الجوع والبرد والظلم

جلستُ على مقعدي أمام الكمبيوتر بقميص نوم أكمامه طويلة وببنطال مصنوع مثل القميص من القطن المصبوغ باللون syrmeserالأزرق,وأغمضت عينيا وأنا أسترجع ماضي حياتي كله منذ أن وعيت على هذه الدنيا حتى اليوم هذه الدنيا التي غدرت بي كثيرا ولم اغدر فيها يوما واحدا,هذه الدنيا التي عشتها بالطول وبالعرض ولم أؤذِ فيها إنسانا واحدا رغم أن الذين آذوني كثيرون ولا حصر لهم, استرجعت ذكرياتي أيام الطفولة وأيام لم أكن أجد لُعبة ألعبُ فيها, أيام الجوع والبرد معا, فبعض الناس في بعض الأوقات يجربون الجوع أو البرد ولكن قلة هم الذين جربوا مثلي الجوع والبرد في آنٍ واحد..أيام كنتُ أذهب إلى المدرسة من غير مصروف جيب ومن غير أن أجد خمسة قروش أشتري فيها قلما لأكتب فيه واجباتي المدرسية وأيام كرهي للمدرسة ولأساليب التعليم حين كان أستاذ الرياضيات يضع ثلاثة أقلام بين أصابعي على أتفه غلط أو على أقل حركة أقوم فيها, تذكرت كل شيء, تذكرت أولئك الذين كانوا يأكلون السندويشات وأنا أنظر إليهم ويكاد الجوع أن يقتلني ويكاد البرد أن يفتت عظامي ويجمد الدماءَ في عروقي, جلستُ على المقعد وبدأت أغمض عينيا بشكل أكثر دقة وعمقا حتى أنني اجتررت مثل الأبقار ما في معدتي من طعامٍ قديم, بدأت أشعر بنوبة من الحزن العميق, بدأت أشعر بالذكريات وبالصور وهي تتدحرج من أمامي, وصرت أميل بجسمي من فوق الخصر وصرت أهز بظهري للأمام وللخلف حتى بدأت أشعرُ بأنني أركب أرجوحة للأطفال, أخذني البردُ والجوعُ والحزن بعيدا, تذكرت الواقع المرير الذي تعيشه كل الناس وبدأت عينيا بالدموع, وفجأة جاءت قطتي البيضاء التي أنجبت منذ أسبوعين ثلاثُ قطط وبدأت تحك فروها الأبيض في بنطالي فشعرتُ بأنها جائعة وتريد مزيدا من الدفء والحنان فنهضت من مكاني ووضعتُ عليها غطاء دافئا, ولا أحد في جواري يشعر بي أو بالقطة, فكل من كانوا في البيت خرجوا في زيارةٍ إلى بيت الجيران, وهجم الظلامُ عليّ وبدأ الظلام بهجومه وبانتشاره الكاسح من حولي حتى غابت الألوان من على الحائط وغابت معها ملامح الصور المعلقة هنا وهناك, والمكان هادئ جدا لم اعد أسمع فيه إلا صوت تكات الساعة الكبيرة المعلقة على الحائط تتبعها دقات قلبي التي بدأت أشعر فيها هي أيضا بخطوات وقفزات أسرع من دقات الساعة, هكذا هي الحياة تبدو لي حين لا يكون أحدٌ إلى جواري, لا أستمع إلا لصوتي ولا أقرئ إلا كلماتي.

الفقر ليس عيبا,والجوع ليس عيبا بل هو عادة من عاداتنا التي أصبحنا نقدسها فعلا, والموت ليس عيبا والحياة ليست عيبا بل هو قدرٌ محتومٌ علينا, والجوع ليس عيبا والبرد ليس عيبا ولكنهما قاسيان جدا ولسعاتهما حارقة,الحياة بكل تفاصيلها ممتعة حين نستعيدها للحظات, نعيش السنين الطويلة ومن ثم نستعيدها كشريط إخباري في دقيقة واحدة, آهٍ ما أطول الأيام وما اقصر الذاكرة! آهٍ على تلك الأيام التي مضت ولم يأتينا مثلها, آهٍ من البرد ومن شدة الجوع!!حتى الأيام التعيسة نحن إليها, حتى الحوادث التي زُهقت فيها أرواحنا نحن إليها, والذين ظلمونا والذين أساءوا فهمنا نَحِنُّ إليهم مرة أخرى ونشتاق إلى لذة الطعنات بالسكاكين, والذين غدروا فينا نشتاق إليهم, والذين أحاطونا بالإشاعات نشتاق إلى إشاعاتهم المغرضة , والذين تسببوا في شعورنا بالجوع وبالبرد أيضا نحنُّ إليهم , والذين اسعدوا بعض اللحظات في حياتنا ننساهم بسرعة ولا نشتاق إليهم, نحن لا نَحِنُّ إلا لطعم الآلام وطعم الأحزان وكأنها ألذ من طعم الفرح, تسودُّ الدنيا في وجوهنا وتغلقُ الأبوابُ في وجوهنا وتمر الأيامُ والسنين ونحن ما زلنا كما نحن , ما زلنا نعاني من نفس معلم المدرسة الذي كان يضع الأقلام في أصابعنا, صحيح أن زمنه قد انتهى وغاب هو إلى الأبد ولكننا ما زلنا نواجه نفس الأسلوب, ولن أنسى أيام شعوري بالجوع وبالبرد القارص في المدرسة وفوق هذا كله يأتي الجلاد من حيث لا أدري ليضع أقلامه بين أصابع يدي, فعلى أقل هفوة نهفها لا يرحمنا أحد, الجوع من ناحية والبرد من ناحية والضرب من ناحية وأحيانا يستبدل الضرب بالأقلام إلى الضرب بالعصا على مؤخرتي ويسميها(العزيزة) فيقول لي:إلى الخلف دُر.. وعلى أقل غلطة نغلطها لا يمكن أن ينساها لنا أحد, إلا أنا, صحيح أنني أتذكر الأيام العصيبة الجوع والبرد والضرب ولكنني لا أحقد نهائيا وأنسى بسرعة الذين ظلموني ولا أحقد على أحد, ربما لأنني أعيش بقلب إنسان حساس وشاعري ومرهف ووجداني وعاطفي وميال للحب وللرومانسية وللفن بكل أشكاله وألوانه ولكن لم أكن أدري!!هل أبكي من شدة الجوع أم من شدة الألم أم من شدة الضرب!!! تربيت على ثقافة الإنجيل أو ربيت نفسي عليها فلم يشأ اللهُ لي أن تربيني المدارسُ الإرهابية والجامعات, فلو ربتني المدارس والجامعات فربما نشأت نشأة إرهابية أرهبُ الناس وأفزعهم, وأنا شعاري أن أعيش مظلوما أفضل لي من أن أعيش ظالما, وأن أعيش جائعا أفضل لي من أن أعيش ممتلئ البطن, وأن أموت جوعا أفضل لي من أن أموت بالتخمة, فلو عشتُ شبعانا ربما سيحاسبني الناسُ أولا على شبعي وربما سيحملني بعض الناس على أسباب جوع الكثير من الجياع, ولكن الحمد لله على الجوع الذي أنا فيه, والحمد لله أنني دائما إنسانٌ مظلوم نوعا ما, فلو عشتُ ظالما ربما أتحمل سبب ظلمي للآخرين, ومن هذه الناحية أنا أطمئنكم جدا يا أصدقائي عليّ فلن يحاسبني أحد يوم الدينونة الأعظم, ولن يشاركني أحد في جوعي وفي تعبي وفي شقائي, كله لي خير, وكله محسوب في حسابي وفي ميزان حسناتي.

فتحتُ عينيا أمام السواد الأعظم وهو أمامي وتكات الساعة تدقُ بتأني, وعادت القطة تلعب بين أرجلي ورفعتُ يدي إلى الله وشكرته كثيرا على نعمة الفقر, فأهم نعمة من نِعم الفقر أو أهم ميزة من ميزاته أنه ينجي صاحبه من كثرة الأصدقاء الذين لا يوجد لهم أي داعي, وشكرتُ الرب على نعمة الجوع لأني غيري من الناس هو من سيتحمل مسئولية جوعي , أنا لا أتحمل مسئولية الناس الذين يموتون جوعا أو من شدة البرد, لأني مثلهم ضحية في هذه الحياة, ولا أتحمل مسئولية ظلم الناس, فلستُ قاضيا ولست محاميا ولست مدير بنك ولا صاحب شركة كبيرة, أنا ضحية في هذه الحياة ليس أكثر ولا أقل, منذ نعومة إظفاري وأنا أُعاني من لسعات الجوع, وبالمناسبة الجوع مثله مثل البرد لسعاته كبيرة وشديدة وقوية , اسألوني عن الظلم والجوع والبرد كثيرا ولا تترددوا, فأنا خبرتُ الجوع جيدا وبشكل مثير للدهشة وجربت البرد كثيرا وكدت أن أموت من شدة الجوع والبرد معا في بعض السنين وليس الأيام.

About جهاد علاونة

جهاد علاونه ,كاتب أردني
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.