الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (7)

mostafalidawiانتفاضة المدية والخنجر والسكين

لكل انتفاضةٍ ما يميزها وما يمنحها هويتها الخاصة وطابعها المميز، ولكلٍ منها سلاحها وأدواتها، ومفرداتها وأساليبها، وأهدافها وغاياتها، كما لها أبطالها ورجالها، ورموزها وقادتها، ولو أنها تقاطعت في بعض الأحيان في الشكل والأسلوب، وفي الأداة والوسيلة، نظراً لقلة الخيارات، وانحصار الأدوات ومحدوديتها نتيجة الإجراءات الأمنية المشددة، والمتابعة والملاحقة الدقيقة، التي كانت تحول دون التنوع والتبديل، والابتكار والاختراع، فضلاً عن عمليات الاعتقال الواسعة جداً، والقمع الشديد المتواصل بقصد وقف الانتفاضة وإنهاء فعالياتها، إلا أن الفلسطينيين في انتفاضاتهم السابقة والجديدة الثالثة، لا يعدمون وسيلةً، ولا يعلنون اليأس والاستسلام، بل كانوا دائماً يبتكرون الجديد، ويتواءمون مع الواقع، ويختلقون وسائل تتناسب والظروف، وتصمد في وجه التحديات، وتعجز سلطات الاحتلال عن محاربتها والتصدي لها.

فإن كان الحجر هو سلاح الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي سميت باسمه واشتهرت به، وعرفت في العالم كله بانتفاضة أطفال الحجارة، وفيها كان الحجر هو الرمز والشارة، وهو الصورة والحقيقة، وإن كان قد تطور بعد ذلك قليلاً، ودخل المقلاع “الشُدِّيدة” في المعركة، وأحسن الشبان الفلسطينيون استخدامه وتصويبه، فكانوا يصيبون به بدقة، وكان مداه أبعد من الحجر الملقى باليد.

هدم الفلسطينيون بيوتهم ليتخذوا من حجارتها سلاحاً، يقذفون بها الجنود وآلياتهم، ويعيقون حركة سياراتهم ودورياتهم، ويشجون بها وجوههم، ويرضخون رؤوسهم، ويدمون أجسادهم، وبعض الحجارة أصابت عيونهم وأعمتها، وكانت تؤذي وتجرح، وتعطب وتعيق.

كان الحجر متوفراً بكثرة، فلا يشكو الفلسطينيون من قلته، ولا يخافون من منع استيراده، والحيلولة دون وصوله إلى أيديهم، فهو سلاحهم الوطني، المصنوع من تراب الوطن وطينه، وإن كانت سلطات الاحتلال في بداية الانتفاضة الأولى قد عمدت إلى جمع الحجارة ودفنها، وكانت تجبر الفلسطينيين على جمعها من الشوارع والأزقة ودفنها في جوف الأرض، ظناً منهم أنهم بذلك يجردون الفلسطينيين من سلاحهم، وينزعون من أيديهم عامل القوة وعنصر التفوق.

أما الانتفاضة الثانية فقد تميزت بعملياتها الاستشهادية، والمتفجرات المتنقلة بين القدس والعفولة، وتل أبيب والخضيرة، وأسدود وعسقلان وكل المدن والبلدات الفلسطينية، التي فجر فيها الاستشهاديون الفلسطينيون الحافلات ومحطاتها، وتجمعات الجنود والمقاهي، والسيارات الصغيرة والشاحنات الكبيرة، وفيها سقط المئات من الإسرائيليين قتلى، وسكن الرعب في قلوبهم جراء سلسلة التفجيرات المتنقلة، وامتنعوا عن ركوب الحافلات والجلوس في المقاهي والتجمع أمام المحطات أو الأماكن العامة، مخافة أن يقوم فلسطيني بتفجير نفسه بينهم، وتوزيع الموت عليهم، وقد تسببت العمليات الاستشهادية إلى جانب الذعر الذي بثته في الأوساط الإسرائيلية، إلى سقوط أعدادٍ كبيرة من القتلى في صفوفهم، الذين كانوا يسقطون فرادى وبالجملة أحياناً.

أما الانتفاضة الثالثة التي نعيش فصولها هذه الأيام، ونقلب صفحاتها كل ساعة، ونترقب جديدها ونتابع تطوراتها، فإنه يغلب على سلاح الفلسطينيين فيها السكين والمدية والخنجر، إذ لا شئ يملكونه اليوم إلى جانب الحجر غير السلاح الأبيض القديم، فقد تعرضت المقاومة في الضفة الغربية إلى حصارٍ خانقٍ وملاحقةٍ قاسية من المخابرات الإسرائيلية ومن الأجهزة الأمنية الفلسطينية، فلم يعد بين أيدي الفلسطينيين أسلحةً ناريةً يقاومون بها، وقد لا يريدون استخدامها في هذه الانتفاضة، أو في هذا الوقت بالتحديد.

إن كان الفلسطينيون لا يريدون استخدام الأسلحة النارية في الانتفاضة الجديدة، فإنهم جميعاً يملكون في مطابخهم سكاكين حادة، وعندهم خناجر ومعاول ومِدَى حادة، وغير ذلك مما حد نصله ودق طرفه، فيه يقاومون ويقاتلون، وبه يواجهون ويصدون، ورغم أن القتال بهذه الأسلحة البيضاء يلزمه إرادة وشجاعة كبيرة، لأن القتال به يلزمه مواجهة مع العدو وجهاً لوجه، أو طعنه من مسافة صفر، ومع ذلك فإنهم يقدمون على المواجهة والتحدي، بل ويتنافسون في أن يكونوا أوائل وسباقين، ولو كلفهم ذلك حياتهم، وهو غالباً ما يحدث، إذ يقوم الإسرائيليون في مكان الحادثة بإطلاق النار على المهاجم ويقتلونه، ولو كان مصاباً فإنهم يجهزون عليه، رغم أنه أحياناً لا يشكل خطراً عليهم، ولا يتسبب في أذى، إلا أنهم يصرون على قتله، بل على إعدامه ميدانياً، أو يتركونه إن لم يقتلوه فوراً ينزف حتى الموت، أو يمتنعون عن تقديم المساعدة الطبية له، ويتأخرون في نقله إلى المستشفى، أو ينقلونه بطريقةٍ سيئة تعجل في مقتله.

تحاول وسائل الإعلام الإسرائيلية تصوير الفلسطينيين بأنهم إرهابيين، وتصفهم بأنهم داعش، يقتلون بوحشية، ويطعنون بهمجية، ويبطشون بالضحية، ولا يفرقون في عملياتهم بين مستوطنٍ وعسكري، وطالبٍ ورجل دين، وأنهم يتباهون بالسكاكين والأدوات الحادة التي يحملونها، ويفاخرون بعملياتهم، ويحضون الشباب على القيام بمثلها، والتنافس فيها، ويرفعون صور منفذيها، ويحتفلون بالشهداء منهم.

ينسى الإسرائيليون أنهم والسلطة الفلسطينية ما أبقوا في أيدي الفلسطينيين سلاحاً يقاتلون به، في الوقت الذي يستفزونهم ويعتدون عليهم، ويدنسون مسجدهم، ويحاولون اقتسام أقصاهم أو السيطرة على بعض الزوايا فيه، كما أنهم يعتدون قتلاً وضرباً وإساءة للرجال والنساء على السواء، ويقتلون الفلسطينيين على الشبهة والهيئة والشكل واللسان وما يحمل، ثم يستغربون مقاومة الفلسطينيين ويستنكرون غضبتهم، ويرفضون انتفاضتهم، ويعترضون على أسلحتهم، ويرفضون ابتكاراتهم، ويشكون من نجاحهم وتفوقهم، وكأنهم يريدونهم نعاجاً يستسلمون للذبح، ونوقاً تستنيخ بذلٍ، وما علموا أن الفلسطيني حرٌ ولو كان سجيناً، وثائرٌ ولو كان طفلاً صغيراً، ومقاومٌ ولو لم يكن يملك في يده غير سكينٍ تجرح، وشوكةٍ توخزُ، وعصاً تضرب وتؤلم.

بيروت في 16/10/2015

About مصطفى يوسف اللداوي

د. مصطفى يوسف اللداوي • فلسطيني من مخيم جباليا بقطاع غزة، مواليد العام 1964. • معتقل سابق لتسعة مرات في السجون الإسرائيلية. • أُبعد إلى جنوب لبنان من سجن غزة المركزي بصحبة ثلاثة أخوة آخرين إلى جنوب لبنان. • دكتوراة في العلوم السياسية وليسانس شريعة إسلامية. • رئيس الكتلة الإسلامية الأسبق في جامعة بيرزيت. • ممثل حركة المقاومةىالإسلامية "حماس" السابق في كلٍ من سوريا ولبنان. • المدير العام الأسبق لمؤسسة القدس الدولية في لبنان، وأحد الذين ساهموا في تأسيسها. • عضو لجنة العلاقات العربية "سابقاً" في حركة حماس. • متفرغ منذ العام 2004 لأعمل البحث والكتابة والدراسة. • له تسعة مؤلفات أغلبها عن الصراع العربي الإسرائيلي وهي ... o الأسرى الأحرار صقورٌ في سماء الوطن "مجلدان". o الصليبية من جديد ... دفاعاً عن رسول الله. o القدرات النووية الإسرائيلية بين الغموض والإرهاب. o الإرهاب الصهيوني مسيرة شعب وتاريخ أمة. o قراءة في العقل الإسرائيلي. o القضية الفلسطينية خفايا وأسرار "حوار". o القضية السودانية بين صراع الداخل ونفوذ الخارج "حوار" o الأزمة الجزائرية جدل المعارضة والسلطة "حوار". o العدوان الإسرائيلي على غزة، جزءان "تحت الطبع".
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.