إلى متى نبقى نحن العرب فئران تجارب؟

faisalالقدس العربي اللندنية

تتخبط المجتمعات العربية في بحر من المتغيرات والزلازل السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية المخيفة، بحيث لا تستطيع أن ترسو على بر. لماذا؟ لأنها أولاً محكومة بأنظمة سياسية تابعة وغير مستقلة ولا مستقرة، وتنفذ سياسات وضعها الغير لها، وثانياً لأنها ليست أكثر من مختبرات تجارب، إن لم نقل فئران تجارب. فهي مطلوب منها أن تغير نمط حياتها وثقافتها وتوجهاتها وحتى معتقداتها بين عقد وآخر كي تتماشى مع المتحكمين بها خارجياً.

قبل أكثر من نصف قرن من الزمان – وهي فترة قصيرة جداً في عمر الشعوب – سنّت بعض القوى الكبرى المتحكمة بمنطقتنا جغرافياً وديموغرافياً وثقافياً وإعلامياً ما يشبه الفرمانات والمراسيم الملزمة لبعض دولنا كي تتبع نظاماً إسلامياً متزمتاً ومناهج تعليمية متحجرة، لأنها وجدت في مثل هذا النظام الوسيلة الأنجع للوقوف في وجه بعض النظم السياسية العربية الناشئة التي قد تهدد مصالحها في المنطقة كالنظم القومية والاشتراكية التي كانت تابعة بدورها للمعسكر السوفياتي.

بعبارة أخرى، فإن المجتمعات العربية ذات التوجه الإسلامي أو الاشتراكي أو القومي كانت بمجملها ضرورات أملتها العوامل الخارجية أكثر منها المتطلبات الداخلية. فهذا النظام أقام دولة ‘إسلامية’ كي يرضي أسياده الأمريكيين والأوروبيين، ويحارب إلى جانبهم، وذاك أنشأ نظاماً اشتراكياً نزولاً عند رغبة أسياده السوفيات، بما ينطوي عليه ذلك من فرض وقهر وتوجهات قسرية مخالفة لطبيعة المجتمع وميوله الإنسانية.

وبعد أن تغيرت التحالفات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة وظهور أمريكا كقطب أوحد، كان لا بد للمجتمعات العربية أن تتغير مائة وثمانين درجة كي تواكب سادتها الأمريكيين الجدد الذين لم تعد تناسبهم النظم الاجتماعية التي أمروا بقيامها، ودعموها في النصف الثاني من القرن العشرين.

لهذا السبب تحديداً نرى أن المجتمعات العربية تتخبط منذ سنوات في بحر من الفوضى والاضطرابات والهزات الاجتماعية والسياسية الرهيبة.

لقد دأبت بعض الأنظمة العربية منذ أكثر من خمسين عاماً على بناء ما تزعم أنه مجتمعات إسلامية الطابع، وجندت لها ميزانيات هائلة كي تكرسها، وتقويها، وتثبت أسسها من خلال وسائل إعلام ونظم تعليمية «متأسلمة». وقد كان الهدف من كل ذلك، في واقع الأمر، ليس إقامة مجتمعات إسلامية، بل من أجل صد التغول الشيوعي في المنطقة العربية الذي كان ينافس الهيمنة الأمريكية.

وقد تطور هذا المجتمع الإسلامي المزعوم في ذروة الصراع السوفييتي الأمريكي في أفغانستان كي يزود من يسمون بالمجاهدين الأفغان بمزيد من المقاتلين العرب العقائديين من أجل طرد «الغازي السوفييتي».

وقد تبين فيما بعد أن الاستخبارات الأمريكية ومعها بعض الأجهزة العربية كانت وراء هذه اللعبة القذرة التي راح ضحيتها الألوف من المضحوك عليهم من السذج العرب الذين تحولوا فجأة من «مجاهدين» إلى إرهابيين في عُرف من صنعوهم.

وقد كان الهدف الأول والرئيسي من تلك الحملة ‘الإيمانية’ الملعوبة جيداً طرد المحتل السوفياتي من أفغانستان كي يحل محله الأمريكيون فيما بعد بطريقة منظمة وملعوبة كالشطرنج في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.
لم يعد الإسلام الجهادي مطلوباً بعد أن تخلصت أمريكا من عدوها التقليدي (الشيوعية)، وبالتالي لا بد من تفكيك المجتمعات التي عاشت على الأصولية الإسلامية لعقود. ومطلوب الآن تفصيل إسلام جديد يناسب المجتمعات التي يريدها الغرب.

لا عجب إذن أن قامت بعض المعاهد الغربية بوضع خطط لتكوين إسلام ناعم يتواءم مع المخططات الأمريكية الجديدة في العالم العربي. وكان لا بد للإسلام الجديد أن ينقلب مائة وثمانين درجة على الإسلام الذي كان مطلوباً أيام الحرب الباردة. إنه ‘الإسلام الليبرالي’ الذي يقبل بكل الأطروحات والمفاهيم والقيم الغربية، ويساعد على نشرها وترسيخها في المنطقة.

لا عجب أن رأينا بعض ‘الإسلاميين العرب الجدد’ يقودون الحملة الجديدة لتطهير العالمين العربي والإسلامي من الفيروس الأصولي القديم، ويبشرون بـ’التسامح والمحبة والديموقراطية’.

من هو المخول والقادر إذن على القيام بهذه المهمة التفكيكية للمجتمعات العربية المطلوب إعادة تركيبها؟ إنه الإعلام، وليس أي إعلام، بل الإعلام الترفيهي التجهيلي الهابط المعتمد على إثارة الغرائز ومسح العقول وتغييب الوعي، خاصة وأن المهمة أمامه شاقة للغاية، وتحديداً في البلدان التي حملت مشعل الإسلام الأصولي. فليس من السهل تحويل اتجاه المتزمتين دينياً بالاتجاه المطلوب إلا بفضائيات رخيصة تنتشر كالفطر البري في السموات العربية، وتغزو عقولهم وقلوبهم بما لذ وطاب من أغان ومسلسلات محلية وأجنبية مدبلجة وأفلام وغانيات كاسيات عاريات وراقصات ومطربات ماجنات واحتكارات فنية شيطانية. في الماضي أرادونا أن نكون متدينين متزمتين. وفي لحظة ما يريدوننا أن نكون راقصات وراقصين وطبالين وزمارين، على أن نكون مستعدين مرة أخرى لنصبح «جهاديين» إذا اقتضت الحاجة.

إلى متى نبقى مجتمعات للتركيب والتفكيك عند الحاجة نزولاً عند رغبة هذه القوة الخارجية أو تلك؟ أما آن الأوان لأن تكون لدينا ثقافتنا الخاصة بنا المنبثقة من طبيعتنا وواقعنا وتاريخنا وتراثنا وأحلأمنا وآمالنا؟ بالطبع. لكن ذلك لن يتحقق إلا عندما تكون لدينا حكومات وأنظمة مختارة داخلياً وليس مفروضة من الخارج. وعيش يا كديش ليطلع الحشيش!

About فيصل القاسم

صحفي معد ومقدم برامج سوري ال بي بي سي قناة الجزيرة الاتجاه المعاكس
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.