منذ سقوط الموصل بأيدي المسلَّحين في 10-11 يونيو (حزيران) 2014، انصرفتُ مثل كثيرين غيري إلى تعداد الحرائق التي أقبل الإيرانيون على إشعالها في العالم العربي، ردا على خسارتهم الصاعقة في العراق. ذكرتُ الحوثيين باليمن، وذكرت المصائب التي نزلت بغزة في الثوران الحماسي المفاجئ للمقاومة، وذكرْتُ استشراس النظام السوري و«حزب الله» لأخذ حلب بعد حمص، وذكرتُ إصرار الإيرانيين على النظام السوري لمواجهة «داعش» بسوريا بعد أن لم يعد استخدام «داعش» مفيدا. وما خطر لأحدٍ منا أن يحاول الإيرانيون إشعال الموقف بشرق لبنان. نحن نعلم منذ أكثر من سنتين أنّ عرسال تحولت إلى شوكةٍ في خاصرة حزب الله، بسبب موقعها على الحدود، والجرود والجبال الوعرة التي تمتدُّ فوقها على مساحة مائة كيلومتر، وأنّ عرسال تؤوي عائلات مهجَّرين سوريين ارتفعت أعدادهم لأكثر من مائة ألف؛ في حين أنّ سكان البلدة لا تزيد أعدادُهم في الأصل على الثلاثين ألفا! ما توقعتُ هذا الاشتعال لأنّ الحزب أعلن انتصاره في كل مكانٍ، وزايَدَ في ذلك على النظام السوري نفسه. ثم لأنّ بدء النزاع إن أمكن توجيهه؛ فإنّ المآلات لا يمكن ضبطها. إنما والحقُّ يقال؛ فإنّ أهل تلك المنطقة من السنة والشيعة العقلاء حذّروا وأنذروا من ذلك خلال الشهرين الماضيين. إذ خلال الأسابيع الماضية قال لنا أهالي ثلاث قرى بمنطقة بعلبك إنّ صدامات كرّ وفرّ جرت وتجري بين الحزب ومسلَّحين منتشرين في تلك الجرود. وبالغ الحزب وإعلاميوه في أعداد أولئك المسلَّحين والذين يريدون الدخول إلى لبنان والحزب يمنعهم. ويقول أهالي تلك القرى إنّ الحزب فقد عشرات القتلى في مكامن تلك الجماعات، وفي إغاراتها المفاجئة.
وعلى أي حال؛ فالذي حصل في الأسابيع الماضية أنّ الحزب دفع الجيش اللبناني إلى الواجهة بعد أن كان قد ألغى وجوده على الحدود لينفردَ بها هو خلال نحو العامين! وهكذا فقد تزايدت صدامات الجيش مع المسلَّحين خلال شهر يوليو (تموز)، إلى أن أوقف الجيش أحد هؤلاء على حاجزٍ له، فردَّ المسلَّحون بإغاراتٍ على سائر مراكز الجيش على الطرقات، وفاجأوا مقرَّ فصيلةٍ لقوى الأمن الداخلي فقتلوا وخطفوا كما فعلوا بمراكز ومخافر الجيش. وخلال ثلاثة أو أربعة أيام فقد الجيش بحسب بياناته خمسة عشر عسكريا أحدهم برتبة مقدَّم، أمّا المخطوفون فتختلف الرواياتُ في أعدادهم. وخلال تبادل القصف بين الجيش والمسلَّحين في الجبال وعلى أطراف عرسال، فعل حزب الله ما فعله بصيدا عندما اشتبك الجيش مع جماعة أحمد الأسير، بمعنى أنه قصف بلدة عرسال بالمدفعية فخرَّب وقتل، ودفع أعدادا من أهل البلدة للهجرة إلى مناطق البقاع الأُخرى.
أحداث عرسال ما أتت إذن من فراغ. ففي نظر الحزب والنظام السوري؛ فإنّ هؤلاء باعتبارهم سُنّةً متعاطفين مع المعارضة السورية، يشكّلون بيئةً حاضنةً «للإرهاب» الذي صارت «داعش» رَمْزَهُ الآن! أما البراميل المتفجرة للنظام، والقتل المستمر للحزب في السوريين منذ سنةٍ ونصفٍ وأكثر؛ كلُّ ذلك لا يشكّل إرهابا، ولا تكفيرا، وليس من حق المقتولين أن يقاوموا بأي وسيلةٍ مُتاحةٍ لهم أو قد تتاح. والمطلوب الآن دفع العراسلة بالقتل والقصف إلى الهجرة لتصبح عرسال مثل القُصير ومدنٍ وبلداتٍ أُخرى كثيرة. وكما استتر الحزب بالجيش في صيدا وغير صيدا، فهو يستتر به مرةً ثالثةً أو رابعةً لبلوغ الهدف ذاته. وإذا أمكن بلوغ ذلك تتحقق عدةُ أهداف: لا يستطيع المسلَّحون البقاء بالجبال دون إمداد، وتخلو المنطقة من السنة، ولا يعترض طريق القلمون – حمص – الساحل حاجز سكاني من أي نوع بعد تهجير أهل القُصير وقرى وبلدات محافظة حمص لجهة لبنان. وبعد هَيعة العراق، وفشل سليماني فيه، يأتي حريقٌ آخر، يزيد الخراب والفرز السكّاني.
لماذا نقول هذا الكلام بمناسبة مصيبة عرسال؟ لأنّ لبنان عرف أشكالا متعددةً من الحروب الداخلية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ومن تلك الأشكال الحرب الطائفية. لكنّ تلك الظاهرة كانت لبنانيةً بحتةً في المنطقة، وكان السوريون والعراقيون والفلسطينيون يعيروننا بها. أمّا هذه المرة؛ فإنّ إيران نشرت الحرب الطائفية في سائر بلدان المشرق العربي التي فيها شيعةٌ وسنة. إذ كيف أُتيح لطهران أن تحشد شبان الشيعة العرب، وماذا تقول لهم وكيف تثيرهم؟ بالطبع ليس من أجل قتال إسرائيل، ولا حتى للخروج على الظلم مثلا. بل السائد القول لهم إنّ مراقد أهل البيت مستهدفة، والشيعة مستهدَفون من التكفيريين. فعندما مضى «حزب الله» لغزو القصير قال أمينه العام إنه ذاهبٌ لقتال التكفيريين، وما كان في القصير ولا القلمون مزارٌ لآل البيت، ولا أحد يكفّر الشيعة أو غيرهم. نعم، ما جرؤ نصر الله على القول إنه ذاهبٌ لمساعدة الأسد، بل هو ذاهبٌ بزعمه لإنقاذ الشيعة والتشيع! وهكذا استطاعت إيران وخلال سنواتٍ قليلةٍ إثارة حروبٍ طائفيةٍ بين المسلمين في العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن. والسؤال العاقل هنا غير مطروح، لأنّ الوسيلة ميثولوجية وتتعلق بالدين واستغلاله. السؤال العاقل: ماذا تستفيد إيران من شرذمة المجتمعات، والحروب الطائفية، وتدمير الدول؟
مضت على إيران أعوامٌ وهي تستمتعُ بالسطوة في العراق وسوريا ولبنان بالتنظيمات المسلَّحة، والأنظمة الاستبدادية التي أنشأتها أو استولت عليها بمساعدة الأميركيين وبالتبادلات والابتزازات. وعندما ما عادت الأغطية البهلوانية بالمقاومة وبمصارعة أميركا كافية، شنّت إيران حربا طائفيةً على العرب، مستخدمةً في ذلك الطوائف الشيعية تارةً لنُصرة التشيع المستضعف، وطورا لنشره باعتباره الطائفة المنصورة! وثار العراق – وليس من طريق العشائر و«داعش» وحسْب – بل ومن طريق مرجعية النجف الشيعية التي اعتبرت أنّ إيران تريد تدمير العراق بالتشبث بالمالكي، كما دمّرت سوريا للإبقاء على بشار الأسد قابعا على ذلك الخراب الجميل!
بعد «خراب البصرة» عرف الحرس الثوري أنّ الاستيلاء الطائفي فاشلٌ وغير ممكن. ولذلك راح يُشعل الحرائق في العراق وسوريا واليمن وغزة. وقد وصلت حرائقه إلى لبنان الآن، وهي تُهدّد بالحرب الطائفية فيه بين الشيعة والسنة. إنه مسارٌ دخلنا فيه منذ سيطر الحزب على القرار في البلاد! وهو مسارٌ مدمِّرٌ كما حصل في العراق وسوريا.
سمعتُ سياسيا لبنانيا يعاتب الرئيس ميشال سليمان على عدم تدخله (وقد كان قائدا للجيش) عندما غزا «حزب الله» بيروت عام 2008! فسارع للقول: لو فعلتُ لانقسم الجيش! أما بعد طرابلس وبيروت وعكار وصيدا ومجدل عنجر وعرسال:
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا
ولا فتك إلاّ دون فتك ابن مُلجمِ
نقلا عن الشرق الاوسط
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- المجزرة الأخيرةبقلم آدم دانيال هومه
- ** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **بقلم سرسبيندار السندي
- رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسيةبقلم طلال عبدالله الخوري
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلامية
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :