الاستعمار اللولبي و العنصرية الحضارية…!!!..

akramhawasيمكن ان يكون من المضحك ان نتحدث عن الاستعمار في هذا الوقت الذي يشتكي فيه الجميع من الاخر… دونالد ترامب المرشح المحتل للرئاسة الامريكية يدعو الى منع المسلمين من زيارة الولايات المتحدة لان هناك اتجاهات تعتبرهم “غزاة” خاصة في اوروبا بعد تفاقم ما يسمى بازمة اللاجئين و المهاجرين الذين يتدفقون بمئات الآلاف شهريا … الامر الذي أودى بالكثير من احلام الاتحاد الاوروبي حيث تراجعت إجراءات الحدود المفتوحة و توقف العمل بشكل كبير باتفاقية شنغن… و هذا ما يشكل معوقات أساسية امام حركة الايدي العاملة عبر الحدود الجغرافية للبلدان و قد يوقف ايضا حركة رؤوس الأموال و الاستثمارات و المشاريع المشتركة….

هذه الإجراءات تؤدي الى تقوية اليمين و خاصة الجناح المتطرف في اوروبا بصورة خاصة و لكن ايضا في الدول الغربية بصورة عامة و لعل فكرة ترامب الذي قد يتحول الى “مبدأ ترامب
” Trump Doctrine …
اذا قررت المؤسسة العسكرية الدفع في انتخابه… يقع ضمن هذا الاطار الذي يمكن ان نفهم من خلاله ايضا دعوة رئيس وزراء استراليا السابق توني أبوت الى اعلان تفوق الحضارة الغربية على الاسلام و عدم الاحراج في الكلام عن ما يمكن تسميته “العنصرية الحضارية” تجاه الاسلام الذي يشكل المنافس التاريخي التقليدي للحضارة الغربية..

قد تكون هذه الدعوات هي تضخيم لرد الفعل ازاء عمليات العنف و التفجيرات و القتل التي ازدادت بطريقة “هيرمونيكية” مع تزايد تدفق الهجرات غير المنظمة من مجتمعات الشرق الاوسط المبتلاة بالحروب و الفقر و العطالة و المشاكل البيئية و الأزمات الاقتصادية و السياسية التي تلعب الدول الغربية فيها بشكل واضح… و لا ننسى النمو المضطرد في مستوى التحدي الاقتصادي و السياسي و العسكري من قوى متناثرة و غير منسجمة في تحالفات مثل الصين و روسيا و ايران و القوى و المنظمات العابرة للحدود الجغرافية و السياسية التقليدية … قوى يمكن ان نسميها معولمة و لكن بشكل معاكس لطموحات و أهداف القوى الغربية…

امام هذا الانحدار الشديد في مستوى الاستقرار في العالم و هيمنة الفوضى المتنقلة اصبح الغرب يقف امام مخارج ربما تكون عقيمة و لكنها تبدو ممكنة في ظل الضعف البنوي في مجتمعات العالم الثالث و منها طروحات ” عودة الاستعمار ” و لعل ما نشهده من تدخل عسكري غربي مباشر في الشرق الاوسط و بعض شمال و وسط افريقيا يمثل نماذج فعالة… و لكن كل هذا يعيدنا الى السؤال القديم حول مفهوم الاستعمار نفسه و ما اذا كان الاستعمار قد غادر فعلا… و لعل المناسبة المباشرة لكتابة هذه المقالة هي تعليق على منشور للبروفسور حلمي شعراوي / مركز الدراسات العربية و الافريقية حول محاضرته ” الفكر الأفريقي في إطار مفاهيم ما بعد الاستعمار” خلال ندوة “آفاق الفكر الأفريقي” المنعقدة هذه الأيام في الرباط/المغرب و قد كان تعليقي هو ” مفهوم ما بعد الاستعمار فكرة لولبية” … فسألني الدكتور حلمي ” لم افهم كيف تكون الفكرة… لولبية..! ” فكتبت له النص الآتي:..

” اقصد ان أشكال الاستعمار لم و ربما لا تنتهي أبدا … لانه كلما يختفي مظهر من مظاهره … او هكذا يخيل إلينا…حتى يخرج بمظهر اخر او بمظاهر اخرى… و هذه هي فكرة اللولبة… و اعتقد ان مفهوم “ما بعد الاستعمار
” Post-Colonialism”
جاء ليرسخ آلية هذه اللولبة… ربما نوجد مفاهيم اخرى مثل الإمبريالية و الغزو الثقافي و العولمة… الخ… لتوضيح الصورة … لكن الواقع يظل ان اليات التنمية و التطور الثقافي و الفكري و الاقتصادي و السياسي و…و.. الخ كلها مرتبطة بالاستعمار و “هباته الروحية و المادية”… و هذا ما يمكن ان نطلق عليه ” الاستعمار اللولبي
Spiral -Colonialism”
… يمكن ان نعرض آلياته في مقالة… لكن هذا مختصر الفكرة… تحياتي و تمنياتي..”..

لا شك ان هناك الكثير مما حدث منذ “جلاء” الاستعمار المباشر حيث تأسست الدولة القومية (الوطنية) و انتشرت أفكار الاستقلال و البناء الذاتي و شهدت المجتمعات بلورة بدرجات مختلفة من التنظيم الاجتماعي و مأسسة ثقافة و هوية وطنية… الخ… و لقد لعبت مصر دورا كبيرا في هذا الاتجاه على المستوى العربي و الأفريقي و على العالم الثالث عموما … و قد أنتج المثقفون المصريون … و الدكتور حلمي شعراوي احد الرموز المهمة… افكارا و نظريات مهمة حول كيفية تحقيق درجات عالية من الاستقلال الذاتي….

حتى أوضح هذه الفكرة أودّ ان اعود الى نظرية التبعية
Dependency
التي قابلها نظرية التبعية المتبادلة
Interdependency
و طروحات الدكتور سمير أمين في قطع الترابط
Delinking
التي قابلها فكرة الالتحاق بالقطار
Catch Up
و هكذا نظريات الحداثة
Modernity
التي اغلقت ملف إمكانية تطوير الذات على أساس الواقع الاجتماعي في كل مجتمع
Self-reliance
حتى لحقها نظرية ما بعد الحداثة
Post-modernity
التي فتحت الافاق نحو الحرية و المبادرات الاحادية الى حد الفوضى..

ما اعنيه ان كل محاولة في العالم الثالث للخروج من الهيمنة قابلتها نظريات ادحضت تلك المحاولة و قضت على اية إمكانية لوضعها موضع التطبيق الاستراتيجي و العملي… في النتيجة ظلت المشكلة و ما تزال هي مدى ارتباط مختلف المؤسسات و آليات البناء الذاتي مع ما يمكن ان تقدمه الدول الغربية (المستعمر القديم) من “عطايا” فكرية و تكنولوجية و زراعية و صناعية و عسكرية و استخباراتية … الخ… اي الدوران في حلقة الاستعمار ظل بل و ازداد توسعا و ترسيخا مع كل خطوة خطتها الأنظمة و القوى الفكرية و السياسية و الاقتصادية و العسكرية … الخ… للخروج من تأثير الغرب و استغلاله شعوب العالم الثالث …

بكلام اخر … الارتباط بالآليات الاستعمارية كان أعمق بكثير من فكرة ” الأنظمة العميلة” التي على كتفها وضع بعض المثقفين و القوى السياسية أسباب التراجع و الأزمات المتلاحقة…. بل ان هذا الارتباط قد تخطى إمكانيات أية دولة في العالم الثالث بغض النظر عن نية النخبة الحاكمة و كذا القوى المعارضة لها و ايديولوجيتها و قوتها و إمكانياتها و مدى التزاماتها بقضايا الشعب و اهتماماته و حاجاته…

هذا الارتباط … في عمقه و امتداداته المتواصلة… اصبح يعيد انتاج ذاته باستمرار حتى انه اصبح هو الحالة المستدامة بدل “التنمية المستدامة” التي اصبح محل اهتمام الجميع قبل ان تحل موجة الكوارث الاخيرة منذ ” الثورات العربية” التي لم تودي فقط بالربيع و إنما اعادت عجلات التاريخ الى البدايات الاولى لمفاهيم العلاقات الاجتماعية و السياسية داخل المجمعات و بينها و بين المجتمعات الاخرى و بالتالي بين الدول و ما تسمى “بالحضارات” المتحاربة (هذا الموضوع سيناقش في مقالات لاحقة)…

و في ظل هذه العودة الى بدايات المفاهيم يمكننا ايضا ان نضع تصورات عن علاقة دعوات ترامب و رئيس وزراء استراليا السابق و بين هذا و ذاك الكثيرون من القوى السياسية الغربية و غيرها بقضية … هل ان الاستعمار كان و انتهى… ام انه كان و لا يزال و سيكون..؟؟.. هل لدينا القدرة على تشخيص حالة سائبة و متجددة … بل حالة اصبحت تحوي افكارنا و سلوكياتنا و قدراتنا و أدواتنا و فضاءاتنا و تاريخنا و احلامنا المستقبلية…؟؟… قد يكون هناك من يعتبر هذا الكلام من العبث و يشير إلينا بأمثلة نجاح ” النمور الآسيوية ” و لاحقا الهند و البرازيل و جنوب افريقيا و ايران و طبعا الصين… في الخروج من هيمنة الغرب و بناء نماذج “وطنية”…. لا بئس ان نعتبر تلك التجارب وطنية بشكل ما… و لكن الحقيقة التي لا يمكن الهروب منها هي ان كل هذه النماذج…. بغض النظر عن الشعارات الثورية و الصراعات الأيديولوجية و حتى درجات العنف و الحروب و غيرها…. هي كلها نماذج بزغت و تطور في ظل الهيمنة الغربية و ضمن إطار استراتيجيات توزيع العمل و خلق ديناميكيات السوق و اعادة الانتاج و هكذا…

التحدي الحقيقي كان يمكن ان يكون في انتاج نموذج بديل للنظام الرأسمالي الذي يدير العمليات الاستعمارية بكل اشكالها و آليات اعادة انتاج الذات… هذا التحدي لم يتحقق ليس فقط بسبب سقوط النموذج الاشتراكي سياسيا… بل قبل ذلك بسبب تحول تلك “الاشتراكية” الى رأسمالية الدولة و البيرقراطية و الأهم من كل هذا و ذاك ممارسة أنماط استعمارية رهيبة سواء بتكوين “السوفييتيات” و دحر الثقافات و التجارب التاريخية للشعوب التي تم الحاقها بالاتحاد السوفيتي… او عن طريق إقامة شبكة من الترابطات العالمية من احزاب و حركات شيوعية و عمالية و غيرها عملت على توجيه كل إمكانيات الشعوب التي انتمت او قادتها لخدمة مركزية الاتحاد السوفيتي و تقدمه و إدارة صراعه مع الرأسمالية التقليدية التي كان يقودها المستعمرون التقليديون في الغرب…

ما أودّ ان أقوله … انه في اللحظة التي كانت “القوى الوطنية” تعمل على ازالة اثار الاستعمار القديم فإنها كانت تربط البلد و المجتمع بالاستعمار الجديد في الاتحاد السوفيتي او بالأنماط الجديدة و المتجددة من الاستعمار القديم… بل اكثر من هذا ان العمل على خلق “هوية وطنية” كانت تجري وفق نسق منظم من الاستعمار الداخلي اي اجبار المجموعات البشرية و الأقليات و احيانا حتى الأغلبية لتغيير بناها و ثقافاتها و امكانياتها الذاتية و القبول “الرضوخ” في الانصهار في رؤى و ثقافات النخب الحاكمة… و الدول الافريقية ليست بعيدة عن حروب و صراعات القبائل و المجموعات التي تعتقد ان ان الدولة الوطنية صادرت خصوصياتها و سلطة رؤسائها و شيوخها الامر الذي يفتح المنافذ تلو المنافذ للمستعمر القديم للدخول و التدخل تحت عناوين التجارة و التسليح و الدفاع عن السيادة و التضامن مع الفقراء و المهمشين و قوات حفظ السلام … الخ من أسباب و دوافع و أهداف …. و في النهاية استعمار يحارب استعمار لينتج استعمار و يربي استعمار و يفتح مدرسة استعمار و صيدلية استعمار ….. الخ… فهل هناك من يعرف أين حدود الاستعمار ..؟؟..

هذا هو الواقع … رغم ان التساؤلات الاخلاقية تبقى:… هل هناك بديل للرأسمالية … مؤكد… و هل هناك بديل للسلوك الاستعماري … ايضا مؤكد… لكن هل من الممكن بناء مشروع بديل ناجح … للأسف منذ تطور النظام الدولي… لم يعد ذلك ممكنا… و المرحلة الحالية تقدم لنا نماذج مثل الصين و المجموعات الليبرالية الغربية ترسخ أنماط جديدة من الرأسمالية و ان اختلفت ايديولوجيتها … “لولبة” …!!!.. عتذر ان المقالة طالت كثيرا… حبي للجميع..

About اكرم هواس

د.اكرم هواس باحث متفرغ و كاتب من مدينة مندلي في العراق... درس هندسة المساحة و عمل في المؤسسة العامة للطرق و الجسور في بغداد...قدم الى الدنمارك نهاية سنة 1985 و هنا اتجه للدراسات السياسية التي لم يستطع دخولها في العراق لاسباب سياسية....حصل على شهادة الدكتوراه في سوسيولوجيا التنمية و العلاقات الدولية من جامعة البورغ . Aalborg University . في الدنمارك سنة 2000 و عمل فيها أستاذا ثم انتقل الى جامعة كوبنهاغن Copenhagen University و بعدها عمل باحثا في العديد من الجامعات و مراكز الدراسات و البحوث في دول مختلفة منها بعض دول الشرق الأوسط ..له مؤلفات عديدة باللغات الدنماركية و الإنكليزية و العربية ... من اهم مؤلفاته - الإسلام: نهاية الثنائيات و العودة الى الفرد المطلق', 2010 - The New Alliance: Turkey and Israel, in Uluslararasi Iliskiler Dergisi, Bind 2,Oplag 5–8, STRADIGMA Yayincilik, 2005 - Pan-Africnism and Pan-Arabism: Back to The Future?, in The making of the Africa-nation: Pan-Africanism and the African Renaissance, 2003 - The Modernization of Egypt: The Intellectuals' Role in Political Projects and Ideological Discourses, 2000 - The Kurds and the New World Order, 1993 - Grøn overlevelse?: en analyse af den anden udviklings implementerings muligheder i det eksisterende system, (et.al.), 1991
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.