فريد هيات
قد تقود الهزيمة إلى إعادة التفكير البناء، وقد تقود إلى الانكفاء. فأي طريق سيسلكه الرئيس باراك أوباما بعد النكسات الخارجية؟ ولا أقصد بالهزيمة، كما قد يرى بعض النقاد، أن الرئيس الأميركي «فقد شبه جزيرة القرم». فمن يقع عليه اللوم هناك هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وليس أوباما، تماما كما يقع اللوم في سوريا على بشار الأسد.
لم يكن هناك من خيار عسكري عملي يثبط بوتين من غزو أوكرانيا، كما ليس هناك من خيار عسكري لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه. وما يجري الآن من إعادة ترتيب العلاقات الأميركية الروسية أمر يستحق التجربة. لا أحد يعلم ما إذا كان سيصبح للرئيس السابق ديمتري ميدفيديف بديل عملي «للبوتينية». وأوباما على حق في اختبار النظرية.
لكن وعلى الرغم من أن ضم شبه جزيرة القرم ليس غلطة أوباما، فهو يصور بوضوح أن العالم الذي يواجهه أوباما اليوم، ليس هو العالم الذي توقع أن يقوده. تقلد أوباما منصبه وهو يعتقد أن أثر الأصول العسكرية التي كانت مقياس القرن الـ19 للقوة، آخذ في التضاؤل في القرن الحادي والعشرين. واعتقد أن بإمكان الدبلوماسية حل المشكلات التي تجاهلها أو خلقها أو فاقمها جورج بوش الابن، وأن القضاء على الأسلحة النووية قد يكون هدف الولايات المتحدة الأكثر أهمية. كما أن إعادة البناء الاقتصادي الداخلي يجب أن يكون له الأولوية، وهو ضرورة مسبقة للقيادة في الخارج. وعكست سياسات أوباما هذه المفاهيم: الخروج الكامل من العراق، وانسحاب من أفغانستان، بغض النظر عن الظروف على الأرض، وكذلك مغادرة متسرعة لليبيا بعد المساعدة في خلع ديكتاتورها، وعدم تقديم مساعدة ذات معنى للمعارضة في سوريا.
وعندما بعثت الانتفاضات الديمقراطية من تونس إلى مصر وما وراءها الأمل، حث بعض قدماء مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية مثل ستيفن هادلي أوباما على اغتنام الفرصة غير المتوقعة والمساعدة في دعم التغير التاريخي. لكن أوباما ظل بمعزل وضاعت اللحظة.
وقدر أوباما أن العالم بدرجة من الأمان تكفي لإنقاص الإنفاق العسكري، وأن أوروبا والشرق الأوسط آمنان بما يكفي لتبرير تحول «المحور» إلى آسيا. وكان الحديث هو ما هي المهمة التي قد يستطيع الـ«ناتو» القيام بها فور انسحابه من أفغانستان.
أراد أوباما فوق كل شيء التركيز على ما أطلق عليه «بناء الأمة في الوطن» وخاطب الأمم المتحدة الخريف الماضي قائلا، إن دعم الديمقراطية والتجارة الحرة في الشرق الأوسط، لم يعد «مصلحة جوهرية» لسياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية. ووجد التراجع عن الطموحات صدى لدى الرأي العام الأميركي، إلا أن النتائج لم تكن كما كان يرجى. وبتقوقع الولايات المتحدة أصبح العالم أكثر خطورة.
أما الصين فواصلت بناء قدراتها العسكرية بالصورة التقليدية، قد يطلق وزير الخارجية الأميركي جون كيري على ذلك طريقة القرن الـ19، مع الإصرار على حقها في بعض الأراضي في شرق وجنوب شرق آسيا. وتصاعدت التوترات بين اليابان وكوريا والصين، حيث تتساءل كل تلك الدول عن بقاء قوة الولايات المتحدة. (كانت النكتة أن الجميع في كل العالم اعتقد أن المحور نحو آسيا كان حقيقيا، باستثناء الحلفاء الآسيويين الذين لم يروا الكثير مما يدل عليه).
واستمرت كوريا الشمالية في بناء قدراتها النووية، من دون أن يتحقق أحد من ذلك. وفي مصر فالحكومة ليست على ود مع الولايات المتحدة. وفي خلال عام 2013 تراجعت الحريات في 54 بلدا، مقارنة بتقدم الحريات في 40 بلدا، وهو التدهور المطرد للعام الثامن على التوالي بحسب مؤسسة «فريدم هاوس» لأبحاث الديمقراطية والسياسة والحريات. أما في سوريا، فقد كان أوباما واثقا قبل عامين بأن «أيام الأسد معدودة»، كما قال في مقابلة لجيفري غولدبيرغ في تلفزيون أتلانتك. وظل أوباما يعد بصورة دورية، ولكنه لم يوفر أبدا الأسلحة النوعية والتدريب لقوات المعارضة السورية المعتدلة.
في غضون ذلك ازداد موقف الأسد قوة، حتى وهو يتسبب في ما وصفه مسؤولو الأمم المتحدة بـ«أكبر كارثة إنسانية منذ فظائع رواندا». وأسست قوات القاعدة ملاذات تستطيع منها تهديد الولايات المتحدة وأوروبا، وهي تنتشر داخل لبنان والعراق. وأخيرا نفذ بوتين أكثر الانتهاكات افتضاحا لسيادة الدول، منذ غزو صدام حسين للكويت عام 1990.
كان رد أوباما بالعقوبات على الدائرة المقربة من بوتين معقولا، وكذلك بوعوده دعم أوكرانيا. قد يثار التساؤل عما إن كان أوباما قد حسب الأمور بالصورة الصحيحة، وتفاعل مع الأحداث بشكل مناسب، وقاد شركاء الولايات المتحدة في أوروبا.
لكن هذه خطوات مبكرة، وهي خطوات تكتيكية أيضا. فهل ستعيد الإدارة الأميركية مراجعة استراتيجيتها الأوسع أيضا، وهي تعيد صياغة سياستها نحو أوروبا المتغيرة؟ وهل سيراجع أوباما ثقته في إمكانية انسحاب الولايات المتحدة من العالم بسلامة؟
ستكون إجابة البيت الأبيض الفطرية هي التوجه إلى مخبأ سياسي: إنكار أنها أظهرت ميولا انعزالية على الإطلاق، وهي تصف النقاد بأنهم مثيرو حرب. هذه العدائية المنعكسة مفهومة، باعتبار أن أعداء أوباما سيسرهم استغلال النكسات الخارجية لإحراز نقاط.
ولكن المسألة أكبر من ترك النقاش عند تلك الخنادق. فمهما بدا الأمر مغريا، فليس على الولايات المتحدة الاختيار ما بين بناء الأمة في الداخل والقيادة في الخارج، بل عليها القيام بالاثنين معا. وحيث إنه لا تزال هناك ثلاث سنوات في فترة رئاسة أوباما فلم يفت الوقت على أوباما لتغيير المسار.
* خدمة «واشنطن بوست»
نقلا عن الشرق الاوسط