّسة إلى علك المتندرين، تتناولها الجرائد والمجلاّت مثل شارلي وأخواتها بأقذع النكت السّاخرة دون أن يثير ذلك حفيظة القسس والبطاركة.
لكنّنا في البلاد الّتي لازالت تعرف عن نفسها بكونها دول الميتافيزيقيا، دول يحتل فيها الغيب ومعه غيبوبة العقل المشهد العام، لا زالت تلك الحقيقة محتشمة بل مضطهدة كافرة كاذبة خاطئة، بينما نجد الأخطاء المقدّسة تعربد في كلّ ركن وتحتلّ كلّ زاوية في الحواري والأزقّة، تزني بعواطف الشّعوب في مواخير العقل العربيّ بإشراف من الحكومات الإسلاميّة ودعمها.
الإرهاب كان من أبناء تلك العلاقة الثلاثيّة المختلة بين العقل العلمي والخطأ المقدّس والعاطفة المجنونة، الحركات الإسلاميّة الراديكاليّة، الفتاوى على التلفاز، الخودة على الرأس، الزغب الديني النابت على الخدين، الجلباب الوهابي المنحسر إلى الكعبين، احتقار المرأة، الأدب “الملتزم”، الثّقافة الملتحية… كلّ مظاهر وبواطن الزنى غير المنطقيّة تُمارس على فراش العقل الجبان والإيروتيكي والمُبَرِّراتي، بينما كلّ ما يستجلب أنظارنا ويستثير نخوتنا هو علاقة طبيعيّة غريزيّة بين الفرج و الفرج، وفِي الأثر نقرأ: من يضمن لي ما بين لِحْيَيْه وما بين فخذيه أضمن له الجنة…
في باكستان على ما بهم من همّ، قام بعض عبدة الأخطاء من أتباع جماعة تدعى لبيك يا رسول الله، بالاعتصام والعصيان المدني، ودخلت الجماعة في اشتباكات عنيفة مع رجال الأمن، لأنّها تطالب بعزل وزير العدل، والسّبب في ذاته يثير في النّفس الغثيان والسّخط كما يثار الغبار في العاصفة، كلّما تذكرت أنهّم يأخذون على الرّجل كونه لم يتلفظ باسم النّبي محمد أثناء أدائه قسم الواجب، رغم أنّه أقسم بالله وعلى المصحف الشّريف!!
هنا لم يعد زنى الأخطاء على فراش العقل فحسب، بل أصبح مواسم من الاغتصاب الجماعيّ العلنيّ لحسن التّمييز والإدراك السليم
common sense ،
لا يمكن وصف الحال الّذي وصل إليه العقل المسلم بأقلّ من ذلك، والمثير في الأمر أنّ كاميرات الصّحافيين التقطت أحد المحتجين الغاضبين وهو يعبث في هاتفه الذكي، فهو لا يمانع في أن يستعمل تلك الحقيقة المحتشمة في بطن يده، لينشر على الملإ الأفعال البربريّة الّتي تنادي بها الأخطاء البرّاقة الّتي تحتشد في أذهان المتظاهرين، وإلّا فكيف يتولّد الشّيء عن نقيضه، كيف يخرج المعقول من اللاّمعقول، الغيريّة من الأنانيّة، كيف يتمخّض فكر الإرهاب من فكر المحبّة والسّلام، الأذيّة والهمجيّة، من السلم والمسامحة، الدوغمائيّة من العقليّة الحواريّة والتعدديّة، لا يكون ذلك، و لا تجتمع تلك التّناقضات إلّا في العقل المسلم المُدجّن، وهو لهذا استطاع أن يكمل ويستمرّ في مشيه الأعرج، ويوفق توفيقه بين الخطأ المقدّس والحقيقة المحتشمة…ما دامت محتشمة.
١: الذنب ليس ذنب هؤلاء الرعاع بل الحكومات السافلة التي تسكت على سلوكهم وسلوك من يفتي لهم بقدسية الجهل والخرافة ؟
٢: مصيبة الكثيرين أنهم يثيرون الغبار من حولهم ليثبتوا للعالم أنهم لازالوا موجودين وفاعلين ، غير مدركين أنهم يثيرون الشفقة قبل الاشمئزاز والسخرية ، لذا فقط الاقزام من يلجؤن للكعوب العالية أو العديمي الثقة بأنفسهم أو الذين يريدون جلب إنتباه الاخرين ، وكلها صفاة مرضية كامنة في عقل الجاهل المتعفن ؟
٣: وأخيراً …؟
خطورة الكثيرين من الحمقى والجهال ليس لأنهم لا يفعلون المنطق والعقل بل لان الاثنين لا تعريف عندهم بالأصل لأنهم لا يمتلكونه ، سلام ؟