رغم الصعوبات الجمة التي يواجهها الإنسان المغترب ممن دفعته ظروف قاسية لهجرة بلده الأصل والتوجه الى بلد آخر يختلف كليا عن بلده من النواحي كافة، الا أن هناك بعض الطرف التي تحصل هنا وهناك فتزيل بعض الهوامش من شجون الإغتراب، والأدب العربي زاخر بالشعر والنثر الذي يحض بعضه على الإغتراب ويحذر البعض الآخر منه، وكل أديب ينظر للإغتراب من زاوية تعد هي الأكثر أهمية بالنسبة له مثلا قول الشاعر:
لست ممن يقول مسقطُ رأسي وبلادي وطارفي وتلادي
كلُّ قومٍ أرى ليَ العزّ فيهـــم فهمُ أسرتي وأهل بلادي
(المنتحل).
ويناقضه آخر:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منــــزل
وقال ابن أبي السرح: قرأت على حائط بيتي شعر، وهما:
إن الغريب ولو يكون ببلــــــدة يجبى إليه خراجها لغريب
وأقل ما يلقى الغريب من الأذى إن يستذل وإن يقال كذوب
(المحاسن والأضداد/119)
وتعد قصيدة ابن زريق البغدادي اليتيمة (لا توجد للشاعر غيرها) أجمل ما قيل في شعر الإغتراب، فقد رحل من بغداد الى الأندلس وفارق إبنة عمه الحبيية التي نصحته مرارا وتكرارا أن لا يغترب، وتشبثت به، لكنها لم تتمكن من تغيير قناعاته في السفر، لعله يجد عملا ويوفر بعض المال، ويمدح الأمير أبا الخيبر عبد الرحمن الأندلسي، فيجزل له العطاء ويعود لإبنة عمه لينزوجا ويعيشا حياة أفضل، لكنه فشل في الغربة وفي مدح الأمير معا، فلم يجزل له العطاء، وكان مكان غربته قبره، فقد وجدوه ميتا في الخان الذي كان يسكنه، ومعه رقعة كتب هذه القصيدة الرائعة التي تُعد من عيون الشعر العربي، والتي يناجي فيها حبيبته، ومطلعها:
لا تعذليه فإن العــذل يولعـــــه قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
جاوزت في لومه حدا أضر به من حيث قدرت ان اللوم ينفعه
فإستعملي الرفق في تأنيبه بدلا من عذله فهو مضنى القلب موجعه
الى أن يقول:
إستودع الله في بغــــداد لي قمرا بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبــــودي لـــــو يٌوَدعنـي صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى وأدمعي مستهلات وأدمعه
القصيدة طويلة ويمكن الرجوع اليها بسهوله في العديد من المواقع.
في الغربة شهدنا الكثير من المواقف البعض منها إتسم بالطرافة، ففي شمال السويد (مدينة يورن) قدم أحد العراقيين مع إبنه الذي لا يتجاوز الرابعة عشر من العمر في إنتظار منحهم اللجوء، بعد مرور اسبوعين باغتنا بالقول: لقد وجدت ضالتي! ولما سألناه عن المقصود بضالته، اجاب: انها الباسطرمة التي أعشقها عشقا أبديا، سألناه هل تقصد المقانق (الصوصج)؟ فقال: كلا إنها الباسطرمة لكنها تختلف عن الموجودة في العراق وهي على أنواع، ربما تختلف بسبب كثرة الثوم والمطيبات التي يستخدمها العراقيون، ولأن السوق قريب من مكان حديثنا، سألناه ان يعرفنا عن الباسطرمة التي اكتشفها وغابت عنا شهورا ولم نتعرف اليها. فكانت المفاجأة!
كان في (سوبر ماركت) أنواع كثيرة من السجق (مقانق) تشبة الباسطرمة العراقية إلا أنها أقل سمكا وعرضا منها، وهي بأشكال وألوان مختلفة. قلنا له حسنا لنقرأ مكوناتها. وكانت عبارة عن دماء خنزير مخثرة مع شحومه، مضاف اليها قليلا من مسحوق الذرة وبعض المطيبات وهي معبأة بـ
( Tarmen )
الذي هو عبارة عن أمعاء الخنزير بعد تجفيفها وتمليحها، فوقف مدهوشا وقال: يا للفضيحة، دم، وشحوم خنزير، لقد جمعت هذه اللعينة معظم المحرمات!
تفاجأ البعض عندما أخبرناهم إن الأوربيين إستمدوا هذه المقانق من الإعراب في البادية، وذلك عندما يحل الجفاف والقحط، فيصعب فيه الحصول على المحاصيل الزراعية، ويُسمى هذا عندهم الفصيد. وسأوضح للقاريء الفاضل هذه النقطة، كما وردت في كتب الأقدمين.
قال ابن منظور” وَقَوْلُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِن اللَّهَ قَدْ أَراحكم مِنَ الشَّجَّة والبَجَّة ؛ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: البَجَّةُ الفَصِيد الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تأْكُلُهُ فِي الأَزْمَةِ، وَهُوَ مِنْ هَذَا، لأَن الفاصدَ يَشُقُّ العِرْقَ؛ وَفَسَّرَهُ ابْنُ الأَثير فَقَالَ: البَجُّ الطَّعْنُ غير النافذ، كانوا يَفْصِدُونَ عِرق الْبَعِيرِ ويأْخذون الدَّمَ، يتبلَّغون بِهِ فِي السَّنَةِ الْمُجْدِبَةِ، وَيُسَمُّونَهُ الْفَصِيدُ”. (لسان العرب2/210). وقال ابن سيده” الفَصِيد – دمٌ كَانَ يُوضَع فِي الجاهِليَّة فِي مَعَى ويُشْوَى”. (المخصص1/420).
كما ذكر ابن منظور” الفَصِيدُ: دَمٌ كَانَ يُوضَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي مِعًى مِنْ فَصْدِ عِرْقِ الْبَعِيرِ ويُشْوى، وَكَانَ أَهل الْجَاهِلِيَّةِ يأْكلونه وَيُطْعِمُونَهُ الضَّيْفَ فِي الأَزْمة. ابن كُبْوَةَ: الفَصيدَة تمرٌ يُعْجَنُ ويُشابُ بِشَيْءٍ مِنْ دَمٍ وَهُوَ دَوَاءٌ يُداوَى بِهِ الصِّبْيَانُ، قَالَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِمْ: مَا حُرِمَ مَنْ فُصْد لَهُ. وَفِي حَدِيثِ
أَبي رَجَاءٍ العُطاردي أَنه قَالَ: لَمَّا بَلَغَنَا أَن النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخذ فِي الْقَتْلِ هرَبْنا فاسْتَثَرْنا شِلْوَ أَرنبٍ دَفيناً وفَصَدْنا عَلَيْهَا فَلَا أَنسى تِلْكَ الأُكْلَةَ
قَوْلُهُ: فَصَدْنا عَلَيْهَا يَعْنِي الإِبل وَكَانُوا يَفْصِدونها ويعالِجون ذَلِكَ الدمَ ويأْكلونه عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَي فَصَدْنَا عَلَى شِلْوِ الأَرنب بَعِيرًا وأَسلنا عَلَيْهِ دَمَهُ وَطَبَخْنَاهُ وأَكلنا”. (لسان العرب3/336). وقال جمال الدين إبن نباتة : حكى ابن الاعرابي” أسر حاتم في عنزة، فقالت له امرأة يوما: قم فأفصد لنا هذه الناقة! وكان الفصد عندهم أن يقطع عرق من عروق الناقة يجمع الدم فيشوى ويؤكل، فقام حاتم الى الناقة فعقرها، فلطمته المرأة، فقال: لو غير ذات سوار لطمتني! فذهبت مثلا. ثم قال له النسوة: إنما قلنا لك افصدها، قال: هذا فزيدي أنه، يعني فصدي أنا، وهي لغة طي”. (سرح العيون/116). وقد رواها النهرواني بطريقة أخرى” حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْحَارِث قَالَ، قَالَ أَبُو عبد الله ابْن الْأَعرَابِي: كَانَ حَاتِم الطَّائِي أَسِيرًا فِي عنزة فَقَالَت لَهُ امْرَأَة مِنْهُم يَوْمًا: قُم فافصد لنا هَذِه النَّاقة، وَكَانَ الفصد عِنْدهم أَن يقطع عرق من عروق النَّاقة ثُمَّ يجمع الدَّم فيشوى، فَقَامَ حَاتِم إِلَى النَّاقة فنحرها فلطمته الْمَرْأَة، فَقَالَ حَاتِم: لَو غير ذَات سوارٍ لطمتني. فَذهب قَوْله مثلا. وَقَالَت لَهُ النسْوَة: إِنَّمَا قُلْنَا لَهُ افصدها، فَقَالَ: هَكَذَا فصدي أَنه. قَالَ أَبُو بكر: يُرِيد أَنا وَهِي لُغَة طَيء”. (الجليس الصالح/431). وقَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قد كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة فِيمَا ذكر يشوون الدَّم مخلوطًا بالوبر ويأكلونه ويسمونه العلهز.
ومن الأمثال القديمة (لَمْ يُحْرَمْ مَنْ فُصْدَ لَهُ)، فسره اللغويون” مِنْ أَمثالهم فِي الَّذِي يُقْضَى لَهُ بعضُ حَاجَتِهِ دُونَ تَمَامِهَا: لَمْ يُحْرَمْ مَنْ فُصْدَ لَهُ، بإِسكان الصَّادِ، مأْخوذ مِنَ الفَصيدِ الَّذِي كَانَ يُصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ويؤْكل”. (لسان العرب3/336).
الحقيقة أن هناك الكثير من المأكولات التي ترجع إصولها الى العرب، وعندما كنت أتحدث الى بعض الأجانب مبينا لهم أن أصل المقانق عربي تنتابهم الدهشة والحيرة لأنهم لم يسمعوا ذلك من قبل، لكنها سرعان ما تزول الدهشة عندما نبين لهم أن الكثير من العرب أنفسهم لا يعرفون هذه الحقيقة.
ويخبرنا التوحيدي بأن الأعراب إستعملوا المطيبات من التوابل مع النقانق بقوله” وطردين ونقانق وضفاير وشرائح وكباب رشيدي وحبوب مبزرة”. (أي مطيبة بالتوابل)”. (الرسالة البغدادية/159). وكانوا يأكلون المقانق مع الخردل قال أبو سعد الآبي” َاشْترى جحا يَوْمًا نفانق فانقض عَلَيْهِ عقابٌ، وانتسفَ بعض النفانِق فَطَار بِهِ فنظَر إِلَيْهِ، وَقَالَ: يَا شقيُّ. وَمن أَيْن لَك خَردَلٌ تأكلُه بِهِ؟”. (نثر الدر في المحاضرات5/211).
وهذا ما يقال عن الكباب المشوي، وكذلك ما يسمى بكباب الساطور الذي يضاف له البصل والكرفس.
ذكر الراغب الأصبهاني” قصد رجل الحجّاج فأنشده:
أبا هشام ببابك قد شمّ ريح كبابك
فقال: ويحك لم نصبت أبا هشام؟ فقال: الكنية كنيتي إن شئت رفعتها وإن شئت نصبتها”. (محاضرات الأدباء1/87) وأضاف الراغب الاصفهاني” كان لبعضهم مملوك يتشطر وكان إذا قال له صاحبه: هات الدواة، قال: مرحبا بجعفر البرمكي. وإذا قال: ناولني ثوبي. قال: قيصر يلبس وإذا قال: اغسل ثيابي. قال: يونس النبي كان خيرا منك. لبس القرع، وآدم عليه السلام لبس ورق التين، وأنت لا تلبس ثوبا وسخا. وإذا قال: اذهب إلى السوق. قال: خذلني الله إن ذهبت حتى آكل كبابا، وأتناول شرابا”. (محاضرات الأدباء).
وبين الغزولي” الكباب: بفتح الكاف وهو اللحم المشروح وأجوده ما شرح اللحم شريحاً خفيفاً ونثر عليه الملح ونصب له مقلى على النار بلا دسم وطرح عليه وقلب من جنب إلى جنب حتى ينضج ويحمر هذا هو الكباب الخالص بعينه وهو الذي كان يعمل ليحيى بن خالد ولولده وفيه يقول أبو الفتح البستى:
عليك إذا أنجاب الدجى بكباب وعقبه مرتاحاً بكأس شراب
فلم يفتح الأقوام بابا إلى المنى كباب شراب أو كباب كباب
(مطالع البدور ومنازل السرور).
كما قال ابن الحجاج:
تفعل فِي لَحْمه الْمهرِي مَا يفعل الْجَمْر بالكباب
(يتيمة الدهر3/92).
وأنشد الفياض الهروي:
يومنا يوم شراب وسَماع وكبابِ
وقيان وقنــــان وأغاني وتَصابي
(طرائف الطرف/55).
ولنا أحاديث أخرى عما لا يعرفه الكثير عن تراثهم الرائع.. بعون الله.
علي الكاش