استغلال بناء المساجد في الغرب لأهداف سياسية

بقلم د. عماد بوظو/
خلال شهر حزيران الحالي أعلن وزير الداخلية النمساوي أن بلاده تنظر بقضية طرد 60 إماما ورجل دين إسلاميا مرتبطين بتركيا، وتابع في مؤتمر صحفي في فيينا أن رجال الدين هؤلاء مع عائلاتهم يمكن أن يخسروا حقّهم في الإقامة في النمسا، كما أنه سيتم إغلاق سبعة مساجد بعد تحقيق لهيئة الشؤون الدينية أظهر صورا لأطفال يقومون بتمثيل لمعركة غاليبولي ضمن أحد المساجد الممولة من تركيا في إبريل نيسان الماضي، ويرتدي بعضهم زيا عسكريا ويؤدون التحية وهم يقفون بطابور ويلوحون بالأعلام التركية أمام حضور من الأطفال.
وفي صورة ثانية يتمدد بعض الأطفال أرضا حيث يلعبون دور الضحايا وقد لفّوا أنفسهم بالعلم التركي، وأعلن المستشار النمساوي سيباستيان كورتز أن الحملة تستهدف ما وصفه بالإسلام السياسي ومن يحصلون على تمويل من الخارج. يدير هذا المسجد الاتحاد الإسلامي التركي في النمسا المرتبط مباشرة بالهيئة التركية للشؤون الدينية.
وقد نددت تركيا بالقرار واعتبرته معاديا للإسلام وعنصريا. وقال إبراهيم كالين الناطق باسم أردوغان على تويتر “إن إغلاق النمسا سبعة مساجد وطرد أئمة هو نتيجة الموجة الشعبوية المعادية للإسلام والعنصرية والتمييزية في هذا البلد”.
في اليوم التالي انتقد الرئيس أردوغان هذا القرار، وقال في كلمة ألقاها في إسطنبول: “هذه الإجراءات التي اتخذها رئيس الوزراء النمساوي أخشى أنها تقود العالم إلى حرب بين الصليب والهلال … إنهم يطردون أئمتنا خارج النمسا. هل تعتقدون أننا سنقف مكتوفين حيال ذلك؟”


أتى خطاب الرئيس أردوغان هذا في سياق حملته الانتخابية لولاية جديدة في سلطته المستمرة منذ العام 2002. هذه ليست المشكلة الأولى التي تحدث بين الرئيس أردوغان وأغلب الدول الأوروبية لأنها لم تسمح للمسؤولين الأتراك في حكومة حزب العدالة والتنمية بتنظيم لقاءات جماهيرية على أراضيها للدعاية الانتخابية لسياسات الحزب وتوجهاته وللترويج لزعامة رئيسه أردوغان، هناك أسباب مختلفة للرفض الأوروبي منها تحفظات كثير من القوى السياسية الأوروبية على الخط السياسي الذي يمثله أردوغان وحزبه وما يرونه من تراجع في النهج الديموقراطي والعلماني للدولة التركية، ولكن العامل الأهم بالنسبة لهم هو انعكاس ذلك على الداخل الأوروبي نفسه حيث يبلغ عدد الأتراك المسجلين المغتربين في أوروبا بحدود ثلاثة ملايين في تقديرات عام 2015 نصفهم تقريبا في ألمانيا.
ويقول معهد برلين للسكان والتنمية أن المهاجرين الأتراك هم الأقل اندماجا في المجتمع الألماني، ويرجع بعض الساسة الألمان سبب فشل سياسة الاندماج إلى أن بعض الدول لا تريد لمواطنيها الاندماج الكامل في بلادهم الجديدة حتى لا تنقطع صلتهم ببلدهم الأصلي وما يترتب على ذلك من خسارة اقتصادية باعتبارهم أحد مصادر دخل تلك البلدان من خلال ما يرسلونه من تحويلات مالية من هناك أو ما ينفقونه خلال زياراتهم لوطنهم الأم.
كما أنه في المثال التركي حيث يتولى السلطة حزب إسلامي، فإنه حتى يستنهض قاعدته الشعبية يلجأ لخطاب تحريضي يتم التذكير فيه بصراعات تاريخية قديمة قامت على خلفيات قومية أو دينية. فمعركة غاليبولي التي قام الأطفال بتمثيلها في أحد مساجد النمسا حدثت في بدايات الحرب العالمية الأولى قبل أكثر من قرن، والأوروبيون الذين فقدوا في هذه الحرب عشرات ملايين الأرواح، والحرب الثانية التي أعقبتها والتي فاقت خسائرها بكثير الحرب الأولى، تجاوزوا كل ذلك اليوم ووضعوه خلفهم وصار من الماضي الذي أخذوا منه العبرة، وأعداء الأمس الذين خاضوا الحربين العالميتين أصبحوا اليوم مواطنين في كيان سياسي واقتصادي وثقافي واحد اسمه الاتحاد الأوروبي، لذلك فإنهم يستغربون ويستهجنون محاولات تهييج المشاعر وإحياء ذكريات تثير الغضب أو تنعش خطاب الكراهية حول حوادث وقعت بالماضي وتجاوزتها شعوبهم التي تتطلع اليوم لبناء مستقبلها المشترك الذي يضمن سعادة ورفاه أبنائها.
في الحالة التركية لا يكتفي حزب العدالة والتنمية عبر المساعدة في بناء مساجد وإرسال دعاة إلى أوروبا بالترويج لسياسة حزب العدالة والتنمية بين المغتربين الأتراك في أوروبا، بل يلعب دورا رئيسيا في تمثيل فكر ومواقف الإسلام السياسي، من خلال علاقاته وتعاونه وتنسيقه مع الأحزاب والتيارات السياسية ذات المرجعية الإسلامية في كامل الشرق الأوسط ويخوض صراعات مع قوى الاعتدال الإقليمية، ساحتها الدول الأوروبية.
يعتبر الرئيس أردوغان أنه من خلال إحياء تاريخ الخلافة العثمانية في بعض أنماط العمارة التي يبنيها أو طراز الملابس لبعض حرسه أو كثرة استعمال النصوص الدينية في خطاباته أن هذا قد يؤهله لزعامة العالم الإسلامي من جديد باعتبار أن الخلافة العثمانية وعاصمتها مدينة إسطنبول التركية كانت آخر دولة إسلامية كبرى والتي بذهابها اكتمل انقسام المسلمين لعشرات الدول الضعيفة، كما أنه ينظر لتركيا اليوم بالإضافة لكونها وريثة الإمبراطورية العثمانية، كأكبر وأقوى دولة إسلامية حاليا ولذلك سرعان ما يغضب عندما يرى أن تركيا تحت قيادته لا تعامل على هذا الأساس، وكان من الأمثلة على ذلك الاستياء الذي لم يتمكن أنصار أردوغان من إخفائه عندما اختار الرئيس ترامب المملكة العربية السعودية لتكون مكان لقاء القمة الذي عقده مع قادة العالم الإسلامي، مما دفع الرئيس أردوغان للتغيب عن هذه القمة.
بعد بروز الخلاف القطري مع المحور السعودي المصري الإماراتي على السطح، سار التنافس بين هذه الدول على نفس الأسلوب باستغلال بناء المساجد في أوروبا وتوظيفها لأهداف سياسية، حيث يتنافس الطرفان على بناء المراكز الدينية وتزويدها بالدعاة الذين يروجون للخط السياسي الخاص بهذه الدول بين المسلمين في البلدان الأوروبية.
فقد أعلنت إيطاليا مثلا أن بناء المساجد وصيانتها وتمويلها في إيطاليا تتحمل أغلبه قطر التي خصصت عام 2016 مبلغ 25 مليون يورو أنفقت لبناء 43 مسجدا، وكانت صحيفة العرب القطرية قد ذكرت عام 2014 أن جمعية قطر الخيرية تبنت مشروعا لإعادة تأهيل وتجديد 14 مركزا إسلاميا في إيطاليا، وأنشأت عددا من المراكز الإسلامية الكبرى فيها بتكلفة وصلت لعشرات ملايين الدولارات، كما تحدثت تقارير صحفية أن إسبانيا سمحت لقطر ببناء 150 مسجدا حتى العام 2020 مقابل تحمّلها تكاليف صيانة وتحديث مسجد قرطبة.
عموما ارتفعت إلى حد كبير عمليات بناء المساجد والمراكز الدينية الإسلامية في أوروبا في سياق هذه التنافسات الإقليمية حتى بلغت أعدادها في إسبانيا حوالي 1000 مسجد ومركز ديني، وفي فرنسا 2450، وفي بريطانيا 1700 مسجد تقريبا، ورغم أن أغلب هذه المساجد عبارة عن مراكز إسلامية ومصليات غير كبيرة ولكن عددها يبدو في كثير من الأحيان أكبر من الحاجة الحقيقية للمسلمين في الدول الأوروبية ولا تستخدم هذه المراكز لنشر الفكر الإسلامي بقدر استخدامها كأداة سياسية في الصراعات بين مموليها، مثل المحور التركي القطري بمواجهة المحور السعودي المصري الإماراتي حاليا والذي سبقه السياسة الإيرانية بعد الثورة الإسلامية بمواجهة النفوذ الخليجي في الثمانينيات والتسعينيات، والذي استخدم فيه الطرفان فائض الثروة خلال ارتفاع أسعار النفط العالمية للترويج لنمط من الإسلام يتماشى مع توجهات هذين المحورين حيث أنفقا جزءا غير قليل من مواردهما المالية لمحاولة كل طرف نشر المذهب الخاص به وطريقته في الحياة وفهمه للإسلام، والذي أدّى فيما بعد لما شاهده العالم من انتشار للأفكار المتطرفة وخلق الأرضية التي ساعدت على ظهور الإرهاب الإسلامي بشقيه السنّي والشيعي والذي أطلق عليه مؤيدوه اسم الصحوة الإسلامية.
خلال السنوات الأخيرة نمت في الدول الغربية شكوك حول الهدف من تمويل دول خارجية لبناء وصيانة مراكز إسلامية ضمن أراضيها، خصوصا أن أغلب دول الغرب علمانية والكنائس فيها منفصلة عن الدولة وتمويلها ذاتي، كما أن مضمون الخطاب الديني في الكثير من هذه المساجد ذو طبيعة غير وديّة تجاه محيطه المختلف عنه قوميا ودينيا، ومن أمثال هذه المراكز خرج بعض من قاموا بعمليات إرهابية استهدفت بعض المدن في الغرب خلال الأعوام الماضية، لذلك بدأت المطالبات بأن تكون الخطب في هذه المراكز باللغات الوطنية للبلد حتى تتمكن أجهزة الدولة من مراقبة محتواها، كما أن الرأي العام الأوروبي حاليا لا ينظر بعين الرضى لمحاولات دول خارجية لاستقطاب موالين لها من أبنائها أو من المقيمين فيها بحيث يبدو ولاء هؤلاء خارج حدود الوطن الذي استقبلهم ومنحهم جنسيته.
يعتبر الغرب اليوم أنه على المهاجرين إليه لأسباب اقتصادية أو سياسية أو إنسانية أو غيرها، أن يوضحوا موقفهم ويختاروا بين أن يكونوا جزءا من محيطهم ووطنهم الجديد حتى ولو كانوا أصحاب خلفية ثقافية أو دينية مختلفة، أو أنهم مازالوا يعتبرون أنفسهم غرباء عن هذا المحيط وقلوبهم وعقولهم مازالت تعيش في عالم بعيد وجغرافيا أخرى مما يجعل اندماجهم أكثر صعوبة وسعادتهم وقناعتهم في بلدهم الجديد أقل احتمالا وتزداد فرص ظهور مشاعر عدم الرضى عندهم وما يحمله ذلك من مخاطر لولادة التطرف والإرهاب.

شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.