الحج : المؤتمر العام لأثرياء العالم الإسلامي : ـ
من المفارقات الطريفة أن يكون الزّعم الأساسي الذي يدفع به الخطاب الديني لتبرير وتسويق صرف تلك المبالغ المهولة التي تُدفع في الحج وطقوسه ( وثنية المنشأ ) هو أنّه ـ أي الحج ـ مؤتمر جامع للمسلمين يتوحد فيه الجميع ، لا فضل لعربيٍ على أعجمي ، ولا لأحمرٍ على أصفر ، ولا لغنيٍّ على فقير ، الكلّ سواسيةٌ ، فهل هذا الزعم صحيح بالفعل ؟ هل حقاً الحج هو مؤتمر جامع الغرض منه تذويب الفوارق الإجتماعية والإقتصادية والثقافية والعرقية بين المسلمين عبر تجميعهم في مكانٍ واحدٍ وإرتدائهم لزيٍ موحد ؟
وهل من الحكمة ربط إزالة هذه الفوارق بالدين فيصبح المسلمون سواسية ، ويُصبح باقي أرومة البشر ـ خارج هذا المؤتمر الداعي لتذويب الفوارق ـ غير سواسية؟ لماذا نحتاج لطقسٍ ديني لتوحيد البشر الذين لا يُقِّر معظمهم بالإسلام ولا يؤدُّون الحج حتى ولو إستطاعوا إليه سبيلا ؟ وهل بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يُعلن عن المساواة بين جميع الناس تنتفي الحكمة من الحج طالما أنّ غاية الحج المساواة بين البشر ، وبالتالي يمكننا الإستغناء عن تلك الأموال والمبالغ الفاحشة التي تُدفع لأدائه ؟ وهل الإعلان عن المساواة بين الناس تحتاج إلى كلِّ هذه الرمزيات المادية وثنية المنشأ والتي يعج بها الحج والمكلفة مادياً والمرهقة بدنياً ؟.
عموماً على العكس تماماً من تلك المزاعم التي تجعل من الحج رمزاً للمساواة بين المسلمين ( لاحظ ليس بين الناس جميعاً ) نجد الحج ـ بشكله الراهن والتاريخي ـ كان صفة مائزة إختص بها أهل اليُسر والرخاء والثراء من المسلمين ، لا سيّما الوافدون من خارج مكة وهم الغالبية الساحقة من لفيف الحُجّاج القادمين على غير الضوامر من فجوجِ عميقة ، فالحج هو الفريضة الوحيدة ـ بإستثناء الزكاة ـ المرتبطة بالإستطاعة والتي في حال عدم القدرة على أدائها لا يترتب على ذلك أيّ كفارة في إشارةٍ واضحة إلى حكرها على الأثرياء دون غيرهم .
وطالما ربطت النصوص ـ قراناً وحديثاً وفقهاً ـ فريضة الحج بالإستطاعة لا سيّما المالية ، والمتتبع لتاريخ الحج قبل الإسلام يجدهُ عبارة عن موسم تجاري تنشط فيه أسواق مكّة وقبيلة قريش ، وتعُّج بزبائنها من القبائل والأمصار المجاورة وغير المجاورة ، وكذلك كان الحج بالماضي أيضاً بمثابة فعالية نجد فيه نشاطاً ملحوظاً وإستعراضاً مفضوحاً للشعراء أمام جمهرة وفود الحجيج ، نساءً ورجالاً ، يبذلون لهم الشعر مدحاً لهم بما يشتهون، توسلاً للثناء والمال وطلباً للإنتشار، كما يفعل المغنون إذ يتسقّطون أهواء السامعين وشهواتهم فيرفدونها كيفما إتفق.
ولم يختلف الوضع اليوم كثيراً عن الأمس ، فمكّة والمدن السعودية التي تحتوي الأماكن المرتبطة بطقوس الحج اليوم باتت بمثابة مصدر دخل مهم للسعودية ( أكثر من 60 مليار ريال سنوياً ) ، وموسم تنشط فيه وكالات الفندقة وتزدهر فيه أسواق السعودية ، فما إن يُطالعنا شهر ذو القعدة قُبيل أيامٍ معدودات من الحج حتى تنتشر الإعلانات على المواقع الإلكترونية ووكالات السفر وإعلانات التلفزة تُنبِئ عن حجزٍ لفنادق ( خمس نجوم ) تطل ـ لا على البحر ـ ولكن على الحرم المكِّي أو مُقام إبراهيم المُصلّى.
وحتى وكالات أو هيئات الحج والعمرة المسؤولة عن تحصيل أموال الحج نجدها قد قسّمت الحج إلى حج سياحي درجة أولى ، وحج متوسط ، وحج عادي ، ولكلٍّ سعره الخاص به ، فالأثرياء سيُشاركون في الحج ( مؤتمر المساواة بين المسلمين ) نعم ، ولكن ليس كمن هم أقل منهم ثراءً والذين وإن تيسّر لهم الحج إلاّ أنّهم لن يحجُّوا حجاً ( سياحياً ) ولن يُقيموا في فنادق خمس نجوم تطل على الحرم المكِّي .
لذلك فالحج هو الفريضة الإسلامية الوحيدة وبمعيتها الزكاة كما أوضحنا سابقاً التي نجد فيها إنعداماً تاماً و بيِّناً للمساواة بين المسلمين ، على عكس الزاعقون بحِكَم الحج ومقاصده وأهدافه الإشتراكية ، إذ الحج اليوم ما هو إلاّ تكريسٌ للتفاوت الطبقي حتى في الدين ، فصاحب المال هو من يملك الإستطاعة للحج ، وصاحب الثراء هو من سيستمتع بالحج أكثر من غيره حتى وجدانياً لإمكانية المكوث بجناح فندقي يطل على المناطق أو المزارات المقدّسة ، فضلاً عن الإستحقاق المالي للدولة التي تحتوي الكعبة دوناً عن باقي دول العالم الإسلامي لا لشئٍ إلاّ لصدفة الميلاد الإسلامي الذي تم بهذه البقعة الجغرافية ، رغم أنّ دولاً إسلامية أُخرى أشدّ فقراً من السعودية هي أولى بريع ومداخيل الحج البذخيّة التي تؤول إلى السعودية المُتخَمة نفطياً كلّ عام .
ثم ما هي الحوجة للمؤتمر الإسلامي الذي يجمع فقط لفيفاً من المستطيعيين مالياً وبدنياً من المسلمين ؟ هل لمناقشة مشاكل المسلمين كما يزعق البعض وهذا ما لا يحدث بالحج ؟ أليس بإمكانهم لأجل ذلك الإلتقاء إسفيرياً عبر مواقع التواصل الإجتماعي سيّما إذا علمنا أنّهم قادرين مادياً على دفع تكاليف فواتير الإنترنت التي لا تُضاهي ضخامة فواتير الحج التي تبلغ قرابة العشرة الآف دولار بالنسبة للحج السياحي . أم يا تُرى هذا المؤتمر الإسلامي ( الحج ) مهمٌ فقط لممارسة تلك الطقوس الموروثة من الوثنية ؟ هذه مقدورٌ على حلِّها ، فبالنسبة للسعي بين الصفا والمروة أو الهرولة بينهما فبالإمكان فعل ذلك عبر الركض أو السعي والهرولة كيما إتفق معهم في أيّ ممرٍ من الممرات أو الشوارع ، وبالنسبة للطواف حول الكعبة فيمكن أن يذهب المرء إلى أيّ غرفة مربعة ويستأذن صاحبها ويطوف حولها سبعة مرات بنية التعبد لله الذي لا تحده الأمكنة أو الأزمنة ، وبالنسبة لرجم الشيطان فما أكثرهم شياطين الإنس بين ظهرانينا و الذين يستحقون الرجم نكالاً أكثر من شياطين الجن ، إذ يكفي الإشتراك في أيّ مظاهرة في أحد البلدان الإسلامية ضد حاكمها الطاغية وقذف رجال الأمن والشرطة ( جنود الطاغية ) ببلداننا الذين يسدون عين الشمس وتستخذي أمام جرائمهم مردة شياطين الجن !
خلاصة القول : الحج مؤتمر أو فعالية لإستعراض مدى الإستطاعة المالية وحجم الثراء ، ونلحظ ذلك بوضوح في تركيز الحاج وزويه على إبراز نوع الحج الذي أدّاهُ الحاج لو كان سياحياً ، والتباهي بذلك أمام الملأ من الجيران وأهالي الحي الذي يقطنه الحاج ، وأمام أقاربه ومعارفه وزملائه .
الحج تجسيد حي لمدى الهُوّة الشاسعة بين فقراء المسلمين وأثريائهم ، وباعثٌ لمشاعر الألم لدى هؤلاء الفقراء الذين تعلق وجدانهم بشعائره ـ أي شعائرالحج ـ وقصرت جيوبهم عن أداء وتحقيق هذا التطلع والطموح الوجداني ، وما أبلغ شيخنا ـ قدّس الله سرّه ـ عبد الرحيم البرعي اليماني وهو يصف هذا الشعور بالحرمان من الحج والآلآم التي يتسبب لهُ بها الحجاج في قصديته المشهورة والرائعة ( يا راحلين إلى منىً بغيابي * هيجتموا يوم الرّحيلِ فؤادي ) .
الحج هو تبديدٌ للأموال التي تحتاجها الأقطار الإسلامية وأفراد الأُمّة الإسلامية في دعم أولوياتٍ أُخرى خلافاً لتلك الطقوس على أهميتها الدينية طبعاً بالنسبة لأثرياء المسلمين ، أولوياتٌ مثل محاربة الفقر ، والأُمِّيّة ، والبطالة بين الشباب ، ودعم المؤسسات التعليمية ، وإنشاء المستشفيات والمرافق الصِّحيّة وغيرها من ضرورات الحياة ، فالدين بوصفه مشروع يزعم أنّ مُناطه الإنسان يجب أن يبدأ بالإنسان ، فالذي أنزل الدين ليس بحاجةٍ إلينا ، ولم يُنزله لأنّه يحتاج لنا ، ولكنه أنزله خدمةً للإنسان . لذلك أتمنى أن يتحول الحج إلى صندوق تبرعات ضخم يجوب الدول الإسلامية كلّ عامٍ ، ويُخصّص لدعم التعليم والصِّحة ومحاربة الأُميّة والفقر والبطالة .
وحسنٌ فعل بعض المنتمين لتيارٍ إسلامي تجديدي بعضهم يُطلقون على أنفسهم ( القرآنيين ) عندما أعلنوا وثنية الحج الذي يُؤدَّى في مكّة وما جاورها ، حيث قالوا بأنّ الحج هو طوافٌ على المساكين بالطعام . وبغض النظر عن مدى صدق تأويلهم الديني هذا إلاّ أنّني أجده ملائماً لحاضرنا ومُبشِّرٌ بمستقبلنا سيّما لو طورنا قول القرانيين بإطعام المساكين إلى القول بمحاربة الفقر والمسكنة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معاً ضد كلّ سلطة ظلامية تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور الحرِّية حباً في الإستبداد وتعلقاً بالسيطرة !