ابن السرج

libanonتستطيع اللغة العربية، على غناها اللامحدود، أن تكون قاسية أحياناً. تسمّي المولود الذي يرميه أبواه، لقيطاً. لا أحد يريده، لكن ثمّة مُحسناً يلتقطه عن عتبة باب أو قرب مستوعب قمامة، والتعبير مشابه في اللغات الأوروبية، فرنسي الجذر ويعني “ابن السرج”. لأن المسافرين العابرين كانوا يتركون ثمراتهم على القارعة ويمتطون أفراسهم ويمضون.

الأسبوع الماضي ذكَّرنا الشاعر هنري زغيب في زاويته الأسبوعية بمرور 94 عاماً على إعلان “لبنان الكبير”. وزميلنا ليس شاعراً فحسب، بل هو أيضاً مؤرّخ سعيد عقل والياس أبو شبكة، وصاحب سيرة الرحابنة في “طريق النحل”، الأخوين اللذين نزلا من غابات ومراعي الشوير ليرفعا لبنان إلى خميلة الشعر ونشوة الموسيقى وحنوّ الألفة. يسارع الشاعر إلى التبرؤ من لبنان 1920 “والخنوع الرخو لفرنسا”، مؤكداً اعترافه بلبنان 1943، الذي اتهمه فتى بأنه سرق نشيده الوطني من الريف المغربي، منافسنا في الموسيقى وفي زراعة حشيشة الكيف. “ريف الكيف” سمّاه فرنسيّو الماريشال ليوتيه.

لم يرِد أحد “لبنان الكبير”. تداعى المسلمون إلى “مؤتمر الساحل” ليرفعوا عن صدورهم هذه السمعة. رأوا في اقتطاع الولايات الأربع الرجس الذي رأوه في منح “الوطن القومي اليهودي”. وكان الجنرال غورو جاداً في إعلانه أن البلد الكبير، أو المكبَّر، هو هدية للموارنة وثمرة للعلاقة معهم منذ القرن الثالث عشر.
الدروز رأوا أن الموارنة سرقوا حُلم الجبل. والشيعة، الذين لم يعترف بوجودهم الأتراك وأعلنت فرنسا الاعتراف بهم، قالوا: ما لنا ولوطن الحُكم فيه للمسيحيين والشركة للسنّي والحرمان لفقراء الجنوب و”فراريّة” الهرمل. والأرمن قالوا سوف نظلّ غرباء وأقلية ولا نريد مجزرة أخرى ولا تيهاً آخر. حافظوا على حيادكم، كبيراً صار أم ظلّ صغيراً.
مجموعة طوائف صغيرة حُشرت في بقعة أكبر قليلاً من جبل لبنان ومرقد العنزة. والسرج عالٍ لكنه ضيّق. قيل إن البطريرك الياس الحويك رفض دولة مع “وادي النصارى” لأن سكانه من الروم، وفضّل شيعة وسنّة البقاع. والحقيقة أن الرجل كان ملمّاً بالزراعة وبالملمّات وأراد السهل كي لا يموت اللبنانيون من المجاعة مرة أخرى.
لم تنسَ سوريا ما اقتُطِع منها في لبنان الكبير على رغم أنها تعوّدت ما اقتُطِع من “ولاية سوريا” في العراق وتركيا. وأول شروط المصالحة على وليد جنبلاط كانت التخلّي عن “نغمة” لبنان أولاً. وفي أحاديث ومقابلات حلفائها كانوا يحرصون على رواية الذكريات عن التعامل بالليرة السورية أيام الطفولة. تمثّل رفض لبنان الكبير في ثلاثة مشاهد وثلاث مراحل: المرحلة الأولى مع النهضة القومية الناصرية وقيام وحدة مصر وسوريا، فكانت جماهير السنّة تذهب إلى دمشق مُضمّنة بذلك عدم انتمائها إلى لبنان مستقل، مسيحي الوجه.
والمرحلة الثانية كانت في تنامي الثورة الفلسطينية وسيطرتها على بيروت والجنوب وطرابلس والبقاع. ويروي الرئيس شارل حلو، وهو الأضعف والأقل مغامرة وطائفية، يروي في مذكَّراته أنه عندما شهد مائة ألف مسلم في جنازة فدائي فلسطيني، خطر له أن يُعلن التقسيم.
قامت الحرب العام 1975 من أجل إنهاء لبنان الكبير، فلسطينياً هو “الطريق إلى فلسطين” وسورياً هو “العلاقات المميّزة” التي حلَّت محل النشيد الوطني.
أدّى سعي منظمة التحرير إلى السلطة وممارستها لها إلى تجفيل المسلمين أولاً. وعندما غادر رجالها كانوا جميعاً يُدركون مدى الخطأ الذي وقع. وأدّت ممارسات المخابرات السورية إلى نتائج مشابهة، مما حدا الرئيس بشار الأسد إلى التحدث عن “أخطاء” بعد خروج الجيش السوري في مشهد يذكِّر بصوَر الجلاء. وكان أكثر ما آلم دمشق أن الذين وقفوا وراء الانسحاب ورحَّبوا به هم المسلمون. وصيدا التي أعلنت أول “جمهورية عربية” العام 1975 هي خطيب ساحة الشهداء في احتفالات الخروج، وأرتال السيارات الآتية من طرابلس الشام والشمال تغطّي الطريق من نهر أبو علي إلى نهر بيروت.
فجأة، انضوى رافضو لبنان الكبير تحت فكرته. لكن فرنسا الحديثة كانت قد تغيّرت هي أيضاً. وبدَل البطريرك الحويك إلى جانب كليمنصو وقف السنّي رفيق الحريري إلى جانب جاك شيراك. وجاء رئيس فرنسا إلى قريطم يُلقي خطاباً يقول فيه: “برناديت وأنا، مَدينان كثيراً لنازك ورفيق”. تلك هي إشارات التخاطب بالأسماء الأولى في بلد لا يزال أهله يخاطبون السمكري والبقّال بميم الجمع، حضرتكم! صديق شيراك الآخر كان الأرثوذكسي عصام فارس، ومحاوره الإكليركي كان غفرائيل الصليبي، سيدنا غفريل للرعية. لا تبقى الأشياء كما هي إلا في ذاكرة الطفولة. أجريتُ أوائل الثمانينات مقابلة مع وزير الخارجية كلود شيسون في الكِي دورسيه. تجاوز اللقاء فترة السؤال والجواب مساء ذلك اليوم، وأراد الوزير الاشتراكي التحدث في الإنسانيات وعن الطفلة الفيتنامية التي تبنّاها. ثم فجأة نفَخ في غليونه وقال لي: “هل ترى رفيقنا وليد غالباً”؟
مضى وقت قبل أن أنتبه إلى أن صاحب الكِي دورسيه لا يسأل في لبنان المُشتعل إلا عن رفيقه الاشتراكي. وبالاسم الأول. عندما تشير الأناجيل إلى “الأمم” في رواية تنقّلات يسوع، تقصد الناس. سكان القرى والدساكر التي حولك. تغيّر معنى الكلمة وصار يعني الدول الكبرى ومجالس القرار. وهذه تتغيّر وتتقلّب: مثلها مثل أهل الدساكر والكوْرات.
عندما وضع مايلز كوبلاند “لعبة الأمم” عن ذكرياته في السي. آي. إي كان يقصد أن السياسة غنائم وفُرص وواقعيات. وأن الصداقة لا تدوم إلا إذا عرفتَ كيف تُديمها. لذلك، وقف فؤاد السنيورة، الذي أمضى الجزء الأكبر من حياته في حركة القوميين العرب، وقف يقول إنه أقرب إلى “الأشرفية”، التي كانت تُسمى يومها الانعزاليين و”التانتات” وتُغْني مسرح الساعة العاشرة بهزْليات إيفيت سرسق وعبدالله نبوت.
لم ينتبه الرئيس السنيورة في عودة المسلمين الحماسية إلى ديار العزلة إلى الجانب الآخر من متغيّرات الأمم. وهو أن اسم لبنان قد غاب من أدبيات التيارات المسيحية الكبرى التي أصبحت تؤمن بالديموقراطية الشعبية المباشرة، أسوة بالديموقراطيات المشرقية الأخرى. لكن المشرقية هلَّت علينا فيما المشرق نفسه يميل إلى الغروب. المشرق كان يعني حواضر المتوسط وما احتضنت من ثقافات ولغات وأديان وحريات وهويات. كان لبنان فسحة على البحر لا زنقة في عرسال. وكان مطلاً على الأمم والحضارات ومنصّة القوميات. وقد خرجت القومية العربية والقومية السورية من الجامعة الأميركية صاحبة أجمل حَرَم على المتوسط. فأين نحن الآن؟ نحن نناشد “أمريكا” والناتو (كان اسمه حلف شمال الأطلسي على أيامنا) مساعدتنا على “داعش” في العراق حيث كانت أميركا، إلى غفلة قصيرة مضَت، احتلالاً. إلى العراق حيث يُفاخر وريث البعث ومناضله الأخير عزت الدوري بالتحالف مع “داعش”، في مواجهة متزمّت آخر يُدعى نوري المالكي، الذي سمَّى حكمه “دولة القانون”. ذلك اللقيط الذي لا يريده أحد في العالم العربي، عدو آلهة الأرض.
يقول كاتبنا من واشنطن الأستاذ هشام ملحم: “على مدى عقود أقدمت هذه الأنظمة التي ادّعت أنها “علمانية” على خنق المجتمعات المدنية من خلال احتكار مؤسساتها وتفريغها من مضمونها الثقافي والإنساني. وتشكيل الأحزاب المهيمنة وترهيب الديموقراطيين من علمانيين وتقدّميين وقوميين متنورين…”. ماذا يمكن أن يُولد في مثل هذا المناخ؟ يحلّل عالمنا العبقري ابن خلدون سلوك “السودان”، ويعني به يومها أفريقيا، فيقول إن الحر يدفع بالأفارقة إلى الرقص وإلى الكسل أيضاً. الدنيا مناخ. يغيب مشرق الحضارات فيملأ الفراغ مشرق “داعش”، كما يقول هشام ملحم، الذي غيّر الاسم الفرنجي الذي وُلد به “ريشار” إلى اسم يتماشى مع أحلام شبابه، التي كانت ترفض، في ما ترفض، لبنان الكبير والإمبريالية والانعزالية والأشرفية.
كتب الزميل حازم الأمين في رثاء ميشال ساسين إن هذا الرجل الذي بقي “شيخ الشباب” حتى السابعة والثمانين، ترك اسمه على ساحة حيوية لا تموت. نحن “أبناء الحي” في زمن ميشال ساسين، فقدنا فيه أُنس المرحلة. الظلم في بعض الفقْد أنه لا يمكن أن يكون شخصياً أو خاصاً. عندما غاب قبله مانويل يونس، شعرت أنني فقدْتُ قاموساً في تاريخ لبنان وفي أصول السياسة وفي آداب الخطاب. جيل مرصّع بالفكر والرقيّ. كان مانويل يونس من الذين يعتقدون أننا شعب صغير استحق لبنان الكبير، فلا يجب أن ننكره. وكان يؤمن أن لبنان مزهرية تتغيّر ورودها أحياناً لكنها تبقى المنحوتة التي هي أجمل مما فيها.
كنت كلما شعرت بحاجة إلى تفاؤل يخفّف كآبتي بلبنان، أذهب إليه، جالساً في زاويته إلى علمه وفكره وعمق خُلقه الديموقراطي الفسيح الرفيع. وحيدة تمضي القامات في لبنان ومعزولين يمضي أعلام الموارنة: بشارة الخوري. فؤاد شهاب. ريمون إده. وهذا المثقّف النبيل الذي لم يدرِ أنه معلم أيضاً.

*نقلاً عن “النهار” اللبنانية
http://newspaper.annahar.com/article/169502-%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AC

About سمير عطا الله

كاتب صحفي لبناني الشرق الاوسط
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.