الأخلاق الجديدة

نحن اليوم نعيش كلنا في عالمٍ كبير جدا تحكمه مؤسسات علمية ومؤسسات مجتمع مدنية غنية بالقوانين,قوانين تراعى فيها جيدا حقوق الفرد والجماعة,وما تراه أنت عيبا يراه غيرك شيئا عاديا جدا,وهذا ينبع من مدى معرفتنا لاختلاف العادات والتقاليد وتفاوتها من شخص إلى شخص ومن جماعة إلى جماعة, إن النظرة لكل شيء هاهنا ليس ثابتا بل يبدو أنه نسبيا إلى حدٍ كبير, لذلك لا وجود حقيقي للدين إذا أراد أن يفرض نفسه بالقوة أو لأنه يعتقد أن الأصوب والأصح في مجتمع مربع الشكل وجميع زواياه قائمة ومتساوية بالطول وبالعرض,والمعنى واضح وهو أن كل الناس متساوون بالحقوق وبالواجبات والقانون هو سيد الموقف بلا جدال.

نحن نعيش في مجتمعات كتلية صناعية, تدهشنا فيه مؤسسات الرعاية الاجتماعية التي تقدم للمواطن كل التسهيلات اللازمة لسفره أو لبقائه,عالمٌ مدهش جدا بما فيه من وسائل النعيم والراحة حيث أراحت الآلة الإنسان من كل الشقاء ومن كل التعب, نحن في عالم يسير أغلبه نحو الإلحاد والبقية منه تحكمه النزعة الدينية لكي يميز هؤلاء الناس الصح من الخطأ, عالم يرضى بالتجربة التي يحقق من خلالها خبرته العلمية والعملية, عالمٌ مشحون بالرضا وبالتفاؤل وبكبح جماح الخوف لديه من المجهول,إنه عالم لا تتصارع فيه المادة مع الروح وإنما يؤلفان جواً ديمقراطيا يختار فيه الفرد رغبته في الحياة سواء أكان ملحدا ماديا أو مثاليا متدينا بدينٍ يقبل بالحياة العصرية, عالم يزداد فيه الخيال اتساعا كلما تقدمت وسائل الراحة وتنتشرُ فيه الأخلاق الجديدة التي لا تلتزمُ بنمطٍ واحد من الأخلاق حيث تؤلف الجماعات السكانية في بيئة واحدة مجموعة من الأخلاق يرضون فيها لأن تسيرهم لِما هو غير محفوف بالمخاطر,وفي وسط هذه الجماعات يدخل الأفراد ليختاروا أي نمطٍ يرضون به.

إن الإنسان مع بداية التقدم العلمي والتكنولوجي بدأ يعرفُ نمطا جديدا من الحريات لا يعتمد هذا النمط على الحرية التقليدية أو الحرية النخبوية كما هو سائد في الإسلام,حيث يقبل الإسلام بنظام الشورى الذي يعتمد على نخبة معينة من داخل الحزب الإسلامي الواحد إذ أن التيار الواحد هو الذي يحكم وليس لباقي الناس أي قيمة معنوية أو مادية,وهذا خطأ في عرف الأخلاق السياسية والأخلاق الحديثة والديمقراطية المتطورة جدا, فهنالك أكثر من مليار إنسان لكل واحد من هؤلاء الناس طبيعة تفكير مستقلة عن بعضها البعض ولهؤلاء حق ممارسة حياتهم بالصورة التي يرونها مناسبة لهم وعن هؤلاء تنبثق مؤسسات مجتمع مدنية تحكم بالقوانين الحديثة حيث تعترف تلك المؤسسات بأحقية الإنسان بتشكيل الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات والأندية, على اختلاف ألوان الناس الفكرية,فلا يمكن أن يحكم الناس لونٌ واحد تنحاز إليه الأغلبية وتجبر الأقليات في الدخول فيه بل على العكس من ذلك هنالك ألوان متعددة تشع من جوهر روح الديمقراطية,التي تشرعن للناس حقهم الكامل في اختيار أي جمعية وأي جماعة إثنية مستقلة بأخلاقها,لذلك الأخلاق الحديثة والسياسة وجهان لعملة واحدة ويجب أن نعترف للجميع بحقهم في الانتساب إلى الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع مدنية وإضافة إلى ذلك تعزيز روح الفرد الواحد ودعمه بكل ما هنالك من قوة من أجل تحقيق ذاته في مجتمع تتساوى فيه الحقوق والواجبات,وعلى رأس هذه المساواة,نعم,مساواة المرأة بالرجل ذلك أن التقنيات الحديثة التي لم يعد فيها العمل يعتمد على القوة العضلية وحدها أتاحت للمرأة إظهار قدرتها على العمل في المواقع التي كان العملُ فيها لا يتناسب كميا ونوعيا إلا مع الرجال,وبالتالي تبدلت النظرة وتغيرت الأخلاق وفق مؤشرات أتاحت للمرأة أن تكون مثلها مثل الرجل.

إن قدرتنا على إدارة أنفسنا تنبع من قدرتنا على تقبل النظام الأخلاقي الجديد,الذي تنبثقت أو الذي انبثقت عنه أخلاق جديدة كانت في الماضي كفرا أو عيبا,وهنا نكتفي بالإشارة لها دون الحديث عنها لأن أغلبنا يعرفها تحت مسمى العادات والتقاليد فهذه العادات والتقاليد تبدلت وفق المنظومة الجديدة حيث أظهرت الحياة نظاما حديثا للعمل ولطرائق الحياة وبالنظرة للمرأة وللطفل على أنهما كانا مضطهدان من قبل المؤسسات القديمة ذات الأخلاق القديمة,ولكن هاهنا ظهرت الأخلاق الجديدة وذهب العيب إلى الجحيم حيث أصبح العيب نمطا تسلكه فئة معينة من الناس لا يمكن ولا بأي صورة كانت أن نقهرهم أو نردعهم فهذه حياة جديدة كل إنسان فيها يجد أناساً جدد يقبلون بالذي يقبل فيه هو وهؤلاء في النهاية يشكلون ثقافة عرقية(إثنية) مستقلة بحد ذاتها ولها الحق في أن تعيش وفق ما تؤمن به,وهنا الحرية والديمقراطية خلقت نوعا جديدا من الأخلاق ندرسه في سلوك الناس والأفراد والجماعات والمؤسسات التي تشع بالحرية,ولم يعد العيب عيبا بل نمطا جديدا من الحياة,وما جعله جديدا هو الاعتراف به وبوجوده وبعدم تجاهله.

ومن الأدب اللائق والأناقة الفائقة عدم التدخل بحياة الناس وبطريقتهم في المأكل والملبس والمشرب وطرق الزواج,فهنالك أناس يعترفون بحق المرأة بممارسة الجنس قبل الزواج وهنالك من لا يعترف بهذا الحق,والأخلاق الحديثة ترى أن لكل جماعة الحق في العيش وفق ما تراه هي أنه الصواب,وبالتالي ليس هنالك شيء أسمه العيب أو الخجل منه أو حتى الخوف منه,فلا داعي للخوف طالما أن القوانين هي التي تحكم وفق الاعتراف بحق كل إنسان بأن ينتسب للجماعة التي يراها موافقة لأهوائه وأطروحاته ومعتقداته.

هذا عالمٌ جديد وليس مجنونا,بل يريح المغلوب والمضطهد ويؤمن فيه الخائف على حياته ويدفع كل الناس إلى التألق في مجال الإبداع العام والخاص, هذا الإنسان الحديث له الحق في أن يبدع بالديمقراطية وبالأخلاق وتطويرها وفق مؤشرات الدخل السنوي له أو وفق مؤشرات العمل وطبيعة الوظيفة.

About جهاد علاونة

جهاد علاونه ,كاتب أردني
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.