الأجنحة المتكسرة (مقتطفات)
جبران خليل جبران
ان للجمال لغة سماوية تترفّع عن الاصوات والمقاطع التي تحدثها الشفاه والالسنة، لغة خالدة تضم اليها جميع انغام البشر تجعلها شعوراً صامتاً مثلما تجتذب البحيرة الهادئة اغاني السواقي الى اعماقها وتجعلها سكوتاً ابدياًّ.
……………………
ان الجمال سرّ تفهمه ارواحنا وتفرح به وتنمو بتأثيراته، اما افكارنا فتقف امامه محتارة محاولة تحديده وتجسيده بالالفاظ ولكنّها لا تستطيع. هو سيال خافٍ عن العين يتموج بين عواطف الناظر وحقيقة المنظور. الجمال الحقيقي هو اشعة تنبعث من قدس اقداس النفس وتنير خارج الجسد مثلما تنبثق الحياة من اعماق النواة وتكسب الزهرة لوناً وعطراً- هو تفاهم كلّي بين الرجل والمرأة يتم بلحظة، وبلحظة يولد ذلك الميل المترفّع عم جميع اليمول- ذلك الانعطاف الروحي الذي ندعوه حبّاً.
……………………
ومرت دقائق وكلانا صامت مفكّر يترقب الاخر ليبدأ بالكلام. ولكن هل هو الكلام الذي يحدث التفاهم بين الارواح المتحابة؟ هل هي الاصوات والمقاطع الخارجة من الشفاه والالسنة التي تقرّب بين القلوب والعقول؟ افلا يوجد شيء لسمى مما تلده الافواه واطهر مما تهتز به اوتار الحانجر؟ السيت هي السكينة التي تفصلنا عن ذواتنا فنسبح في فضاء الروح غير المحدود، مقتربين من الملأ الاعلى، شاعرين بأن اجسادنا لا تفوق السجون الضيقة، وهذا العالم لا يمتاز عن المنفى البعيد؟
……………………
كل شيء عظيم وجميل في هذا العالم يتولّد من فكر واحد او من حاسة واحدة في داخل الانسان. كلّ ما نراه اليوم من اعمال الاجيال الغابرة كان قبل ظهوره فكراً خفيّاً في عاقلة رجل او عاطفة لطيفة في صدر امرأة… الثورات الهائلة التي اجرت الدماء كالسواقي وجعلت الحرية تعبد كالآلهة كانت فكراً خيالياً مرتعشاً بين تلافيف دماغ رجل فرد عائش بين الوف من الرجال. والحروب الموجعة التي ثلت العروش وخربت الممالك كانت خاطراً يتمايل في رأس رجل واحد. والتعاليم السامية التي غيرت مسير الحياة البشرية كانت ميلاً شعريّاً في نفس رجل واحد منفضل بنبوغه عن محيطه. فكر واحد اقام الاهرام وعاطفة واحدة خربت تروادة وخاطر واحد اوجد مجد الاسلام وكلمة واحدة احرقت مكتبة الاسنكدرية
……………………
ما اجهل الناس الذين يتوهمون ان المحبة تتولد بالمعاشرة الطويلة والمرافقة المستمرة. ان المحبة الحقيقية هي ابنة التفاهم الروحي وان لم يتم هذا التفاهم الروحي بلحظة واحدة لا يتم بعام ولا بجيل كامل
……………………
إن الكتّاب والشعراء يحاولون إدراك حقيقة المرأة ولكنهم للآن لم يفهموا أسرار قلبها ومخبآت صدرها لأنهم ينظرون إليها من وراء نقاب الشهوات فلا يرون غير خطوط جسدها أو يضعونها تحت مكبرات الكره فلا يجدون فيها غير الضعف والاستسلام
……………………
أي فتى لا يذكر الصبية الأولى التي أبدلت غفلة شبيبته بيقظة هائلة بلطفها، جارحة بعذوبتها، فتاكة بحلاوتها؟ من منا لا يذوب حنيناً إلى تلك الساعة الغريبة التي إذا انتبه فيها فجأة رأى كليته قد انقلبت وتحولت، وأعماقه قد اتسعت وانبسطت وتبطنت بانفعالات لذيذة بطل ما فيها من مرارة الكتمان، مستحبة بكل ما يكتنفها من الدموع والشوق والسهاد.
……………………
يقولون إن الغباوة مهد الخلود والخلود مرقد الراحة ــ وقد يكون ذلك صحيحاً عند الذين يولدون أمواتاً ويعيشون كالأجساد الهامدة الباردة فوق التراب، ولكن إذا كانت الغباوة العمياء قاطنة في جوار العواطف المستيقظة تكون الغباوة أقصى من الهاوية وأمر من الموت
……………………
المحبة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم لأنها ترفع النفس إلى مقام سام لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسود عليه نواميس الطبيعة وأحكامها.
……………………
إن النفس الحزينة المتألمة تجد راحة بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها بالشعور وتشاركها بالإحساس مثلما يستأنس الغريب بالغريب في أرض بعيدة عن وطنيهما ــ فالقلوب التي تدنيها أوجاع الكآبة بعضها مع بعض لا تفرقها بهجة الأفراح وبهرجتها، فرابطة الحزن أقوى في النفوس من روابط الغبطة والسرور؛ والحب الذي تغسله العيون بدموعها يظل طاهراً وجميلاً وخالداً
……………………
هكذا تفرقنا سبل الحياة لتذهب بك إلى أمجاد الرجل وتسير بي إلى واجبات المرأة
……………………
غداً يسير بك القدر إلى أحضان العائلة المملوءة بالراحة والهدوء. ويسير بي إلى ساحة العالم حيث الجهاد والقتال. أنت إلى منزل يسعد بجمالك وطهر نفسك. وأنا إلى مكامن أيام تعذبني بأحزانها وتخيفني بأشباحها. أنت إلى الحياة وأنا إلى النزاع. أنت إلى الأنس والألفة وأنا إلى الوحشة والانفراد !
……………………
إن اللذين لم يهبهم الحب أجنحة لا يستطيعون أن يطيروا إلى ما وراء الغيوم ليروا ذلك العالم السحري الذي طافت فيه روحي
……………………
إن عذاب النفس بثبات أمام المصاعب والمتاعب لهو أشرف من تقهقرها إلى حيث الأمن والطمأنينة فالفراشة التي تظل مرفرفة حول السراج حتى تحترق هي أسمى من الخلد الذي يعيش براحة وسلامة في نفقه المظلم
……………………
إن المدينة الحاضرة قد أنمت مدارك المرأة قليلاً ولكنها أكثرت أوجاعها بتعميم مطامع الرجل، كانت المرأة بالأمس خادمة سعيدة فصارت اليوم سيدة تعيسة، كانت بالأمس عمياء تسير في نور النهار فأصبحت مبصرة تسير في ظلمة الليل. كانت جميلة بجهلها فاضلة ببساطتها قوية بضعفها فصارت قبيحة بتفننها سطحية بمداركها بعيدة عن القلب بمعارفه
……………………
للشبيبة أجنحة ذات ريش من الشعر وأعصاب من الأوهام ترتفع بالفتيان إلى ما وراء الغيوم فيرون الكيان مغموراً بأشعة متلونة بألوان قوس القزح ويسمعون الحياة مرتلة أغاني المجد والعظمة، ولكن تلك الأجنحة الشعرية لا تلبث أن تمزقها عواصف الاختبار فيهبطون إلى عالم الحقيقة ــ وعالم الحقيقة مرآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغرة مشوهة
……………………
إن دمعة واحدة تتلمع عن وجنة شيخ متجعدة لهي أشد تأثيراً في النفس من كل ما تهرقه أجفان الفتيان.
……………………
أنا لا أحب هذا الرجل لأنني أجهله وأنت تعلم أن المحبة والجهالة لا تلتقيان
……………………
إنما الزيجة في أيامنا هذه تجارة مضحكة مبكية يتولى أمورها الفتيان وآباء الصبايا، الفتيان يربحون في أكثر المواطن والآباء يخسرون دائماً، أما الصبايا المتنقلات كالسلع من منزل إلى آخر فتزول بهجتهن ونظير الأمتعة العتيقة يصير نصيبهن زاويا حيث الظلمة والفناء البطيء
……………………
إن بهرجة الأعراس الشرقية تصعد بنفوس الفتيان والصبايا صعود النسر إلى ما وراء الغيوم ثم تهبط بهم هبوط حجر الرحى إلى أعماق اليم، بل هي مثل آثار الأقدام على رمال الشاطئ لا تلبث أن تمحوها الأمواج.
……………………
أنتم أيها الناس تذكرون فجر الشبيبة فرحين باسترجاع رسومه، متأسفين على انقضائه، أما أنا فأذكره مثلما يذكر الحر المعتوق جدران سجنه وثقل قيوده
……………………
للكآبة آياد حريرية الملامس، قوية الأعصاب تقبض على القلوب وتؤلمها بالوحدة. فالوحدة حليفة الكآبة كما أنها أليفة كل حركة روحية
……………………
الأعمال التي نحاول اليوم إخفاءها في زاويا المنازل تتجسم غداً، وتنتصب في منعطفات الشوارع
……………………
إن الرجل يشتري المجد والعظمة والشهرة ولكن هي المرأة التي تدفع الثمن
……………………
إن المحبة المحدودة تطلب امتلاك المحبوب، أما المحبة غير المتناهية فلا تطلب غير ذاتها
……………………
لقد علمت بأن الإنسان وإن ولد حراً يظل عبداً لقساوة الشرائع التي سنها آباؤه وأجداده، وأن القضاء الذي نتوهمه سراً علوياً لهو استسلام اليوم إلى مآتي الأمس، وخضوع الغد إلى أميال اليوم
……………………
كنت في الثامنة عشرة من عمري عندما فتح الحب عينيَّ بأشعته السحرية،ولمس نفسي لأول مرة بأصابعه النارية. وكانت سلمى كرامة المرأة الأولى التي أيقظت روحي لمحاسنها،ومشت أمامي إلى جنة العواطف العلوية حيث تمر الأيام كالأحلام وتنقضي الليالي كالأعراس.سلمى كرامة هي التي علمتني عبادة الجمال بجمالها، وأرتني خفايا الحب بانعطافها، وهي التي أنشدت على مسمعي أول بيت من قصيدة الحياة المعنوية.
……………………
كل فتى سلمى تظهر على حين غفلة في ربيع حياته. وتجعل لانفراده معنى شعرياً وتبدل وحشة أيامه بالأنس، وسكينة لياليه بالأنغام. كنت حائراً بين تأثيرات الطبيعة وموحيات الكتب والأسفار عندما سمعت الحب يهمس بشفتي سلمى في آذان نفسي، وكانت حياتي خالية مقفرة باردة شبيهة بسبات آدم في الفردوس عندما رأيت سلمى منتصبة أمامي كعمود النور، فسلمى كرامة هي حواء هذا القلب المملوء بالأسرار والعجائب، هي التي أفهمته كنه هذا الوجود وأوقفته كالمرآة أمام هذه الأشباح. حواء الأولى أخرجت آدم من الفردوس بإرادتها وانقياده، أما سلمى فأدخلتني إلى جنة الحب والطهر بحلاوتها واستعدادي، ولكن ما أصاب الإنسان الأول قد أصابني، والسيف الناري الذي طرده من الفردوس هو كالسيف الذي أخافني ….
………………………………………………
ان حياة الانسان لا تبتدىء في الرحم كما انها لا تنتهي امام القبر، وهذا الفضاء الواسع المملوء باشعة القمر والكواكب لا يخلو من الارواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم
……………………….
ومرت دقائق وكلانا صامت مفكر يترقب الاخر ليبدأ بالكلام. ولكن هل هو الكلام الذي يحدث التفاهم بين الارواح المتحابة؟ هل هي الاصوات والمقاطع الخارجة من الشفاه والالسنة التي تقرب بين القلوب والعقول؟ افلا يوجد شيء أسمى مما تلده الافواه واطهر مما تهتز به اوتار الحناجر؟ أليست هي السكينة التي تفصلنا عن ذواتنا فنسبح في فضاء الروح غير المحدود، مقتربين من الملأ الاعلى، شاعرين بأن اجسادنا لا تفوق السجون الضيقة، وهذا العالم لا يمتاز عن المنفى البعيد؟
……………………………………..
هل وهبنا الله نسمة الحياة لنضعها تحت أقدام الموت؟ وأعطانا الحرية لنجعلها ظلاً للاستعباد؟ إن من يخمد نار نفسه بيده يكون كافراً السماء التي أوقدتها. ومن يصبر على الضيم ولا يتمرد على الظلم يكون حليف الباطل على الحق وشريك السفاحين بقتل الأبرياء.
……………………………………
إن البلبل لا يحوك عشاً في القفص كي يورث العبودية لفراخه