الآثار عدوة الظلام. تذكير بأيام العتمة أو زمن التنوير. الظلام لا يطيق الذاكرة، وآلة الهدم تسير دون توقف.
يتداولون فيما بينهم إزالة قبة المسجد النبوى، القبة الخضراء التى بنيت فى عهد السلطان قلاوون عام 678هـ. القبة بدعة. وتأييد وجودها شرك. مؤكد أن مناهضى بقاء القبة ارتاحوا كثيراً لقرار اختيار خارطة العالم الإسلامى بديلاً للقبة الخضراء كشعار للمدينة المنورة عاصمة للثقافة الإسلامية لكن ذات الأمر أثار عواصف من الحزن فى نفوس محبى تلك المدينة الروحانية.
يتداولون هدم مساجد إسلامية. المساجد القديمة بدعة. بعضهم تمادى فطالب بتسوية قبر النبى وإزالته. ولا أحد يعلم أين ستصل آلة الهدم يوماً ما.
مفاجآت رجال الدين لا تنتهى. عضوا هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالله المنيع والشيخ محمد المطلق زارا قبل فترة بسيطة مدينتى العلا، حيث آثار مدائن صالح الممتدة تاريخياً آلاف السنين قبل الميلاد. بدا للبعض أن زيارتهما ستفرج عن حكم زيارة الآثار. بدا أنها اعتراف بأهمية ما كان بنظرهم أحجاراً تحرف المؤمن عن إيمانه.
فهل ستنقذ الزيارة الدينية للآثار التاريخية بقية المعالم وتمنحها صك الوجود وحق الخلود؟ لا يبدو ذلك ممكناً فى الأمد القصير.
حاورت رجل دين متشدداً من المنتشرين اليوم والمطالبين بهدم كل عتيق. فشرح لى التصنيف المتطرف للأمر: «إن الآثار إن كانت تاريخية فتجوز المحافظة عليها وزيارتها وتحويلها لأماكن سياحة، أما إن كانت آثاراً دينية فهى خطرة ووجب هدمها خوفاً من تحويلها لمزار تمارس عليه طقوس الشرك والخزعبلات».
منطق عجيب. فى غاية العجب.
غار حراء لا تجوز زيارته خوفاً من أن يتحول لمزار. وتبنى أبراج الخمسة نجوم المطلة على الكعبة التى تصغر رويداً رويداً وتقل هيبتها كلما ارتفعت آلة البناء من حولها. مخططات جديدة لهدم وتوسعة الحرم لاستيعاب الزيادة ومخططات لناطحات سحاب شاهقة بآلاف الغرف ترتفع فوق قداسة الحرم عالياً. البعض يسميه تحالفاً بين رجال الأعمال ورجال الدين. رجل الأعمال يريد الهدم من أجل الربح ورجل الدين الجاهل يعتقد أن تبجيل الأماكن التاريخية شكل من أشكال الوثنية فلا مانع من أى قرار إزالة.
غار حراء تحول لمعلم مهجور.
وها هو رأى علماء اللجنة الدائمة للإفتاء حين سئلوا عن صعود جبل النور وتعبيد الطريق لحراء فكان ردهم: «الصعود إلى الغار المذكور ليس من شعائر الحج ولا سنن الإسلام بل إنه بدعة وذريعة من ذرائع الشرك بالله، وعليه ينبغى منع الناس من الصعود له ولا يوضع له درج ولا يسهل الصعود إليه».
أما الشيخ ابن باز فجاء رده على زيارة الغار:
«ولما كان تعظيم الآثار الإسلامية يخالف الأدلة الشرعية وما درج عليه السلف.. ويترتب عليه مشابهة الكفار فى تعظيم آثار عظمائهم.. فإن زيارة هذه الآثار من الأمور الشرعية وهى فى الحقيقة من البدع المحدثة ومن وسائل الشرك ومن مشابهة اليهود والنصارى فى تعظيم آثار أنبيائهم وصالحيهم واتخاذها معابد ومزارات.. وهذه الآثار كـ(غار حراء وغار ثور وبيت النبى عليه السلام ودار الأرقم ابن أبى الأرقم ومحل بيعة الرضوان) وأشباهها إذا عظمت وعبدت طرقها وعملت لها المصاعد واللوحات لا تزار كما تزار آثار الفراعنة وآثار عظماء الكفار وإنما تزار للتعبد والتقرب لله وبذلك نكون أحدثنا فى الدين ما ليس منه… إلخ» ولا أعلم كيف سنشابه اليهود. بتقربنا من الآثار الدينية؟ أم بالتشجيع على هدم القبة الخضراء مثلما تحلم إسرائيل بهدم المسجد الأقصى يوماً؟
الظلام يعيش تناقضاً. إذ يكره رؤية الماضى لكنه يتمسك بكل طرق الماضى.
بم تذكره آثار الماضى؟ بالعجز. ربما بالجهل، وبأمور كثيرة يريد التغاضى عنها والحياة كما إنسان الغابة. لا يحدث فى أى مكان من العالم أن تهدم قلعة أو يكسر عمود لأسباب دينية، نسافر ونقطع آلاف الأميال لنتأمل تحفة أو نشاهد معبداً أو ندخل كهفاً ولم نسجد ولم نرتل، أهو شك بوعى المسلمين أم أن القصة لا تعدو أن ثلة من الجهلة أمسكوا بزمام الفتوى؟ أم يظنون أن الجميع مهووس ويعيش كما تخبطهم؟ أم صدقوا أنهم إبراهيم عليه السلام فى تحطيمه للأصنام؟
لا تستنكروا بعد اليوم قطعهم رأس تمثال طه حسين أو المعرى أو تغطيتهم وجه أم كلثوم. إن كانوا «رجال دين» وضد وجود أى أثر للنبى فما بالكم بأثر أديب أو فنانة؟ رجال دين افتقدوا الذائقة الروحانية، لا لوم عليهم إذن لفقدانهم الذائقة العقلانية والأدبية والموسيقية.