أمي هي سبب بقائي حيا, وهي سبب سعادتي, وهي في البيت الأم والأب والخالة والجدة, فجدتي لأمي ماتت ونحن أطفال, وجدتي لأبي ماتت وعمري22 عاما, وأبي مات وعمري15 عاما, لذلك أمي هي كل شيء بالنسبة لنا جميعا كأفراد عائلة, وهي الخالة, لأن أمي ليس لها أخوات فهي الوحيدة لأمها وأبيها, وهي العم أيضا, فعندما مات عمي الوحيد,قلت لها مازحا:الآن أصبحت عما لي,ولو ماتت أمي وعاش أبي لضعنا في هذه الحياة, والحمد لله أن الذي أمات أبي وليس أمي, الأم لا يمكن تعويضها , فهي ليست سلعة تباع وتشترى,فلا أحد يستطيع أن يعوض حنان الأم ولا أحد من الممكن أن يأت لنا بأم بديلة وكما قال المثل الأردني العامي(ما أحن من الولّاده غير عرصه وقواده) , ولكن الأب من الممكن أن يعوض بقطعة حلوى أو بمبلغ بسيط في البنك , ولكن الأم لا يمكن أن تعوضها كل مصاري الدنيا , ولكن بحنان الأم من الممكن أن نعوض أي حنان ينقصنا كبشر, فأمي عوضتني عن الأب وعن الجد والجده والخالة والعم , ولو ماتت أمي لتزوج أبي وأهملنا جميعا ولجاءت لنا زوجة أب تحتل مكانة أمي , ومن الممكن أن تستولي على مقتنيات أمي الثمينة مثل الخزانة والمنشفة والمنديل والوسادة والغطاء, فأنا شخصيا أقدس كل مقتنيات أمي التي من الممكن أن تعتبروها أنتم مقتنيات بسيطة ولكن في الواقع ثمينة جدا ولا أحد يعرف ثمنها, حتى(المطوى) الذي تطوي عليه الأغطية مثل(الحرامات واللحفة) هذه مقتنيات أثمن من ثمينة لأن فيها رائحة أمي العطرة, وحتى جهاز فحص السكر أقدسه وأقدس الإبر(السرنجات) التي تتعاط بهن مادة الأنسولين لتخفيف السكر في الدم, وربما إذا ما افترضنا أن أمي هي التي ماتت وتزوج أبي ربما تأتينا زوجة أب وتطردنا من البيت, كما حدث ذلك مع الكثير الكثير من الناس .
أمي عاشت طوال حياتها وهي تعمل على توسعة البيت لنا لكي يضمنا أكثر من أي وقتٍ مضى, وحين مات أبي كان عمرها أقل من 30 ثلاثين عاما, وكانت جميلة , حاول بعض الناس أن يخطفها منا ولكنها رفضت وبقيت قاعدة علينا كما تقعد الدجاجة على بيضها, عملت في وظيفة حكومية بوزارة التربية والتعليم في الوقت الذي كان فيه العمل للمرأة عيب, وتعرضت أثناء العمل إلى الكثير من الإهانات ولكنها صبرت كثيرا وتجاوزت كل المحن والاختبارات وتنازلت عن كبريائها من أجلنا نحن, كل هذا من أجل أن نعيش بكرامة وأن لا نحتاج إلى أحد, وما زالت إلى اليوم تنفق على منزلي,وترعى أولادي, وأولادي بالنسبة لها غالين عليها جدا وكأنها هي التي أنجبتهم, لا يمكن أن نجد أحدا يشبه الأم في التصرفات,ولكن كما قلت لكم من الممكن تعويض الأب.
أمي التي لم تتركنِ لحظة واحدة منذ يوم ولادتي حتى اليوم,ما زالت تتعامل معي وكأنني ما زلت طفلا صغيرا, حاولت طوال السنين التي مرت أن أقنعها بأنني لم اعد طفلا بل رجلا قادرا على تحمل المسئولية, ولكن أمي تترأف لحالي وتشفق لحالي في كل مرة أحاول فيها أن أقول لها بأنني رجلٌ, كان ذلك أول مرة سنة 1987م يوم تركت مقاعد الدراسة وخرجت من المدرسة الإعدادية من الصف التاسع متوجها للالتحاق بمواقع العمال والشغيلة لكي أكسب النقود وأنفق على البيت بدلا منها, أول مرة حصلت فيها على 35 قرشا وهن ثمنا لعشر ساعات من العمل تخلله حمل الطوب والاسمنت والرمال على كتفي,وحين عدت إلى البيت بهذا المبلغ ضحكت أمي وقالت: بعدك طفل صغير يا ولدي,ماذا أفعل بال35 قرشا؟هل تريد بهذا المبلغ أن تنفق على البيت؟, فوقفت أمامها بكل رجولة وقلت:نعم أستطيع, فضحكت والدموع تملئ عينيها وقالت: ال35 قرشا لا يكفن لتنظيفك من رمال الورشة التي عملت فيها, ال35 قرشا لا يكفن ثمنا لحذائك الذي تمزق وأنت تصعد الدرج وتنزل, ال35 قرشا لا يكفن لشراء وجبة عشاء لك وليس لكل أهل الدار, عندها شعرت باليأس من كلام أمي وانثنيت على جنبي وضربت كوعا على جنبي اليمين وأخذت نفسا عميقا وقلت: لا عليك ذات يوم سأصبح رجلا قادرا على تحمل المسئولية.
وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى الدكانة المجاورة لمنزلنا واشتريت شفرة حلاقة,وعدتُ فيها إلى البيت ووضعت لأول مرة في حياتي الصابون الخاص بالحلاقة على وجهي, وبدأت أحلق شعر وجهي رغم أن وجهي لم يكن قد نبت فيه الشعر بعد, وذلك حتى أقنعها بأنني أصبحت رجلا مثل كل الرجال والشعر يملئ لي وجهي, فجاءت أمي وشاهدتني وضربت على وجهها وقالت:شو بتساوي يا نُص نصيص؟ فقلت: أحلق وجهي مثل كل الرجال, فقالت: وهل أصبحت رجلا؟إنت بعدك بتبكي على الخبزه إذا ما لقيتهاش,ولك هي كاينه الزلم باللحى والشوارب؟؟؟ وبعدك يا نص نصيص ما بلغتش من العمر 16 سنة, فقلت لها: بل أنا رجل, أنا رجل, قلتها بكل عصبية, وغدا ستفهمين كيف سأصبح رجلا هكذا مثل كل الرجال, كانت أمي وما زالت إلى اليوم تعتقد بأنني لم ابلغ سن الرجولة فأنا بنظرها ما زلت طفلا.
وبعد سنة واحدة لاحظتُ أن صوتي بدء يغلظ وصار فعلا خشنا, ففرحت جدا وقلت لنفسي: طلع على أرجلي شعر وعلى وجهي وصار صوتي مثل صوت الرجال, وقالت أمي مثل الرجال ولم تقل بأنني أصبحت رجلا,كان جسمي في طفولتي هزيلا جدا وكانت جدتي تشفق عليّ جدا جدا وكانت أمي مثلها وكن يصفنني دوما بكلمة(نص إنصيص),لم استطع أن أكافئ أمي طوال حياتي أو تعويضها عن سهر الليالي وتعويضها على ما فات من عمرها وهي ترعانا أنا وأخواتي الأربع وأخي الوحيد, ترى بماذا يمكن لنا أن نكافئ الأم؟ هل تخصيص يوم واحد لها في السنة قادرٌ على تعويضها؟ هل لو أشعلنا لها أصابعنا العشر شمعا من الممكن أن نعوضها؟ إننا في كل الحالات لا نستطيع تعويض الأم مطلقا, أبدا, ولكن هكذا نحن لا نملك شيئا نقوله للأم إلا الكلمات, وبعد كل هذه الإجراءات نفتح على المحطات الفضائية العربية لنجد رجلا يقول عن نفسه أنه من كبار العلماء ليقول لنا: المرأة ناقصة عقل ودين, ونستمع من مكبرات الصوت للشيوخ من المساجد وهم يقولون: لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة,وأمي عاشت طوال حياتها لتثبت عكس كل هذه الخزعبلات.