هيفاء زنكنة
يُعَوِلُ ساسة الحكومة العراقية، على إشغال عموم الناس بيوميات التناحر، والاتهامات المتبادلة بينهم، من جهة، وانشغال الناس بأساسيات الحياة اليومية من سكن وعمل وصحة وتعليم، من جهة أخرى، لنسيان الفساد المالي والإداري الذي ينخر البلد، ويجعله يحتل مرتبة متميزة، بين الدول العشر، الأكثر فسادا بالعالم. بهذه الطريقة، يستطيع السياسي، الملتحف بدين أو طائفة أو قومية، أن يكذب، ويلفق، وينهب بينما يقف على منصة، آجرها من الضحايا، ليتشدق بالشفافية، والنزاهة، وشيء من ” الوطنية” وتخوين ” الآخر”.
تجلت هذه المعادلة بأقصى ابتذالها، في الآونة الأخيرة، مع تصاعد اتهامات الحكومة المركزية لإقليم كردستان بالفساد، في ذات الوقت، الذي أكد فيه رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي، في كلمة على هامش مؤتمر باريس للمناخ، أن “أهم اسباب دخول الارهاب الى العراق هو الفساد”.
أدى الاتهام الأول إلى امتناع الحكومة المركزية عن صرف رواتب الموظفين في الإقليم، بحجة وجود موظفين “فضائيين”، وهو مصطلح شاع استخدامه مع تنامي الفساد الحكومي بالمركز، للدلالة على إضافة أسماء وهمية الى قوائم الموظفين. وكان حيدر العبادي، نفسه، قد أشار الى أعداد “الفضائيين” الخيالية في الحكومة المركزية بالإضافة الى الجنود ورجال الامن والشرطة ومليشيا الحشد الشعبي. اذ ان نسبة موظفي الدولة إلى مجموع السكان هي الأعلى في العالم.
اكتفى العبادي، كعادته، بالتذمر مما يدور في مؤسسات الحكومة، بدون اتخاذ أي اجراء فعلي، متصرفا كأنه خارجها. فلا عجب ان يُصبح فيروس الفساد جزءا من تركيبة حكومة الإقليم حسب مقولة “إذا كان ربُ البيتِ بالدَفِ ناقرا، فشيمةُ أهل البيتِ كُلهم الرقصُ”. ولا عجب ان يطالب الإقليم بالحصول على نسبة أعلى من حصته المالية التي يستحقها من الميزانية العامة. أو هكذا يصرح ساسة المركز.
أدى الامتناع عن دفع الرواتب الى مظاهرات طالب فيها المواطنون، وأغلبهم من المعلمين، برواتبهم، فجوبهت المظاهرات بالعنف مما أدى الى سقوط شهداء واصابة آخرين. وهي جريمة جديدة تضاف الى سلسلة الجرائم الناتجة عن استهانة ساسة المركز والاقليم، معا، بحياة المواطنين واحتقارهم لأبناء الشعب. لنتذكر ان الطرفين كانا، حتى وقت قريب، يحتلان ذات السرير في غرفة تدعى “العملية السياسية”، الى ان أعلن مسعود البرزاني، رئيس الإقليم، رغبته بالطلاق. فأنتبه ساسة بغداد، فجأة، الى حقيقة ان حكومة الإقليم فاسدة، متعامين عن حقيقة ان فساد الإقليم واستشراء المحسوبين على الأحزاب أو المنسوبين للعوائل المالكة، وقوائم الموظفين والامنيين الموهومين هو في الواقع، انعكاس طبيعي، كما في المرآة، لفسادهم ببغداد وبقية محافظات العراق.
تقودنا “صحوة” المركز بصدد فساد الإقليم الى تصريح حيدر العبادي “ان أهم أسباب الارهاب في العراق هو الفساد”، الذي قدمه إلى العراقيين والعالم، كأنه اكتشاف خطير، موظفا إياه لتبرئة نفسه من المسؤولية عبر اتهامه آخرين لا يعرفهم، أو انه يعرفهم لكنه يتظاهر بانه لا يعرفهم. في كلا الحالتين، يتحمل العبادي المسؤولية باعتباره رئيسا للوزراء، وعلى من سبقه كذلك، لتعاونهم جميعا في جعل العراق حاضنة للإرهاب.
ان ضحالة ادعاءات ساسة ” العملية السياسية”، وعلى رأسهم رئيس الوزراء، بكشف قضايا الفساد، وتعاملهم معها، بعد مرور 15 عاما، تقريبا، على استلامهم السلطة، وكأنها وليدة اللحظة، وليس الأساس الذي بنيت عليه حكومات ما بعد الاحتلال، يثير الاشمئزاز.
ففي عام 2004، تم تأسيس مكتب تفتيش إعادة الاعمار، الذي كشف رئيسه ستيوارت بوين، بعد عام واحد، ان حجم الفساد، الناتج عن الاحتيال والتلاعب وسوء الإدارة، يزيد على أربعة مليارات دولار، وأن بعض هذه الاموال يستخدم في تمويل نشاط الجماعات المسلحة، بالإضافة الى فقدان 14 ألف قطعة سلاح كانت مخصصة لاستعمال الجيش العراقي. كما صرحت مفوضية النزاهة بانها تحقق في اختفاء أكثر من سبعة مليارات دولار من اموال الدولة. هذا هو حجم الفساد، الذي يعرفه العالم كله، للسنة الأولى بعد الغزو وقبل زيادات تصدير النفط، فما هي الحصيلة بعد 14 عاما؟
ففي هذه السنوات استمرت الحكومة بموظفيها ومشاريعها الوهمية بالتضخم بالتوازي مع ميزانيات “الدوائر الاقتصادية” في الأحزاب الغالبة التي تغطي على أي لصوصية توفر لها حصتها. وتتناقض الأدلة حول حجم الأموال المنهوبة خلال ثماني سنوات من حكم رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي كما قبلها وبعدها. ففي آب 2015، صرح وزير النفط عادل عبد المهدي أن موازنات العراق منذ العام 2003 بلغت 850 مليار دولار، مؤكداً أن الفساد أفقد البلاد 450 مليار دولار وان ناتج الموظفين هو 20 دقيقة عمل في اليوم. فكيف يقاس حجم الخراب العمراني، والبشري، والمجتمعي الناتج عن فساد بهذا الحجم الهائل؟ وهل بإمكان أي مسؤول عراقي او أجنبي ألا يراه؟
سؤال آخر يصفع وجوه لصوص “العملية السياسية”: إذا كان أهم أسباب الإرهاب هو الفساد، كما تقولون، ومحاربة الإرهاب هي غايتكم، فلم لم تقوموا بمعالجة الفساد لوضع حد للإرهاب، بدلا من قصف المدن، وتهديمها الواحدة بعد الأخرى، وتشريد المواطنين من بيوتهم، ودفن الاحياء منهم تحت الأنقاض، وتعريض جيل كامل من الأطفال للصدمة والترويع والحرمان من التعليم؟ أم إن تخريب المدن وجه آخر للنهب بحجة إعادة الاعمار؟ خاصة وان ما كرسته الحكومة للإعمار هو 350 مليون دولار فقط، لكونها تُعَول على مؤتمر المانحين المرتقب عقده في الكويت، في العام المقبل، لتوفير ما بين 20 إلى 30 مليار دولار أخرى. ولكن، هل ستفي الدول المانحة بوعودها؟
في جواب لسؤال طرحه لورد جريفيز، يوم 19 من الشهر الحالي، في مجلس اللوردات، عن مساهمة الحكومة البريطانية بتكلفة إعادة إعمار المدن، بالعراق، أجاب لورد بيتس، وزير الدولة لشؤون المساعدات الدولية، قائلا: ” إن إعمار المناطق هو مسؤولية الحكومة العراقية”. واستطرد مؤكدا الموقف البريطاني “يعقد المسؤولون في المملكة المتحدة اجتماعات منتظمة مع الحكومة العراقية، لمناقشة احتياجات إعادة الإعمار، ويشجعون الحكومة على استخدام مؤتمر إعادة الإعمار الذي تستضيفه الكويت لجذب استثمارات القطاع الخاص.” مما يشير الى ان الدول المانحة التي لم يكن باستطاعتها نفي مسؤوليتها عن إعادة الاعمار وإدارة البلد، سابقا، باتت تتملص، الآن، بكل صفاقة، عن المسؤولية، تاركة الأمر بيد لصوص ساهموا ببذرهم، في أرض العراق، لتسهيل السيطرة عليه. لصوص يفتخرون باختيار الفساد وطنا وامة.