د خليل حسن
من مفكرة سفير عربي باليابانفي زيارة استطلاعية إلى مدينة كيوتو التاريخية والثقافية لفت نظري تحفة “للملائكة” السبعة اليابانية، وحاولت من خلال هذه التحفة أن أتفهم علاقة التطور والازدهار الياباني بالمفاهيم الأسطورية والروحية اليابانية. ولنتذكر عزيزي القارئ بأن الازدهار في أي بلد ما مرتبط بكفاءة موارده البشرية، وغزارة موارده الطبيعية. وتنعكس كفاءة الموارد البشرية في دقة الوقت، ومهارة الأداء، مع مستوى علاقات التناغم في العمل وأخلاقياته. ويحتاج التناغم البشري لدرجة ذكاء يجمع بين الذكاء الذهني لخلق عملية تفكير متأنية، وذكاء عاطفي لتكوين قرارات بعيدة عن الانفعالات العاطفية، وذكاء روحي يتفهم تداخل الحقيقة بالخيال وقوانين الكون بعقائده وأساطيره، لتجنب معارك ايديولوجية امتلاك الحقيقة المطلقة واستبدالها بتفكير احتمالات الحياة المتناقضة، ويكملها ذكاء اجتماعي ليتواصل الإنسان مع أقرانه بلطف واتزان، لتوفير تناغم مجتمعي يحقق استقرار المجتمع وتنميته. ومع أن اليابان متميزة في نوعية مواردها البشرية، لكنها تواجه تحديات كبيرة في شح مواردها الطبيعية. والسؤال: كيف استطاع الإنسان الياباني أن يتعامل مع التحديات الطبيعية والتاريخية ليحول بلاده لدولة التعليم والتصنيع في القرن السابع عشر، ودولة التكنولوجية المتطورة في القرن التاسع عشر؟ وما هي المميزات التي ساعدته على تجاوز أخطاء الحرب العالمية الثانية، ليحول بلاده إلى مجتمع التناغم والحكمة والسلام، ليحقق تقدم اجتماعي وعلمي وتكنولوجي واقتصادي باهر؟ وما علاقة كل ذلك بالروحانيات اليابانية وأساطيرها؟
تبدأ النظرة المعاصرة للأسطورة اليابانية بصدور كتاب في عام 1715 بعنوان، المرأة المتكاملة لعملية الجنس، كتبه كاهن عقيدة الشنتو اليابانية، ماسوهو زانكو، الذي ناقش فيه التفاعل الجنسي بين المرأة والرجل كجزء من تناغم الأنوثة والذكورة، وكطاقة الكون الأساسية الدائمة، ليشكل الرجل والمرأة قطعتين متطابقتين، لا يفرق بينهما الدرجات، وليؤدي لعملية جنس مقدسة، تتمثل في الأسطورة اليابانية ببدء الخليقة، بتزاوج “كامي” اليابان ازنامي وازناجي، ليبدأ التاريخ الياباني. فتعتبر عملية التواصل الجنسي نوع من احتفالية بداية أصل اليابان المقدسة، وهنا ألفت نظر القارئ العزيز لتعبيرين في عقيدة الشنتو اليابانية، تعبير قليل الاستعمال والفهم وهو “الإله” كمفهوم شرق أوسطي لألهه الكون، وتعبير اخر شائع، “كامي”، تعبير يجمع بين مفهوم “الروح” و “الملائكة”. ويتوضح ذلك حينما تدخل بيت ياباني لتجد معبد على شكل صندوق صغير، يعتقد اليابانيون بأن أرواح موتاهم تزوره كالملائكة بعد أن تحوم حول الأنهار والجبال.
وسنبدأ دراسة أسطورة التاريخ الياباني بمراجعة كتاب كوجيكي، الذي يعتبر من احد أقدم الكتب التاريخية اليابانية الموجودة اليوم، ويعطي صورة مفصلة عن بداء تاريخ اليابان، ويجمع التاريخ مع الاسطورة ليسجل صورة جميلة لبلاد اليابان القديمة ومعتقداته منذ عام 660 ما قبل
الميلاد. وقد كتبه السيد ياسومارو على لسان “الرجل ذو الذاكرة الفذه”، السيد هيدا نوار، وقدم للديوان الامبراطوري بعد تكملته في عام 712. والجدير بالذكر بأن الشعب الياباني يحترم هذه القصص والأساطير، كما أن آلهة هذه الأساطير لها معابد يزورها الشعب بانتظام للتبرك والدعاء. وتصف قصة الكوجيكي بدء الخليقة بانشطار كتلة جرمية فصلت السموات عن الأرض، لتجمع بينهما جسر سماوي، جلست على عرشه أوائل آلهة اليابان. وتبدأ قصة الالهة بولادة ثلاثة من آلهة السموات العليا وهم: آلهة السماوات، والمخلف لآلهة الإعجاز، والمولد لآلهة الاعجاز، ولتبدأ بعدها نبتة صغيرة تشكل منها آلهة أمير الأرض والزرع، والجنة والخلود. كما يصف الكتاب ولادة سبعة من الآلهة المختصين بالأرض. ويشرح الكتاب في الفصل الثالث كيف أجتمعوا آلهة السموات في احتفالية كبيرة وأمروا الإلهين ازناجي وأزنامي بالتزاوج لولادة ارض اليابان، بعد أن قدموا لهم السهم السماوي المليء بالمجوهرات، وهم جالسين على عرش الجسر السماوي المتواصل بين السموات والأرض، فقاما بتدوير السهم في بحر اليابان ليتبلور الملح تدريجيا، ويتحول الى الجزر اليابانية. وتستمر أزنامي بتكملة ولادة باقي آلهة الطبيعة، مثل آلهة الجبال والأنهار والغابات والأمواج، كما يصف الكتاب احتراق الاجهزة التناسلية لأزنامي بعد ان ولدت آلهة النار، فمرضت واستلقت لتستريح، ليبدأ مرضها المزمن، ويسترسل الكتاب في وصف أعراض أصابتها، وربطه بولادة إلهه جديد، فمثلا حينما تتقيئ أزنامي يولد من قيئها الهه امير وأميرة معادن الجبال. وبعد أن اشتد المرض بها اقترب ازناجي منها، وبداء يبكي على حالها، فتحولت الدموع الى آلهة أنثى الدموع الباكية، وبعد فترة وجيزة فقدت الحياة، فقام أزناجي بدفنها على قمة جبل هيبا.
تلاحظ عزيزي القارئ بأن الأسطورة اليابانية حاولت أن تقدس كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة ومنتجاتها، وحتى المرض وأعراضة وأفرزاته كانت مهمة لتأثيرها على البيئة. كما أن لكل شيء في الأسطورة اليابانية أهمية متضادة، فالنار مهمة للحياة، ولكن قد تكون مدمرة في نفس الوقت، فالشمس أساس الحياة، ولكن قد تكون سببا لجفاف وحرق الغابات، لذلك هناك معبد صغير بقرب معبد إلهة الشمس، يمثل غضب إلهة الشمس. والجدير بالذكر بأن الكهنة يقدمون ثلاث وجبات يوميا للالهه، ويشترط بأن يجهز الطعام باستخدام نار طبيعية ناتجة عن احتكاك قطعتين من الخشب. كما توجد بالمعابد مسرح لاسترخاء الالهة، تعزف فيه الموسيقى، وتقدم فيه عروض رقص دينية، وتمثل فيه مسرحيات فن مسرح “النوهه” القديم، وذلك لمنع غضب الالهة، فغضبهم يؤدي للزلازل والفيضانات والرياح الشديدة والامواج القوية والجفاف بقوة حرارة الشمس.
وتستمر قصة كوجوكي بوصف قيام ازناجي بقطع رأس طفلة آلهة النار، لينتج من الدم الذي لوث سيفه ووسخ كتل الصخور المجاورة، مجموعة من الآلهة المفلقة للصخور، كما ولد من الدم الذي لوث الجزء العلوي من السيف آلهة القبح، وولد من الرأس المقطوع الآلهة المالكة لمعابر الجبال الحقيقي، ومن الصدر الآلهة المالكة لمنحدر الجبال، ومن البطن الآلهة المالكة للجزء الداخلي من الجبال، ومن اجزاءه التناسلية الآلهة المالكة للجبال القاتمة، ومن اليد اليسرى آلهة الجبال، ومن اليد اليمنى آلهة المالكة للجبال، ومن القدم اليسرى الآلهة المالكة للجزء الخارجي من الجبال. وتستمر القصة بوصف أسطورة عالم الموتى، فبعد أن زار ازناجي ازنامي المتوفية، تخرج من القصر وتستنكر مجيئه، فيرد عليها بأنه أشتاق لها، ويريد أن يأخدها معه إلى عالم الأحياء، ولكن يرجع خائبا وحيدا. وتستمر الأسطورة بوصف ولادة بقية الهة اليابان والتي تقدر بحوالي خمسة إلى ستة مليون. وتعتبر إلهة الشمس من أهم أحفاد أزنامي وازناجي، كما يعتبر ألامبراطور الأول لليابان، جيمو، أحد أحفادها، الذي عاش قبل الفين وستمائة وسبعة وستين سنة، ويستمر الكتاب في وصف باقي العائلة الامبراطورية اليابانية حتى القرن الخامس.
تلاحظ عزيزي القارئ بأن مفهوم الجنس مقدس في عقيدة الشنتو لعلاقته بالخصوبة، كما أن هناك تشبيهات مقدسة لموضوع الجنس والإنجاب، فمثلا تعتبر الأرض أنثى، وزرع الأرض عملية جنسية يبذر فيها نطفة البذور في طين الأرض. وكان الفلاح الياباني يحتفل في مواعيد زرع الأرض باحتفالية يقدم فيه الطعام والشراب، ثم يكمله بتواصله الجنسي مع زوجته، بعد أن يغتسل في نقطة صب نطفة أمواج النهر في رحم مياه البحر. ويعلق البروفيسور هاورو ساكوراي، أستاذ العلوم الدينية بجامعة كوجاكان اليابانية، بالقول: “الشنتو هو أحساس عاطفي لا تفكير مادي يسمو بالإنسان ويدعم أخلاقياته ويهذب سلوكه، فهو نوع من الأيمان، والإيمان مرتبط بالشعور، والشعور مرتبط بالإحساس، ولو دخل التفكير الذهني العقلي في الوسط لتلف هذا الإحساس الايماني الجميل.” فباختصار شديد يفصل الشعب الياباني الواقع المادي الحياتي، ومنطقه التفكير الذهني، عن الدين، والإحساس بالإيمان، والسمو من خلاله. حيث يمكن أن يسمو الفرد بهذا الإحساس لمرتبة كبيرة، تقربه من مرتبة الإله، وخاصة من خلال اخلاصه بخدمة الوطن. ومع أن عقيدة الشنتو لا تحدد رسول لرسالتها ولا كتاب مقدس، لكنها مستمرة عبر مئات السنين العقيدة الموحدة لليابان، ويرجع تاريخها المكتوب لعام إلفين وستمائة وسبعة وستين قبل الميلاد. وقد أخذ الشعب الياباني من الحضارة الصينية والديانة البوذية الكثير وطور بها معتقداته، بل دمج الديانتين معا اليوم في الممارسة الدينية وعقائدها، فالشعب الياباني مرتبط بالشنتو في كل ما له علاقة بالحياة والنمو والتطور والإزدهار، ومرتبط بالبوذية في كل ما له علاقة بالموت وما بعد الحياة. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين باليابان
المصدر ايلاف