«الاتجاه المعاكس» لا يصنع دولة

 «الاتجاه المعاكس» برنامج حواري انفعالي تعبوي على قناة الجزيرة كان في فترات مضت يحقق أرقام مشاهدة كبيرة بسبب حالة التدهور السياسي التي عاشتها المنطقة منذ صعود منطق الخطاب الثوري الإعلامي لتحقيق مكاسب جماهيرية على مستوى المشاهدة ورفع نسب المتابعين دون محتوى تنويري أو تأصيل لثقافة سياسية جادة، وتضخم دوره بعد خرائب الربيع العربي ليتحول إلى ما يشبه «حلبة مصارعة» أخذت في بعض تجلياتها عراكات باليد وشتائم بالجملة وتنابزا بالألقاب والتشهير والفضائح على طريقة صحافة التابلويد، حتى غدت هناك مقاطع طويلة على طريقة الفكاهة تملأ فضاءات منصات التواصل الاجتماعي.

مثل هذا التردي الإعلامي كان له ما يستدعيه في سوق الإعلام آنذاك باعتباره انعكاساً للتردي السياسي والأزمات العميقة التي عاشتها المفاهيم السياسية في المنطقة؛ من غياب مفهوم السيادة إلى مسألة رعاية المعارضات وميليشيات العنف المسلح وإعطاء فرصة لأصوات التطرف السياسي وصولاً إلى شخصيات إرهابية تبايع «داعش» على الهواء مباشرة.. كل ذلك تحت مبرر «الرأي والرأي الآخر»، لكن أن يتحول هذا السلوك الذي لا يمت إلى السياسة أو الإعلام الجاد بصلة إلى منهج سياسي تمارسه دولة كالشقيقة قطر محكومة بالجغرافيا الخاصة باعتبارها جزءاً عضوياً من جسد الخليج العربي محكوماً بهويّة خاصة تكاد تكون مطابقة على المستوى الاجتماعي والديني والثقافي للسعودية وتشابه كبير بباقي دول الخليج وبفوارق على مستوى تلك الهويّات المستدامة اجتماعياً وثقافياً بما يحاول النظام السياسي اجتراحه من هويّة جديدة بانحيازها لجسد لا يمكن أن يتقبلها حتى على طريقة زرع الأعضاء السياسية (نظام ملالي طهران مثلاً). مثل هذا الاستنبات للهويّة السياسية الجديدة لا يمكن أن ينجح مهما حاولت تلك الدول اللعب على مصالح الاستفادة من الإمكانات الاقتصادية أو التنازلات السياسية لمحاولة الخروج من الجسد الخليجي، فهي عملية محكوم عليها بالفشل مهما طال أمد المحاولات وحتى لو استدعيت لها أطراف دولية أوروبية أو أميركية لمحاولة إنجاحها، ففي النهاية علمنا التاريخ أن الهويّة لا تستنبت.
وبإزاء الجغرافيا السياسية والهويات المستدامة هناك ظرف تاريخي جديد لا يمكن أن يتجاوزه منطق «الاتجاه المعاكس» الذي تحاول الشقيقة قطر عبثاً نقله من برنامج مثير إلى سلوك سياسي، وهو أن المنطقة رغم كل خرائب الربيع العربي وتهشم منطق الدولة تحاول الاستعادة إلى فضيلة الاستقرار السياسي رغم كل العثرات والأخطاء، فالمثالية التي كان يسوقها الإعلام التعبوي وأحلام الثورة والربيع سرعان ما تحولت إلى صعود مخيف للميليشيات المسلحة وتفسخ هيبة الدولة وأجهزتها، فانهارت جيوش وتحطمت مؤسسات كانت تظن أنها محصنة بل وتلاشت حدود بين دول كانت مستقلة منذ لحظة زوال الاستعمار بأول مواجهة مع الإرهاب الفوضوي ودولة الخلافة المزعومة التي ما كان لها أن تتمدد أو تبقى إلا بسبب الإهمال الدولي والمناوشات الإقليمية وتقديم المصلحة الذرائعية على أمن الإقليم.
والحال أن اللاعبين على الساحة السياسية اليوم استفادوا من درس ما حدث في مناطق التوتر من العراق إلى سوريا إلى اليمن إلى ليبيا، وهو إدراك خطورة الفراغ السياسي واللعب على السيادة والمغامرات غير المحسوبة لاستهداف الاستقرار، وصحيح أن معايير النجاح والفشل لا يزال الحكم عليها مبكراً بسبب السعي إلى تعزيز السيطرة على الأرض وليس التحول إلى كتلة سياسية متجانسة لها صوت بحاجة إلى تمثيل، ولا تزال ملفات عالقة كملف الأكراد في سوريا والعراق والحدود التركية والرغبة في التحول إلى دولة، أو ملف الميليشيات الشيعية العراقية المدعومة من نظام طهران ومدى عودتها إلى منطق الدولة العراقية المستقلة عن أي إملاءات خارجية، إلا أنه يتوقع أن درس ما أحدثته جماعات الإرهاب من «داعش» و«القاعدة» وأخواتهما إضافة إلى تدخلات الميليشيات الشيعية وما يفعله «حزب الله» من تغول في الدولة اللبنانية سيساهم في قطع الطريق على كل الخطابات الثورية ذات المضامين والشعارات السياسية البرّاقة (سلوك الاتجاه المعاكس) وأنها لا تنتمي إلى الواقع بقدر أنها تمارس وصايتها لتمرير آيديولوجيتها الخاصة.
في ظل هذا الخراب السياسي الكبير الذي تعيشه المنطقة منذ لحظة الربيع العربي وتداعياته وتغول الإرهاب لا يمكن إلا أن يسود منطق اليقظة السياسية حتى لو بدت قاسية، فسياسة الحزم التي أطلقتها السعودية، وهي سياسة استباقية بدأت مع لحظة دعم استقرار مصر وصولاً إلى قطع الطريق على ابتلاع اليمن، هي إدراك لخطورة المرحلة، وهو ما استدعى أيضاً من دول الاعتدال في الخليج إعادة بناء التحالفات السياسية مع دول الجوار لحماية «فضيلة الاستقرار» الذي تشعر دول المنطقة بأهميته وقيمته وأولويته، فالمسألة حينئذ هي مسألة وجود أو عدم، وليس ثمة وقت لترحيل هذه الأولويات السياسية إلى مماحكات حول مسألة الاختراق أو اللعب على وتر شعارات حرية الرأي والوقوف مع المستضعفين أو حتى التلويح بقضية فلسطين وتحويلها إلى ذرائعية سياسية لتبرير سلوك «الاتجاه المعاكس» في ظل أن أكثر من يستدعيها في المنطقة قد خذلوها في مواقف كثيرة عبر الانحياز إلى طرف دون آخر أو من خلال التعامل السياسي المزدوج مع مسألة مع إسرائيل.
الصلابة في موقف دول المقاطعة بدت مفاجئة ليس لقطر بل حتى لدول العالم، وهو ما يمكن استغلاله في إطلاق الإشاعات والدعايات المغرضة ضدها، كما رأينا في بعض الصحف الغربية والمنظمات الحقوقية التي تقرأ المسألة في زواياها الخاصة دون إلمام بالصورة المكبرة، والتي تعني أن دول الاعتدال في المنطقة تسعى إلى إعادة مفهوم الدولة وحماية الحدود ومواجهة التحديات الكبيرة لأولوية الاستقرار والأمن والسيادة دون المساس بالآخرين، وهي خطوط عريضة لا يمكن المساومة عليها، مع تأكيدها على عدم الوقوع في مستنقع الطائفية رغم ارتفاع أصوات المتطرفين من كل جانب، وهو ما رأيناه في تحسن العلاقات مع العراق وفتح صفحة جديدة، والموقف من تحرير الموصل رغم الانتهاكات وارتفاع منسوب الطائفية.
سلوك «الاتجاه المعاكس» جربته إيران حين حاولت مقابلة الحزم السعودي بترحيل أزماتها الداخلية ونقل معركتها من الأرض إلى الإعلام ومنصات «السوشيال ميديا» وفضاء الإنترنت، حيث تنشط وكالاتها في بث الدعاية السياسية المغرضة التي تستهدف أمن الخليج واستقرار أنظمته السياسية، عبر افتعال مشكلات داخلية وتحريض أذرعها السياسية على المزيد من طروحات «المظلومية» في ظل تعاطف غربي ساذج مع ملف الأقليات دون تفحّص لمدى صوابية أو خطأ مثل هذه الخطابات التي تدغدغ ملفات حقوق الإنسان على حساب مفهوم سيادة الدولة لكنها لم تنجح، وبالتالي فإن إعادة طرح هذا السلوك مرة أخرى هو حرث في الهواء مهما سخرت له من إمكانات الأوْلى أن تصب في صالح التنمية والحفاظ على الاستثمار في الرفاه.

المصدر الشرق الاوسط

About يوسف الديني

كاتب صحفي ومحلل سياسي الشرق الاوسط
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.