التاريخ المسيحي للشرق الذي يريد المتطرفون إلغاءه

بقلم د. عماد بوظو/
في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2017 أقدم شخص مسلح بساطور على قتل الكاهن القبطي سمعان شحاته في القاهرة. وقبلها في 26 أيار/مايو 2017 كان قد جرى إطلاق نار على حافلات تقل أقباطا أدّى إلى استشهاد 29 منهم بينهم أطفال، كما تمت عملية ذبح قبطي أمام محله في الإسكندرية قبل ذلك. وهناك حالات أخرى تمّ فيها مهاجمة وإحراق كنائس ومتاجر ومنازل يملكها أقباط، وفي سورية والعراق أقدم داعش على إحراق وتدمير الكنائس التي استطاع الوصول إليها وقتل عدد من المسيحيين بينهم الأب باولو صديق الثورة السورية واستعبد النساء كجوار، ولا يمكن نسيان منظر ذبح 21 قبطيا على شاطئ البحر جنوب سرت في ليبيا. من المؤكد أن هؤلاء المجرمين لا يعرفون شيئا عن الديانة المسيحية وتاريخها وانطلاقها من شرق المتوسط لكل العالم لتصبح الديانة الأوسع انتشارا بعدد يفوق 2.2 مليار مسيحي ولا يعرفون حتى تاريخ الإسلام.
ولد المسيح في مدينة بيت لحم وأمه مريم من مدينة الناصرة في الجليل، “فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشرا سويّا” سورة مريم آية 17، “إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه” سورة النساء الآية 171 – وهو النبي الوحيد في القرآن الموصوف بأنه روح الله وكلمته في تطابق مع ما يقوله المسيحيون عنه، وكان المسيح يحج إلى القدس التي هي أولى القبلتين في الإسلام، كما عمّده يوحنا المعمدان في نهر الأردن. “يوحنا هو النبي يحيى حسب التسمية الإسلامية والمدفون في الجامع الأموي في دمشق” ثم اصطحبه يوحنا مع ثلاثة من تلاميذه إلى جبل الشيخ “حرمون” حيث حدث التجلّي، وفي النهاية عاد إلى القدس حيث تناول العشاء الأخير مع تلاميذه الاثني عشر، ومن ثم تمّت محاكمته بشكل سريع وقام الرومان بصلبه ليقوم بعد ثلاثة أيام ويصعد للسماء “والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّا” سورة مريم الآية 33. تدور كل هذه الأحداث في منطقة جغرافية واحدة هي جنوب سورية ولغة المسيح وتلاميذه هي الآرامية التي هي لغة سكان سورية الطبيعية التي تعود بداياتها للقرن العاشر قبل الميلاد والتي تفرّعت منها في ما بعد اللغات السريانية والعبرية والعربية، ولم يتبقَّ الآن سوى ثلاث قرى تتكلم الآرامية موجودة في منطقة القلمون شمالي دمشق.
خرج رسل المسيح للتبشير إلى كل أنحاء العالم لكن في المنطقة الممتدة من حوران إلى دمشق تشكّلت نواة المؤمنين الأوائل الثابتة والقاعدة الأولى والتي منها تابعت المسيحية انتشارها، وبعد سنوات في الطريق إلى دمشق حدثت الرؤية لشاؤول المولود في طرسوس وآمن بالمسيح وتحول من اليهودية للمسيحية وأصبح اسمه بولس الذي قام القديس حنانيا الدمشقي بتعميده وعلاجه ليمضي في التبشير ويصبح ثاني شخصية في التاريخ المسيحي بعد المسيح نفسه. وفي أنطاكية تم إنشاء الكنيسة الأممية الأولى التي أسسها بطرس الرسول “بالسريانية هو سمعان” والذي يعتبر الصخرة التي قامت عليها الكنيسة، وفي أنطاكية تمّ إطلاق تسمية المسيحيين على أتباع المسيح لأول مرّة وكانت الصلوات فيها تقام باللغة السريانية، وانتشرت المسيحية في كل سوريا وتشهد الكنائس في طول البلاد وعرضها على ذلك، وحتى أن أقدم كنيسة في العالم مكتشفة حتى اليوم هي دورا أوروبوس قرب دير الزور. في العصر الإسلامي كان المسيحيون السوريون هم من وضع الأسس للدولة الأموية ونظموا دواوينها وزودوها بالخبرات المطلوبة وترجموا للعربية كتب الفلك والطب والرياضيات والفلسفة اليونانية، وحتى دخول الدولة العثمانية في بدايات القرن السادس عشر كانت سوريا بلدا ذا أغلبية سكانية وثقافة مسيحية، وحتى في بداية القرن العشرين كان 25% من سكان سوريا مسيحيون لينخفضوا اليوم لأقل من 8%.
للمسيحية في مصر قصة أخرى لا تقل أهمية، فقد دخلت المسيحية إلى مصر عن طريق القديس مرقس وهو الذي كتب أول إنجيل في المسيحية وبدأ تبشيره في الإسكندرية بحدود العام 60 للميلاد، وخلال خمسين سنة أصبحت مصر كلها مسيحية لكن مصر طبعت المسيحية بطابعها الخاص فأنتجت الكنيسة القبطية التي تعتبر المسيحية بنسختها المصرية وهي مستقلة لا تتبع أي كنيسة أخرى. إنها حالة نادرة لديانة وطنية تتطابق فيها حدود الرعيّة الدينية مع الحدود السياسية، كما برزت في ذلك الوقت كنيسة الإسكندرية كأهم الكنائس في العالم المسيحي ومدرستها اللاهوتية التي كانت الأول والأشهر في عصرها لعدة قرون. وكان من إضافات مصر على المسيحية فكرة الانعزال عن العالم الخارجي للتأمل والعبادة، أي الرهبنة والتي منها انتقلت إلى بقية العالم. بقيت مصر مسيحية بالكامل ألف عام حتى بدايات الألف الثاني أثناء الدولة الفاطمية، وعندها بدأت أعداد المسيحيين بالانخفاض تدريجيا نتيجة عدة عوامل بينها التمييز في القوانين والتضييق على غير المسلمين لتصل الآن إلى ما بين 7-9% من عدد سكان مصر. شهدت هذه القرون تفاوتا في درجة الاضطهاد الّذي يتعرض له المسيحيون والذي كان – يزداد طردا مع كل أزمة أو هزيمة أو تدهور للوضع المعيشي تشهده مصر، وكان من الأسباب الكامنة للتوتر بعض القوانين التي تقيّد بناء الكنائس أو ترميمها أو توسعتها وتضع أمامها الكثير من العوائق والعقبات وعدة قوانين أخرى كان فيها تمييز بحق الأقباط، وفي الوقت الحالي صحيح أن العمليات الإرهابية الكبيرة المخطط لها مسبقا قامت بها تنظيمات إسلامية متطرفة مرتبطة بداعش أو القاعدة وأمثالهما، ولكن الحوادث التي وقعت نتيجة شائعات عن استخدام منزل ككنيسة أو توسيع كنيسة قديمة بدون إذن أو مسرحية تعرض مشهد يرون فيه إساءة للدين وما شابه، هذا النمط من الحوادث لا علاقة للقاعدة به بل هو مؤشر على ثقافة كراهية يغذيها الجهل وبعض رجال الدين، وفي كثير من هذه الحالات كان موقف الدولة ضعيفا ولا يتناسب مع حجم هذه الجرائم، إن قصة الأقباط في مصر هي ملحمة حقيقية للصمود والحفاظ على الهوية لقرون طويلة في وجه التمييز والجهل والتعصب يحق لأبنائها الفخر فيها.
في الجزيرة العربية قبل الإسلام تاريخ المسيحية مماثل لسوريا ومصر، من اليمن جنوبا والتي شهدت من القرن الثالث حتى السابع الميلادي تناوبا في التحول بين المسيحية واليهودية. وقد قال الثعالبي والفيروز آبادي إن أغلب ملوك اليمن وشعبه كانوا من المسيحيين، إلى نجران شمال اليمن والتي كانت مسيحية بالكامل حتى العام العاشر للهجرة 632 ميلادي حين دخلت الإسلام. في الساحل الشرقي للجزيرة العربية من عمان حتى البحرين انتشرت المسيحية بشكل واسع وكانت أكبر القبائل فيها، بنو تميم، قد دخلت المسيحية وكذلك قبيلة كندة المنتشرة من الساحل الشرقي حتى نجد والتي دخلت المسيحية أيضا. وفي الشمال حتى حدود العراق نجد المناذرة المسيحيين، أما الساحل الغربي للجزيرة العربية ومنطقة الحجاز من حدود اليمن جنوبا حتى دولة الغساسنة في شرق الأردن وبصرى شمالا بما فيها مكة والمدينة فهي تعتبر امتدادا ثقافيا لسوريا الطبيعية تتكلم اللهجة العربية من السريانية وتكتب بها وتنتشر فيها المسيحية واليهودية مثل بقية المدن السورية، في مكة اعتنق بنو جرهم المسيحية وأشرفوا على خدمة البيت الحرام قسطا من الزمن وتنصّر معهم بنو الأزد وبنو خزاعة واعتنق هذا الدين بعض الأسر من قريش مثل عبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث وزيد بن عمر وورقة بن نوفل. وبالإجمال فإن عددا كبيرا من القبائل في الجزيرة العربية كان مسيحيا مثل بكر وتغلب ووائل بن ربيعة وطي ولخم وسليخ وتنوخ وحنيفة وغطفان، ولا مجال لتعدادها كلها. وانتشرت المسيحية بمجهود الرهبان الذين انتظموا في أبرشيات عليها أساقفة ورؤساء أساقفة من الحضر المقيمين في المدن وأساقفة الخيام الذين ينتقلون مع قبائلهم، وفي الشعر العربي نجد أكبر الشعراء العرب قبل الإسلام كانوا مسيحيين مثل أمرؤ القيس زهير بن أبي سلمى طرفة بن العبد عنترة بن أبي شداد عمرو بن كلثوم حاتم الطائي النابغة الذبياني الحارث بن حلزة وعشرات غيرهم. كما نلاحظ أن كل أصحاب المعلقات هم من المسيحيين، والتي كانت أشعارهم تكتب بماء الذهب وتعلق على الكعبة في مكة نفسها التي يمنع المسيحيون من الدخول إليها اليوم، أي أن المسيحية جزء أساسي من تاريخ جزيرة العرب وهناك حاجة اليوم للسماح بالتنقيب عن الآثار في هذه المنطقة وكذلك بناء الكنائس عند وجود عدد معقول من المسيحيين في أي منطقة وإعادة النظر في القوانين لتتماشى مع العصر.
إن المسيحية مكوّن رئيسي في البنية الثقافية والنفسية والأخلاقية للحضارة الحديثة وهذا يجب أن يكون مصدر فخر لأبناء المنطقة التي ولدت وتشكلت فيها المسيحية وليس سببا للغضب، كما أن معرفة سكان شرق المتوسط بأن أجدادهم كانوا مسيحيين لا ينسجم مع ثقافة الكراهية والإرهاب التي يروج لها المتطرفون، لذلك نراهم يحاولون طمس وإلغاء هذه الفترة الخصبة من التاريخ المسيحي للشرق والتي تركت بصماتها الكبيرة على كل البشرية.
ــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.