تعريب عادل حبه
أمير ممبيني
إن القبول بالهزيمة هي الفضيلة بعينها. وإن إدراك الواقع والقبول به في أثناء الهزيمة الحقيقية هو ليس بعار ولا هو انعدام للحكمة ولا الاستسلام ولا الغرور وليس كل شئ سلبي آخر. وينطبق هذا الأمر سواء على الفرد أوالمؤسسة أوالدولة أوالشعب. إن الجانب السلبي في عدم إدراك واقع الهزيمة والقبول بها، هو البداية والسير على طريق لا يؤدي إلاّ إلى الهزيمة.
كما إن إدراك الهزيمة والقبول بها يمكن أن يعني الإعلان عن وضع حد لعملية تدور في مأزق والانتقال إلى عملية جديدة. إن تحديد الهزيمة في أية عملية يمكن أن يشكل جزءاً من الوعي والتوجه نحو إصلاح الطريق والأسلوب والهدف. والعكس بالعكس، فإن عدم تحديد حالة الهزيمة وإنكارها من منطلق ذاتي يشكل مانعاً أمام إصلاح الطريق والأسلوب الفاشل. كما أنه يعبر عن عدم إدراك الواقع والقبول بشروط الهزيمة ضمن ثلاثة عناصر.. الجهل والتحجر وانعدام المسؤولية. فالجهل، بأعتباره عاملاً إنسانياً، يفتقر إلى الوعي والذكاء والقدرة على التشخيص الضروري لعوامل الانكسار. أم التحجر الفكري، باعتباره عاملاً إنسانياً، فيعتقد أن القبول بالهزيمة هو ضد القيم، فليموت الجميع في معركة دون القبول بالهزيمة عملاً بالقول ” ليقتل الجميع دون أن نسلم البلاد إلى العدو”. وإن إنعدام المسؤولية هو الآخر عامل إنساني يدافع عن القيم الدوغمائية لقاء إلحاق الأذى بنفسه وبأبناء جلدته وبالمجتمع.
إن البعض يتصور أن القبول بالهزيمة هو على الدوام ضرب من العار. ولكن يمكن أن يكون القبول بالهزيمة على العكس من ذلك. ففي العصور الماضية كان لدى قبائل الزولو في جنوب أفريقيا تقاليد جميلة ترافق حالة القبول بالهزيمة. فبعد الخوض في المعارك الطاحنة بحد كاف، وإذا ما شخص أحد الأطراف بأن الخصم أقوى منه ولا يستطيع إحراز النصر، عندها يعمد إلى تبادل المشورة بشكل جماعي. ويقوم المحاربون بعقد اجتماع في ميدان الحرب ويغرزوا السهام في دروعهم الجلدية، وتتعالى صيحاتهم مقترنة باستحسان أداء الخصم في الحرب ويعلنون أنتصاره. هذه التقاليد كانت من أبرز ما جلب انتباه المستعمرين الأوربيين في الفترة الاستعمارية.
ويشير الشاعر الملحمي فردوسي في ملحمة ” الشاهنامة” إلى الحروب المديدة التي دارت بين ايران والطوران. وفي نهاية الحرب المصيرية بين الجانبين، أجرى ” گودرزِ کشوادگان** ” أكثر القادة الإيرانيين حكمة حواراً مع ” پیران ویسه ” القائد المدبر والمحسن الطوراني، واتفق القائدان على وضع نهاية لهذه الحرب بين الطرفين حقناً للدماء وحفظاً على أرواح الجنود. كما أتفق الطرفان على اختيار أحد عشر مقاتلاً من كل طرف وضمنهما قائدا الجيشين لممارسة النزال الفردي على أن يعلن الطرف الفائز في الحرب من يحصل على أعلى النقاط في هذا النزال الفردي. وبذلك يجري الانتهاء من الحرب. وبعد أن فاز الفرسان العشر الإيرانيون، قام قائدا الجيشين بالنزال الفردي الذي انتهي بمقتل القائد الطوراني ” پیران ویسه ” للأسف. ومع ذلك احترم جميع الطورانيين بنود الاتفاق وأعلن عن انتصار إيران في الحرب، وتوقف الجيشان عن إشهار سيوفهما ضد الطرف الآخر. وعد ذلك أقام الأيرانيون مراسم دفن لم تشهده إيران إلاّ حين تم دفن اسفنديار وسهراب***. فقد بادر گودرزِ والدموع تترقرق من عينيه بلف نعش پیران بالعلم الإيراني كي لا يحترق وجه پیران بأشعة الشمس. وقام جميع جنود الجيشين الإيراني والطوراني بنحو مشترك برفع التابوت الملكي ووضعوه في قبر على حافة جبل يطل على عاصمة ايران وروي عليه التراب. ولم يُشاهد الطورانيون وقادتهم وجه پیران على هذه الدرجة من الجمال خلال كل حرب الأحد عشر. إن جوهر جمال وعظمة پیران والطورانيين في هذه المعركة يكمن في إدراكهم وقبولهم بشكل حكيم هذه الهزيمة.
وأزاء هذه الأمثلة العقلانية التي جاءت كحصيلة للمعارك والمبارزة، يقدم لنا التاريخ أمثلة معاكسة مثل سلوك نابليون بونابارت وآدولف هتلر والساموراي الياباني. لقد تميز نابليون بالذكاء الحاد والعمق في حساباته. ولكن على الرغم من ذكائه، فقد غلبت عليه المشاعر والأنانية عند اتخاذ موقف تجاه بنتائج الحرب. فهو لم يكتف بالمغامرة بأشعال معركة واترلو، بالرغم من وضوح تباشير الهزيمة الدموية للفرنسيين في الحرب، إلاَ أنه لم يبد استعداداً للتضحية وأن يشرب سم الهزيمة ليتجنب التضحية بأرواح كل الجنود الفرنسيين. لقد أغرق نابليون ميدان واترلو بدماء البشر من أجل الحفاظ على كبريائه الأجوف. وسار آدولف هتلر على نفس الدرب. فعندما دحر الجنود السوفييت والقوات الامريكية والبريطانية الفرق الألمانية وسحقت برلين واخترق آخر معاقل النازية من قبل القوات المهاجمة، لم يبد هتلر أي استعداد لوقف القتال والقبول بالسلام. ف لم تكن ألمانيا بالنسبة لهتلر هي التي يعلن الدفاع عنها، بل كان الادعاء بنصر أجوف هو ما كان يبتغيه.
عند تحليل هذه الأمثلة، يمكن الاستنتاج بأن الانسان الذي يتمتع بالانعطاف والقدرة على إدراك الواقع والقبول بالظروف المتغيرة يتصرف بشكل أفضل من الانسان غير القادر على إدراك الواقع والقبول به. لنلقي نظرة على المجاميع السياسية الإيرانية، فالتيارات التي تتمتع بإدراك أقل للواقع فإنها تنحدر جراء هذا إلى جادة الدوغمائية والانحراف. إن بعض هذه المجاميع بسبب عدم اعترافها بالفشل تتحول إلى متحجرات حقيقية. في حين أن جزءاً كبيراً من الحركة اليسارية قد عثرت على طريق جديد بسبب من اختيارها سبيل الإدراك والاعتراف بالخطأ والقبول بالهزيمة، وتحولت إلى قوة جديدة تناضل من أجل الاشتراكية والديمقراطية.
إننا نقف في إيران الآن أمام ظاهرة معقدة حول كيفية التعامل مع الواقع الدولي وتوازن القوى الجديد في العالم. لا أريد في هذه السطور أن أذكّر بموقفي من الجمهورية الاسلامية ولا بالايديولوجية التي ترشدني، بل أريد أن أركز في هذا المجال على المباحثات الجارية حول الملف النووي وحال إيران. إنني من أنصار نزع السلاح في العالم وتصفية المخزون من السلاح النووي والمحطات النووية. وباعتباري من أنصار الحفاظ على البيئة، فإنني أرى أن استخدام الطاقة النووية هو أشبه من يقف على غصن شجرة ويقوم بقطعه. ولكن عندما نلقي نظرة على الاتفاقيات الدولية وحقوق الشعوب والدول، فإننا نرى بوضوح أن هناك اجحاف بحق وحقوق شعبنا. فالمباحثات النووية تحولت إلى استعراض بيّن للعضلات على أساس توجهات أمبريالية. ولذا لا يجري الحديث هنا عن النجاح المطلق. فالكلمة الأخيرة في نهاية المطاف هي للطرف الاصلي في المباحثات الذين لديه بضاعة ووسيلة أسمها القوة والتي تحولت في العقدين أو الثلاثة الأخيرة إلى عنصر بيع وفرض هذه البضاعة. فالقوة الأقل في زمن مثل زماننا هي قوة عارية وتتقدم إلى الميدان بشكل خجول.
ومع ذلك يمكننا أن ندرك أن نجاح طرف واحد في هذه المباحثات بشرط أن يتم الاتفاق على تأمين سلامة البلاد وأمنها، ما هو إلاّ نجاح لإيران. لماذا؟…لأن الاتفاق في هذه المباحثات سيساعد على إبعاد الخطر الذي يواجه البلاد والذي يستند إلى ترسانة من التسليح الهائل والقدرة المالية وخزين النفط، وإن الإصرار على عدم الجلوس حول طاولة المباحثات هو بالنتيجة مسعى جديد لفرض الحلول العسكرية على بلادنا. وفي هذه المباحثات، فإن أي مكسب أو ربح مهما كان حجمه، وإن أي اتفاق هو ربح، بل وأهم ربح لإيران. ولا يوجد أمام إيران من سبيل لحل مشاكلها الرئيسية سوى السير على سكة تأمين جو من الصداقة والتعاون مع الولايات المتحدة. وإذا ما عملت إيران بشكل إيجابي على توفير هذه الصداقة والعمل المشترك، فسيحالفها التوفيق وتحقق أهدافها.
في السياسة الخارجية، يجب أن تتوجه إيران صوب حل مجموعة من المشاكل بقدر ما يتعلق الأمر بأمريكا وأوربا والسير على طريق إرساء قواعد العمل المشترك معهم. وليس هناك أية عوائق جدية أمام نجاح إيران في ذلك، إلاّ إذا جرى التمسك والاستمرار بالخيار الأيديولوجي والسياسة الثورية العمياء السابقة. وليس هناك أي شك في أن تأمين أسس الأمن للبلاد لا يتحقق إلاّ باتحاد للشعب يقوم على أساس نظام ديمقراطي. يمكننا السير على طريق العربية السعودية التي تستند إلى دعم القوى الخارجية، ولكنها تمسك بيدها قنبلة قابلة للانفجار في أية لحظة. ولا يمكن لإيران إلا أن تحذو حذو الديمقراطية الأوربية، فبدون الديمقراطية في هذه البلاد لا يمكن حل الكثير من المشاكل التي تواجهها.
ومما يثير الارتياح أن الحركة الديمقراطية في إيران بلغت سن النضوج بشكل عام، بحيث أنها ترى أن النضال الدؤوب لنيل الحقوق الديمقراطية للشعب يسير جنباً إلى جنب مع الالتزام بضمان الأمن للبلاد وللشعب. وعلى هذا النهج ستتمكن هذه الحركة بخصوصيتها من طي طريق الارتقاء والقدرة اللازمة على تحقيق أهدافها. وينبغي على الأصوليين المعارضين للديمقراطية ولعودة الظروف الطبيعية إلى البلاد من الذين لا يدركون بغالبيتهم أهمية الاتفاق في المباحثات الجارية ويقدمون على حبك المؤامرات، أن يستيقضوا من سباتهم وأن لا يتلاعبوا بمصير 80 مليون إيراني.
لو كانت إيران منفصلة عن العالم فسيقودها ذلك إلى الكارثة، ولو كانت جزءاً من العالم، وهي كذلك فستبقى على الدوام. إذ لا يوجد أمامها سوى طريق وحيد وهو اللحاق بقافلة الديمقراطية والتقدم والعلمانية. فقد ولى عصر سياسة الشعارات والشعائر، ولا تتحمل إيران سطوة الاستبداد.
يجب على الشعب أن يستعيد حريته من الحكم وأن يمارس شعائره الدينية بشكل مستقل عن الأجهزة الإدارية. فدمج الدين بالدولة والسياسة يشكل العامل الأساس في التخلف الاجتماعي في ايران والشرق الأوسط والسبب الأساس في الكارثة التي حلت بالمنطقة. وينبغي على القوى الديمقراطية الإيرانية أن لا تضيع أية فرصة من أجل طرح هذا المطلب الاجتماعي. نأمل أن يحل ذلك اليوم وهذا النوروز حيث يمارس الدين في المسجد والدولة في الإدارة، ويقوم الشعب بالاحتفال في مجتمعه الحر والشعبي بالنجاح الوطني والشعبي المشترك في الوصول إلى الاتحاد على أساس الديمقراطية.
*نشر المقال على موقع ايران امروز
** أحد أبطال ملحمة الشاهنامة للشاعر فردوسي، والذي تميز يالشجاعة أثناء الحرب ضد الطورانيين في زمن الشاه كيخسرو. (ع.ح.)
***من أبطال ملحمة الشاهنامة، وكان كلا البطلين مرتبطان برستم وهو من أبطال الشاهنامة. سهراب هو أبن رستم، في حين كان اسفندبار أحد من تولى رستم تربيتهم. ولكن كل من سهراب واسفنديار كانا يتسمان بالغرور والطيش وانعدام البصيرة، وأرادا الوقوف بوجه رستم والتآمر ضده. وجرت المواجهة، وتغلب رستم على الشابين الطائشين، وقام بدفنهما بمراسيم ملكية.(ع.ح.)