قبل 30 ثلاثين عامٍ تقريباً وأكثر في الأردن كانت مشاهدة التلفزيون الأردني يغلفها الكثير من الخجل والحياء, وكان مقدم البرامج جامد جدا لا يبتسم ولا يظهر أي سنٍ من أسنانه وكانت مقدمة البرامج أكثر منه جمودا وجدية, وكانت غمزة عين الفنانة(سميره توفيق) أكثر المشاهد إثارة وسخونة على الإطلاق وكنت أشاهد الشباب وأنا شاب يافع ينهضون من أماكنهم ويصفقون ويهللون الله أكبر, عندما تغمز سميره توفيق بعينيها وكان الرجال يتندرون على هذه الغمزة ويسخرون من أنفسهم حيثُ أن كل رجل يدعي بأن سميره توفيق غمزته, وهذا قبل أن تعرف الشباب المحطات الفضائية وهيفا وهبي ونانسي عجرم وغيرهن من الممثلات , وكان الرجال البسطاء إذا أرادوا أن يتحدثوا عن مسئول حكومي بأنه فاسد يقولون عنه: رأيناه في سيارته بعمان برفقة الشحرورة(صباح) أو برفقة سميره توفيق, وكانت أخبار الساعة الثامنة مساء من عمان تنتظرها الناس بفارغ الصبر , وكانت معظم الناس تستفيد من أخبار الثامنة مساء شيئا آخر غير السياسة إذ أن جميع الناس رجالا ونساء ينتظرون أخبار الثامنة بفارغ الصبر لضبط ساعاتهم على دقة ساعة التلفزيون الأردني, وكان صاحب الساعة المضبوطة بدقة يفتخر ويقول: ساعتي الآن تمام الثامنة بدقة, وكان الرجال لا ينامون إلا بعد الاستماع لأخبار الساعة الثامنة وكانت السهيرة من الناس تشاهد المسلسل التلفزيوني الذي يأتي بعد أخبار الثامنة ومن ثم يذهبون إلى النوم بعد أن يرتدي كل واحدٍ منهما بيجامة للنوم أزرارها كبيرة وظاهرة للعيان قبل أن يعرف الأردنيون البناطيل الرياضية, وكانت أخبار الحرب العراقية الإيرانية هي افتتاحية نشرة الأخبار سواء أكانت بالعربية أو الإنكليزية,كانت الحرب العراقية الإيرانية هي أكثر المشاهد عنفا أو الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني ولم نكن نعرف أو نرى قطع الرؤوس وذبح النساء وكنا نسمع عن أخبار الحرب في لبنان بشيء من عدم المبالاة ولم يكن الأمر يعنينا بكثير أو بقليل, وكل ما نذكره هنا كان يقع بين 1978-19885م.
ولم نكن نعتقد أن لحروب دول الجوار أي تأثير سلبي على حياتنا واقتصادنا ونفسياتنا كما هو اليوم حيث أن أي حدث في سوريا أو العراق ينعكس تأثيره على اقتصادنا فورا وينعكس على أنفسنا, وكنا نعتبر صبرى وشاتيلا أكبر مذبحة عرفناها على مدى العمر قبل أن تظهر داعش و(ماعش )والنصرة و(المُصرة) , وما قامت به داعش اليوم من ذبح وتقتيل وقطع للرؤوس يفوق 1000 مر ة ما فعلته إسرائيل على مدى ستين عاما, وكانت المسلسلات تتكون فقط من 13 ثلاث عشرة حلقة وهذا أطول مسلسل كان من الممكن أن ينتجه التلفزيون الأردني, قبل أن نعرف المسلسلات المكسيكية الطويلة والتركية , وأول المسلسلات التلفزيونية الطويلة المسلسل الإنكليزي المترجم تحت عنوان(البيت الصغير) حيث زاد على مئات الحلقات, وكانت أمي لا تذهب إلى المطبخ لتصنع لنا إبريق الشاي إلا أثناء الدعايات والإعلانات خشية أن تضيع عليها دقيقة أو دقيقتين من المسلسل وبذلك تبقى أمي جالسة دون أن تحرم نفسها من متعة المشاهدة , وكان (زهير النوباني) يعتبر رمزا للشر في معظم المسلسلات البدوية والفلاحية حيث دائما ما يلعب دور الرجل الشرير الذي يحب الشر وكنت أسمع أهلي كلما ظهر زهير النوباني يسبونه ويشتمونه بأقذع المسبات, وكان الممثل(إبراهيم أبو الخير) رمزا للفساد وللنذالة وهما أكثر ممثلين مكروهين حتى اليوم عند كل الناس لدرجة أنه لا يستطيع اليوم أحد أن يصدق بأن هذين الممثلين من الممكن أن يكونا شخصية طيبة جدا على أرض الواقع خلف الكاميره, فهم يتخيلونه خلف الكاميره مثلما هو أمام الكاميره, كما كان يتخيل المسلمون المرحوم فريد شوقي في دور الشرير, وكان مما يميز المسلسلات الأردنية أن يكون هنالك رجل يلعب دور(الأهبل) وفي هذا المجال برعم نجم ربيع شهاب,النجم الذي فقدناه بسبب مرض عضال ألمَّ به نسأل الله أن يشفيه منه تماما, وهوالرجل الذي دائما ما يكون أهبل وطيب ومسكين وفي بعض المسلسلات كان من الممكن أن يفاجئ الأهبل الجمهور من النظَارة حيث يكشف في النهاية عن وجهه الحقيقي ليظهر بأنه ليس أهبلا بل رجلا جاء من قرية بعيدة لأمرٍ ما, وطبيعة عقدة المسلسلات الأردنية أن يموت الأب ويسرق العم مال أخيه وأرضه ويكبر الأولاد ويطالبون عمهم بحقهم ويرفَ العم ويكبر الأولاد ويدخلون الجامعات ويعشق الابن الفقير ابنة العم الغنية وفي النهاية يتزوجان من بعضهما بعد أن يعطي أبناء أخيه حصتهم من الأرض والبيت والمزرعة بعد أن يُظهر لأبناء أخيه وزوجة أخيه ندمه, وقس على ذلك كل أو معظم الإنتاج التلفزيوني الأردني, وكان الشاي تقدمه أمي لنا وللضيوف ساخنا أثناء مشاهدة المسلسل,ولم نكن نعرف القهوة ولم نكن نشاهدها إلا إذا حضر منزلنا ضيف غريب جدا وكان الرجال والنساء لا يذهبون إلى المرحاض وهم يشاهدون المسلسل خشية أن تضيع عليهم من المسلسل لقطة مهمة إلا أثناء الدعايات التي تأتي ثلاث مرات في كل ربع ساعة مرة واحدة لمدة 15 خمسة عشر دقيقة, وكان الرجال والنساء والأطفال أثناء مشاهدتهم للمسلسل يعانون جميعهم من (حَصر البول) وينودون بأجسامهم يمينا ويسارا وهم ينتظرون الدعاية بفارغ الصبر حتى يذهبوا إلى المرحاض وكنا أثناء الدعاية نزدحم أمام المرحاض وبما أننا أطفال فقد كنا نترك المرحاض لكِبار السن ونذهب إلى الحواكير لكي نقضي حاجتنا, وكان الناس يتسلون بالدعايات ويطلب كل فرد من أفراد العائلة حظه فيقولون هذه الدعاية من حظ جهاد أو محمد أو محمود,وكنا نمزح كثيرا ونضحك كثيرا أثناء الدعايات وكنا نضحك على دعاية الطفل الذي تسقيه أمه حليب(نيدو) مع البسكويت ونقول:(من يوم ما جبنا التلفزيون والولد هاظا بشرب حليب وبعده ما كبرش), وكان التلفاز في فصل الصيف إذا جاء وقت المغرب يخرج إلى قاع الدار يعني خارج البيت ولم نكن نعرف لا المراوح ولا الكندشنات,وكان التلفزيون يبدأ بثه في الخامسة مساء ويوم الجمعة من العاشرة صباحا ويتوقف عن البث قبل الساعة الثانية عشر ليلا, كان يفتح ويغلق أبوابه وكأنه دكان أو مطعما في وسط المدينة وكانا كأطفال نجلس أمام التلفاز ننتظر بداية البث قبل أن يجلس الكبار ذلك أنه كان يبدأ بثه بآيات قرآنية وبعد ذلك يبدأ ببث برامج الأطفال من أفلام كرتون وغيرها..كانت برامج الأطفال عبارة عن (مغامرات الفضاء-إجرندايزر) أو (السندباد) و(توم وجيري) و(سكيبي دو) و(حكايات جدتي) و(السيف السحري) للفنان حسن أبو شعيره , وكانت أغلب التلفزيونات بالأبيض وبالأسود ولم نكن نعرف التلفزيونات الملونة, وكنا نشاهد 3 ثلاثَ محطات فقط لا غي وهن:عمان,سوريا,إسرائيل, قبل أن نعرف اليوم أكثر من 1000محطة فضائية, وكانت المصارعة ينتظرها الناس بفارغ الصبر يوم الثلاثاء وفي أوائل الثمانينيات بدأ تلفزيون الشرق الأوسط من لبنان ببث برامجه الأجنبية وأهم برنامج كان برنامج المصارعة يوم الخميس وكنا في أثناء البث لا نخرج إلى الشارع مطلقا ومعظم الناس كذلك ولو خرجت أنت عزيزي القارئ إلى الشارع العام لظننت بأن حارتنا أو قريتنا بالكامل لا يوجد فيها سكان مطلقا فإذا انتهت المصارعة خرجت الناس إلى الشارع وكان الرجال والنساء من كِبار السن ينظرون إلى التلفزيون وهم يقولون:( الله أكبر الخشب والحديد صاروا يحكوا,هذي الدنيا خلص آخر وقت!!), وأهم برامج التلفزيون الأردني تسلية كان برنامج فكر واربح,الذي كان يقدمه المرحوم رافع شاهين, وكان طلاب الجامعات هم أبطال البرنامج وكان الخجل والحياء يلفهما ويجلسون بملابس كلها حشمة ووقار,وكان برنامج(مضافة الحج مازن) أكثر البرامج واقعية وتعليمية وتربوية للكبار حيث كان البرنامج ينتقد ويعالج السلوكيات الجمعية السلبية ويركز عليها بشكل كبير,وكما قلت لكم لم يكن التلفزيون أو الإنتاج التلفزيوني يستغني عن دور الأهبل أو المجنون فكان (توهان) هو الأهبل الذي يجلس بمضافة الحج مازن القبج وكان معه أهبل آخر هو(أبو سرور) وتبعه بذلك المسلسل التلفزيوني(حارة أبو عواد) حيث كان (سمعه) النجم(موسى حجازين) يلعب دور الأهبل والمسكين وبدون دور الأهبل والمسكين لم نكن لنرى على المسلسل أي طعم لذيذ ومن الممكن أن يفقد المشاهد المتعة من المسلسل إذا سحب المخرج منه الأهبل أو الشرير وكانت الفنانة عبير عيسى في مسلسل حارة أبو عواد أجمل ممثلة أردنية عرفها التلفزيون الأردني, وكان الفنان السوري دريد لحام(غوار الطوشه) هو أكثر المبدعين نقدا سياسيا واجتماعيا قبل أن نعرف الكِتابات الساخرة , وكنا نشاهده كبارا وصغارا ونحن ملتفون حول التلفزيون نضحك ونصمت بكثير من المبالغة.
كنا نجلس أمام التلفزيون الأردني بكثير من الوقار والاحترام,أما اليوم فلم يعد يلقى التلفزيون الأردني احترامنا المعهود له, ذهب بريقه منذ أواخر التسعينيات من القرن المُنصرم , لقد كنا نجلس أمامه بصمت وبخجل واليوم يكون المذيع مشغولا في برنامجه وأصواتنا ترتفع أمامه دون أن تهتم لأقواله وإعلاناته, وكانت أمي تحرمنا من روح ومتعة المشاهدة مدة أربعين يوما إذا مات قريبٌ لنا أو جارٌ لنا فكانت عادة الأردنيين إقفال التلفزيون الأردني لمدة أربعين يوما, وإذا سمحت لنا بمشاهدته قبل الأربعين يوما كانت تغطي الشبابيك غطاء محكما وتنبهنا كي لا نقول أمام الناس بأننا شاهدنا التلفاز لكي نحافظ على سمعة البيت عاليا, أما اليوم فإننا نبقى أحيانا شهرا كاملا أو شهرين دون أن نشاهد التلفزيون الأردني الذي احتلت الفضائيات مكانه, ولم نعد نقفل التلفاز حدادا على موت أحد أقاربنا, فالناس اليوم لا يكترثون بالموت ويطبلون ويزمرون في الحارة التي يموت فيها رجلٌ كبير أو شابٌ صغير.