تنشر «الشرق الأوسط»، اليوم، ترجمة خاصة مختصرة لدراسة كتبها موريل اسبورغ وخالد يعقوب عويس، الباحثان في «المركز الألماني للدراسات الدولية والأمنية».
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 الجاري، ومع هدوء الحرب السورية، وهزيمة «داعش»، زادت موسكو من جهودها للتوصل إلى ما تعتبره حلاً للنزاع السوري في العديد من المحافل، بعيداً عن عملية جنيف التي تشرف عليها الأمم المتحدة.
وعلاوة على ذلك، وبعدما أعلنت الإدارة الأميركية بكل وضوح عن عدم مشاركتها في جهود إعادة الإعمار الخاصة بسوريا، قصدت روسيا الاتحاد الأوروبي بغية الحصول على المساعدات المالية والمعاونة في تغطية تكاليف إعادة إعمار البلاد، جنباً إلى جنب مع دول الخليج العربي.
ورغم أن الاتحاد الأوروبي استبعد في أبريل (نيسان) الماضي، المشاركة في جهود إعادة الإعمار من دون انتقال سياسي للسلطة، تتصاعد الدعوات في الوقت الراهن داخل أوروبا مطالبةً باستيعاب وجود بشار الأسد على رأس السلطة، والمساعدة في إعادة إعمار سوريا، وإعادة اللاجئين إلى بلادهم. ومع ذلك، فإن أعمال القتال لم تتوقف نهائياً بعد. والأهم من ذلك، فإن البناء المجرد لهياكل البنية التحتية في البلاد لن يسفر عن الاستقرار المنشود، لكن من شأنه أن يزيد من احتمالات اندلاع النزاعات الداخلية الأخرى. وينبغي على الجانب الأوروبي أن يوضحوا لروسيا تمسكهم الحازم بموقفهم السابق. وينبغي عليهم كذلك اللعب بسياسة النفَس الطويل، بهدف تأمين النفوذ المطلوب لكي تكون المساهمات المستقبلية في خدمة أغراض بناء الدولة والسلام معاً. وفي الأثناء ذاتها، ينبغي التركيز على رفع مستويات المساعدات الإنسانية، وتدابير التعافي المبكر، مثل إزالة الألغام، واستعادة البنية التحتية الخاصة بالمياه والرعاية الصحية، وبناء رأس المال البشري في سوريا وبين مجتمعات اللاجئين السوريين، بالإضافة إلى تركيز الجهود على المجتمع المدني ودعم الحكم المحلي في المواضع التي تحظى بالشركاء الموثوق بهم.
بحلول أواخر علم 2017 الحالي، تمكن النظام من استعادة السيطرة على أغلب المراكز الحضرية في البلاد، وخسر «داعش» المزعوم، كلَّ شيء باستثناء بعض القواعد الإقليمية المحدودة. ولقد تعرضت قوات المعارضة لضغوط هائلة دفعت بهم إلى جيوب عديدة للمقاومة ولكنهم لا يزالون يسيطرون على بعض المنعطفات الاستراتيجية وبعض المعابر الحدودية الرئيسية. وفي الوقت نفسه، ومنذ بداية تدخلها العسكري في الحرب السورية، تحولت روسيا إلى قوة عسكرية مهيمنة. وكانت موسكو حريصة على تحويل هذا الإنجاز إلى تولي زمام القيادة على الصعيد الدبلوماسي والاضطلاع بدور الوسيط في تسوية الصراع الدائر.
أما واشنطن، التي تقلص نطاق مصالحها في الأزمة السورية منذ عام 2014 وبشكل كبير إلى محاربة تنظيم داعش، فلم تكن مستعدة لتتحدى النهج الروسي هناك. كما أنها لم تعرب عن رغبتها الحقيقية في المساهمة الجادة في جهود إعادة إعمار سوريا بعد القصف الشديد على شرق البلاد. والقصف الروسي، ولا سيما على حلب في عام 2016، أسفر عن دمار واسع النطاق، مما أدى إلى صدور إدانة شديدة اللهجة من قبل الاتحاد الأوروبي بسبب الاستهداف المتعمد للمستشفيات، والأفراد العاملين في الإغاثة الطبية، والمدارس، والبنية التحتية الرئيسية هناك. ومع ذلك، توجهت موسكو إلى أوروبا طلباً للمساعدة في جهود إعادة الإعمار مع تأنيب الجانب الأوروبي على ربطه دعم إعادة الإعمار بالانتقال السياسي للسلطة، مع تنبؤات بقرب نهاية الصراع الدائر هناك. ولقد سُلطت الأضواء على «خفض التصعيد» من واقع أنه إيجاد للظروف الواقعية الممهدة لإعادة الإعمار واسع النطاق في الداخل السوري. وحقيقة اليوم، رغم كل شيء، تبدو مختلفة تماماً، مع السيطرة المجزأة بشكل كبير بين مختلف القوى على الأرض في مناطق خفض التصعيد المعلن عنها، وفي المناطق المحررة من تنظيم داعش، والمناطق الخاضعة لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، إلى جانب تلك المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية السورية وحلفائها -مع القتال الذي ينبئ عن كل شيء إلا الاقتراب من خط النهاية.
مناطق خفض التصعيد
استخدمت موسكو، أول الأمر، دعمها العسكري لسوريا بالأساس في مساعدة النظام الحاكم وحلفائه في استعادة الأراضي. وعلى مدى عام 2017، استهدفت موسكو خفض مستويات العنف من خلال نهج جديد يعتمد على تمهيد الأوضاع على الأرض للتهدئة ووقف الأعمال العدائية.
وفي حقيقة الأمر، تطورت تلك المناطق إلى ما يشبه مجموعة من الأوضاع المحلية: من تحسن الظروف المعيشية، إلى الحصار المستمر، والمجازر الجماعية الناجمة عن القصف العشوائي من جانب النظام السوري والقوات الروسية للأهداف المدنية على المناطق التي أعلنت موسكو أنها جزء من مناطق خفض التصعيد. أما بالنسبة إلى الرئيس الأسد، فإن هذه المناطق تدخل ضمن الترتيبات المؤقتة، إنْ كانت كذلك على الإطلاق، وكانت تتبع مسار المناطق الأخرى المحاصَرة، التي سيطرت عليها قوات النظام بعدما «سنحت الفرصة للإرهابيين» (وهو المصطلح الذي يصف به النظام السوري كل أطياف المعارضة في البلاد) لإلقاء السلاح و«العودة إلى أحضان النظام».
متطلبات التعافي المحدود
وفي الأثناء ذاتها، تراجعت عمليات قصف وحصار مناطق في قطاعات أخرى من البلاد، ومن أبرزها المناطق الريفية بالقرب من مدينة حمص وفي محافظة درعا الجنوبية. وأدت نافذة الاستقرار المؤقت إلى قيام نشاط سريع في مجال البناء والتشييد الخاص. على سبيل المثال، عاد سكان المناطق الريفية في حمص إلى مسقط رأسهم من مخيمات كانت مقامة في الأراضي الزراعية المجاورة، وشرعوا في إصلاح أو إعادة بناء منازلهم. ويقال إن الطين كان يستخدم على نطاق واسع بدلاً من الخرسانة في البناء، حيث لا تزال أسعار مواد البناء المستوردة من مناطق النظام مرتفعة. وانخفضت أسعار البضائع والسلع الأساسية، مثل السكر والأرز، منذ بدء سريان اتفاق مناطق خفض التصعيد في أغسطس (آب) لعام 2017، الأمر الذي أسفر عن كسر احتكار التجار المحليين هذه السلع، والذين استفادوا كثيراً من أوضاع الحصار السابقة. وتم افتتاح معبرين مع النظام الحاكم، مما أدى إلى ارتفاع المستوى العام للإمدادات. وافتُتحت سوق للتصدير بوتيرة بطيئة أيضاً. وأرسلت مناطق المعارضة قطعان الخراف والماشية إلى مناطق النظام، وارتفعت أعداد المزارعين الذين يخططون لزراعة المحاصيل، حيث توقعوا مبيعات كبيرة بدرجة كافية لتحقيق الأرباح.
ومن شأن احتمالات تحسين الوصول أن تجدد نشاط المجالس المحلية كذلك، التي أنشأها النشطاء خلال الانتفاضة كي تحل محل إدارة النظام بعد انسحاب قوات الأسد من المناطق الخاضعة للمعارضة.
ترقب تنظيم «القاعدة»
بصرف النظر عن استمرار القصف من جانب قوات النظام، والتهديد الذي يشكله النظام الحاكم في محاولة استعادة المزيد من مناطق المعارضة، فإن أكبر العقبات على طريق إعادة الإعمار في مناطق خفض التصعيد تأتي من الداخل. في أغسطس 2017، كانت «هيئة تحرير الشام» –وهي فرع عن تنظيم «القاعدة» وخليفة «جبهة النصرة»– قد انتهت تقريباً من القضاء على منافستها «أحرار الشام» وبسطت سيطرتها على أغلب أنحاء محافظة إدلب.
وتشمل منطقة نفوذ «هيئة تحرير الشام» المعبر الحدودي الرئيسي مع تركيا، الذي تتدفق من خلاله المساعدات الإنسانية وإمدادات البنية التحتية إلى المحافظة. واستناداً إلى مقولة لينين «السلام، والأرض، والخبز»، استولت «هيئة تحرير الشام» على المخابز في مختلف المدن داخل إدلب، والتي اعتمد الكثير منها على البرامج الغربية لإمدادات القمح. وحرصاً منها على تأكيد شرعيتها لدى السكان المحليين، واعتبارها ناجحة في أمور الحكم والسياسة، أشارت «هيئة تحرير الشام» إلى أنها لن تمنع وصول المساعدات الخارجية إلى إدلب.
وفي الوقت نفسه، كانت «هيئة تحرير الشام» ضالعة في العديد من الهياكل الإدارية المحلية في المحافظة، فضلاً عن المدارس، والجمعيات الخيرية، ومخيمات اللاجئين، من دون أن تدفع بأفراد موالين لها بصورة مباشرة أو تفرض عليهم دوريات المراقبة بصورة واضحة. كما تمكنت من تفكيك المجالس المحلية في المحافظة أو خلعت أعضاء تلك المجالس الذين كانوا ينتقدونها. وبالإضافة إلى ذلك، استعانت بالجهات الرقابية القائمة، مثل المجلس الإداري في إدلب، أو دفعت بالحلفاء المدنيين الموالين لها لإنشاء مجالس محلية جديدة. ومن بينها ما بات يُعرف باسم حكومة الإنقاذ السورية، والتي تشكلت في نوفمبر بغرض واضح وهو الإطاحة بحكومة المعارضة المؤقتة. واحتفظ العديد من الكوادر المؤهلة من مختلف الإدارات المحلية في إدلب بوظائفهم على الرغم من استيائهم الواضح حيال هيئة تحرير الشام. وفضلوا البقاء في مناصبهم وصلاتهم بالجهات المانحة، بغية استمرار وصول الإمدادات والمساعدات إلى المحافظة.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الدعم الغربي لسكان إدلب، قد تراجع بصورة كبيرة بعد استيلاء «هيئة تحرير الشام» على المحافظة، حيث يساور المانحون الأجانب القلق من الدعم غير المباشر الذي يوجهونه إلى الهيئة أو إلى المنظمات المتفرعة عنها. وكان النشطاء يأملون في أن يسفر دخول القوات التركية إلى إدلب في أكتوبر (تشرين الأول) 2017 عن تراجع في سلطات «هيئة تحرير الشام». وكان استعراض القوة التركي يخدم أغراض إقامة مناطق خفض التصعيد الشمالية، والتي تمت مناقشتها مع أنقرة في اتفاقية آستانة. ومع ذلك، كان التدخل العسكري التركي يستهدف «وحدات حماية الشعب» الكردية، المرتبطة بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وهو الفرع السوري عن حزب العمال الكردستاني التركي في منطقة عفرين القريبة، ولقد جاء هذا التدخل بهدف منع إقامة منطقة إدارة ذاتية كردية متاخمة للحدود التركية مع سوريا.
ومع ذلك، لا يزال خطر تجدد القتال في المنطقة مرتفعاً، مع تصاعد اللهجة الحازمة التي تستخدمها تركيا وإيران في خطابيهما حيال القضية. وقالت أنقرة، التي تفاخر بتفاهماتها الجديدة مع روسيا، إنها تحتاج إلى تطهير عفرين من «الوحدات». في حين أشارت إيران، بدورها، إلى أن النظام سوف يجتاح إدلب قريباً لمحاربة المتطرفين هناك. ويعيش في منطقة عفرين، ذات الأغلبية الكردية، نحو 300 ألف نسمة موزعين بين 20 مدينة وبلدة، في حين يبلغ تعداد محافظة إدلب نحو مليوني نسمة، ومن بينهم ثلثا قد نزحوا من مناطق أخرى في البلاد. ولقد انتهى بهم المقام في إدلب بعد فرارهم من القتال في أماكن أخرى من البلاد، نظراً إلى أن تركيا قد أغلقت حدودها في وجه اللاجئين. كذلك، الآلاف من مقاتلي المعارضة، وعائلاتهم، وغيرهم من المدنيين، جرى نقلهم إلى المحافظة في حافلات النظام الخضراء، التي صارت مرادفاً لعمليات نقل السكان التي صاحبت عناصر المعارضة المستسلمين في المناطق المحاصرة بموجب ما يُعرف باسم اتفاقيات المصالحة.
التوسع الكردي
ظهرت علامات على انتشار «حزب الاتحاد الديمقراطي»، ولا سيما بعد تشجيع الولايات المتحدة الاستيلاء على الأراضي التي يسكنها أغلب العرب في شرقي سوريا من تنظيم داعش بواسطة قوات سوريا الديمقراطية، والتي تغلب عليها «الوحدات». وأعلن حزب الاتحاد الديمقراطي عن هدفه ربط منطقتي الحكم الذاتي المتاخمتين (أو ما يسمى «كانتونات الجزيرة وكوباني») مع إقليم عفرين، مما يعتبر من الأهداف بعيدة الأثر والمنال. وفي أواخر عام 2017، بات من الواضح أن الولايات المتحدة (وروسيا) لن تدعما الطموحات السياسية الكردية ضد تركيا لما وراء محاربة «داعش»، ولن تقوم روسيا بمنع النظام من استعادة الأراضي المحررة من التنظيم.
ولقد أقام حزب الاتحاد الديمقراطي هياكل الحكم المحلي في هذه المناطق. وعلى الرغم من أن هياكل «الديمقراطية الشعبية» تعتبر شاملة ومستقلة من الناحية الاسمية فحسب، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي لا يزال القوة الغامضة وراء الكواليس. وأحد هذه الترتيبات شهدها مدينة منبج ذات الأغلبية العربية، والتي استولت عليها وحدات حماية الشعب الكردية من تنظيم داعش في أغسطس 2016، وعين حزب الاتحاد الديمقراطي فاروق الماشي، وهو من الشخصيات القبلية البارزة، رئيساً بالمشاركة لمجلس مدينة منبج. ولقد أسفر هذا التعيين عن استياء الكثير من الناشطين المعارضين على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين قارنوا أساليب حزب الاتحاد الديمقراطي في القمع والإكراه والسيطرة بالأساليب التي ينفذها النظام الحاكم. كما أشاروا إلى أن الماشي هو نجل دياب الماشي، وكان عضواًً في برلمان الموافقات التلقائية السوري منذ عام 1954 حتى وفاته عام 2009.
وقت السداد لحكومة النظام
رغم أن النظام لن يستطيع بسط سيطرته على كامل التراب السوري، فإنه يشعر بأن الأحداث تصبّ في صالحه. فهو يسعى إلى توظيف جهود إعادة الإعمار، بغية إرضاء الناخبين وتعويض الآلاف من الذين لقوا مصرعهم لأجل بشار الأسد. وفي افتتاح معرض دمشق التجاري الدولي في أغسطس 2017، صرح أحد مساعدي الأسد بأن سوريا «حققت منعطفاً مميزاً» وهي الآن على طريق إعادة البناء. وصوّر النظام الحاكم إعادة الإعمار على أنها «الصفقة المنتهية»، وأعلن أنه لن يتم منح أي تعاقدات للدول التي ساندت ما يعدهم النظام السوري إرهابيين.
وعلى الصعيد الداخلي، أشارت السلطات إلى أن جهود إعادة الإعمار سوف تُكافئ الموالين للنظام بالأساس، وهي ليست محاولة للتخفيف من المظالم التي غذّت الانتفاضة الأولى من خلال معالجة القضايا ذات الصلة بالشرعية المؤسساتية، والقدرة، والعدالة، والإدماج السياسي والاجتماعي. وفي مظاهرة رسمية أُجريت في نوفمبر 2017، تفاخر أحد كبار نواب حزب البعث بأن سوريا سوف تُبنى من جديد على «أيدي أبنائها الشرفاء». وأقيمت هذه المظاهرة في مدينة حمص، التي قام النظام الحاكم والميليشيات المدعومة من إيران بتشريد مئات الآلاف من سكانها السُّنَّة بالأساس، حيث تمكنوا من سحق المقاومة والمعارضة هناك. ومن أصل 8 مليارات ليرة سوريا (الدولار يساوي 500 ليرة) التي أعلنت الحكومة عنها في يوليو (تموز) 2017، والتي سوف تخصصها للمشاريع في محافظة حمص، فإن أغلب هذا المبلغ سوف يذهب إلى الطائفتين العلوية والمسيحية، في مقابل المناطق السُّنية التي دمرها قصف النظام.
وحتى الآن، منح النظام السوري، على الورق على أقل تقدير، المشاريع لأصدقائه المقربين، وأبرم الاتفاقيات المبدئية مع إيران وروسيا.
المخططات الدولية
مع اقتراب الحرب الأهلية في سوريا من فصل النهاية، وضعت وكالات الأمم المتحدة، والمنظمات الإنمائية، ومؤسسات التمويل الدولية مجموعة كبيرة من مخططات إعادة إعمار البلاد. ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، فإن إعادة الإعمار في سوريا سوف تتكلف نحو 250 مليون دولار.
والقاسم المشترك الذي يميز كل هذه الخطط، رغم كل شيء، هو تعاملها مع إعادة الإعمار في غالب الأمر من واقع أنها مسألة تقنية، في حين أن القليل من الاهتمام منصبٌّ على نوع نظام الحكم المفترض أن يسيطر على مقاليد الأمور. وبدلاً من ذلك، فإن السلطة المركزية المختصة التي توجه جهودها الآن نحو الصالح العام –مع القدرة والاستعداد على التفاعل في الاستعادة المنصفة لرأس المال البشري وتعزيز النسيج الاجتماعي– هي من الأمور المفترضة ليس إلا.
كذلك، لا توضح هذه الخطط بالتفصيل كيفية إقامة بيئة الأعمال التنافسية في البلاد –في ظل النظام الحاكم نفسه الذي حرم معظم المواطنين السوريين من تكافؤ الفرص لعقود طويلة. وفي ظل وجود المحاكم والبيروقراطية المدينة بالفضل للنخبة الفاسدة في البلاد، لم تكن الشركات الأجنبية لتتمكن بالكاد من العمل في سوريا أو الحصول على تعاقدات أو القيام بتنفيذ الصفقات الرئيسية من دون عقد الشراكة مع النخب الحاكمة أو من ينوبون عنهم. وأي شخص لا يدور في فلك النظام السوري ويقترب من الفوز في مناقصة من المناقصات، تتغير القواعد بصورة تعسفية صارمة ويتم سحب الأهلية منه. وتوجد منظمات الجريمة وعصابات الابتزاز المالي التي تديرها الأنساق العليا من الأجهزة الأمنية. وهناك فساد كبير ومستشرٍ في ربوع الجهاز القضائي والرقابي في البلاد. وتعمل الوزارات الحكومية والبنك المركزي أدوات خاصة لدى عائلة مخلوف، وهم أبناء أخوال الرئيس بشار الأسد من جانب والدته. وعائلة مخلوف، إلى جانب فرعين آخرين من عائلة الأسد، لديهم مناقصات عامة، ونظام المشتريات الخاص بهم والمقصور عليهم فقط.
والأهم من ذلك، أن أغلب هذه الخطط تفترض أن سوريا سوف تعمل كدولة وحدوية، ولن تنصاع للتجزئة التي أسفرت عنها الحرب الأهلية. ولكن تجوهلت ميوعة الديناميات المحلية، وبروز وسطاء آخرين للسلطة الجديدة، وأدوار الميليشيات الأجنبية في الواقع السوري. ومن بين القوى التي ظهرت بين طيات الحرب الأهلية السورية كانت سلالة جديدة من الرأسماليين الموالين للسلطة، الذين يعملون على تشكيل بيئة المال والأعمال ويستعدون لعرقلة كل جهود إعادة الإعمار التي لا تصب في صالحهم –جنباً إلى جنب مع شخصيات المال والأعمال الراسخة في العمق السوري والموالية تماماً للنظام الحاكم. ومن بين العناصر ذات الصلة الوثيقة باقتصاديات الحرب هناك، الجهاديون وغيرهم من الميليشيات الأخرى الساعية إلى الاستفادة القصوى من الأرباح. وفي المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، نمت وترعرعت عصابات الجريمة المنظمة والعصابات العنيفة ذات الصلة بمختلف الميليشيات الموالية لبشار الأسد. واستهدف الموالون، الموالين الآخرين في مسعاهم للسلب والنهب بأقصى قدر مستطاع عبر قطع الطرق وفرض الرسوم.
دوافع «الأطراف الثلاثة»
تَعد الخطط الدولية لإعادة الإعمار أن التعاون بين «البلدان الثلاثة» لما فيه خير وصالح سوريا من الأمور البدهية المسلَّم بها. وفي واقع الأمر، ورغم كل شيء، فإن الكثير من اللاعبين الإقليميين والدوليين يعتبرون خطط إعادة الإعمار وسيلة من وسائل تعزيز وجودهم في سوريا على المدى البعيد، وأداة من أدوات تأكيد مصالحهم (الحيوية) في صراعات السلطة الأوسع نطاقاً عبر منطقة الشرق الأوسط. كما أنهم يميلون إلى التركيز على تحقيق المصالح العاجلة، مثل الأرباح المالية السريعة، أو التخفف من أعباء اللاجئين السوريين المتدفقين على بلادهم.
ويُقال إن النظام السوري قد وعد إحدى الشركات الروسية، ذات الصلة بمقاولي الأمن في روسيا، بربع النفط والغاز الطبيعي في الحقول المستعادة من سيطرة «داعش». وشجعت إيران الاستثمارات الخاصة في المشاريع العقارية في سوريا، ووقّعت على مذكرات التفاهم بشأن إعادة الإعمار في مدينة حلب، فضلاً عن إعادة تشغيل شبكات الهواتف المحمولة، الأمر الذي سوف يجلب الكثير من الأرباح، ويمنحهم ميزة المراقبة. ويُذكر أن أنقرة، التي أوقف النظام أنشطتها في البلاد بصورة رسمية، قد أصلحت البنية التحتية الأساسية، والمدارس، وأحد المستشفيات في جيب «الباب» الخاضع للسيطرة التركية. وإلى جانب التوقف المهم للغارات الجوية، ساهمت عمليات إعادة التأهيل في عودة بعض السكان إلى الجيب الصغير. وصرحت الصين بأنها تعتزم المشاركة في جهود إعادة الإعمار السورية، غير أنها لم تُفصح عن مزيد من التفاصيل.
التوقعات والمعضلات
في ظل مختلف السيناريوهات قصيرة ومتوسطة الأجل، من غير المتوقع لأعمال العنف أن تتوقف، ومن المنتظر لأدوار الميليشيات واقتصاديات الحرب أن تترسخ وتستمر. ومع ذلك، يرزح صناع السياسات الأوروبية تحت ضغوط هائلة بغية التركيز على ما يمكن فعله بصورة عاجلة للمساعدة في تعزيز التسوية والاستقرار في المنطقة، ولا سيما إن أخذنا في الاعتبار الحاجة الملحة التي يشعرون بها في ضوء تصاعد الحركات الشعبوية القومية في الاتحاد الأوروبي، والضغوط المتعلقة بإعادة اللاجئين إلى بلادهم.
وسيسعد بشار الأسد كثيراً بالهدايا المجانية التي يتلقاها من الاتحاد الأوروبي. وبالنسبة إلى النظام فإن جهود إعادة الإعمار تخدم، أولاً وقبل كل شيء، ترسيخ قبضته على السلطة، فضلاً عن ضمان استدامة التحولات الاجتماعية والسكانية، وتعميق ولاء المواطنين للنظام. وتحذر الرؤية، التي تبناها نظام الأسد وكرر الإعراب عنها في اجتماعات المساعدات الدولية، من خسارة أوروبا دورها لصالح موسكو وطهران ما لم تساعد البلدان الأوروبية في إعادة إعمار سوريا.
وفي أبريل (نيسان) الماضي، استبعد الاتحاد الأوروبي المشاركة في إعادة إعمار سوريا «إلى أن يتم الانتقال السياسي الشامل والحقيقي في البلاد». ومع ذلك، ومن الناحية العملية، كان النهج الأوروبي يتسم بالاتساق، إذ موّلت البلدان الأوروبية برامجَ إعادة البناء التي تشرف عليها الأمم المتحدة والتي تعمل بالتعاون مع النظام السوري الحاكم. ولا تزال هذه البرامج قيد العمل، أو من المقرر أن تبدأ في المناطق التي استقرت فيها الأحوال بشأن النقل القسري للسكان، مثلما هو الحال في حمص. وليست هناك ضمانات بشأن حق العودة للسكان الأصليين، أو وقف تزوير السجلات العامة، أو توقف عمليات مصادرة النظام للممتلكات في مناطق المعارضة التي استولى عليها النظام. كذلك، لم يصرّ الاتحاد الأوروبي على ضرورة رحيل الأسد عن السلطة كشرط مسبق للمشاركة في جهود إعادة الإعمار. بدلاً من ذلك، كان ممثلو الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي قد أقروا وبشكل متزايد أن بشار الأسد قد يلعب دوراً في الفترة الانتقالية، وربما لما بعدها أيضاً. وانقسمت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بين أولئك الذين اتخذوا موقفاً صارماً إزاء أي محاولة للتعاون مع ما يعتبرونه نظاماً عصياً على الإصلاح، وبين هؤلاء الذين يرغبون في استرضاء بشار الأسد على أمل تحقيق الاستقرار السريع، أو فتح سوق إعادة الإعمار المربحة أمام شركاتهم ووكالات التنمية لديهم. ونتيجة لما تقدم، نأى الاتحاد الأوروبي بنفسه بعيداً عن توضيح ما إذا كان الانتقال الحقيقي للسلطة ممكناً إذا ما كان الرئيس الأسد ودائرته القريبة سوف يستمرون على رأس السلطة في البلاد.
وبالتالي، تشكل جهود إعادة الإعمار معضلة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء، ولا سيما مع تلاشي فرص حدوث أي تغيير حقيقي في النظام السلطوي القمعي في سوريا. وفي واقع الأمر، فإن النهج الروسي، والبروز الجريء لنظام الأسد قد أسفر عن صعوبة بالغة في تحقيق الاستراتيجية الأوروبية بشأن إعادة الإعمار. في حين أن موسكو قد صورت أنشطتها في سوريا باعتبارها تكميلية لجهود المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، بهدف التوصل إلى تسوية للنزاع عبر التفاوض المباشر، استناداً إلى اتفاقية جنيف لعام 2012، وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. غير أن الأسلوب الروسي قد أدى إلى تقويض المنهج المتبع وقائمة الأولويات المتفق عليها بموجب القرار الأممي رقم 2254. وهو المحور الذي كان من المفترض أن تتمخض عنه الهيئة الانتقالية الحاكمة –والتي تتألف من ممثلين عن النظام الحاكم وقوى المعارضة– والتي تتمتع بسلطة كاملة. بدلاً من ذلك، سعت روسيا إلى إضفاء الطابع الشرعي على نظام بشار الأسد من خلال قيادة عملية للإصلاح المحدود –اشتملت على اعتماد الدستور الفيدرالي، المُصاغ في موسكو– من خلال مؤتمر للشعب السوري أو مؤتمر الحوار الوطني، الذي تعقبه الانتخابات العامة في البلاد.
الاستنتاجات والتوصيات
ومن غير المرجح أن يُسفر نهج تسوية الصراع الذي تهيمن عليه روسيا والوجود المستمر والمنتظر للميليشيات المدعومة من إيران، عن تحقيق الحد الأدنى من الإصلاحات الأمنية، والإدارية، والاقتصادية (…) وفي ظل هذه الظروف، فإن المشاركة الأوروبية في إعادة الإعمار خلال المراحل الأولى تنطوي على مخاطر تغذية الديناميات المدمرة، وإسقاط حوافز التسويات السياسية من الحسابات. وينبغي على الجانب الأوروبي الالتزام بالمنهج الموضح في استراتيجية أبريل 2017. وفي مرحلة لاحقة –ونظراً إلى الكم الهائل من الاستثمار المطلوب هناك– لن يكون النظام السوري قادراً على الاعتماد على حلفائه فحسب، كما قيل من قبل. عوضاً عن ذلك، قد يُضطر النظام السوري إلى أن ييمِّم شطر البلدان الغربية، أو الخليج العربي، ومصادر التمويل الدولية. وقد تكون هذه هي نقطة البدء في الدفع على طريق تحقيق التدابير الرامية إلى بناء المؤسسات ذات المصداقية. ولا ينبغي على المرء المبالغة في فرص النجاح، رغم أن مثل هذا التطور غير مضمون بأي حال من الأحوال، لأن النظام السوري قد يتخير الاستمرار في تحدي الشروط الأوروبية، حتى وإن جاء ذلك على حساب المعاناة الإنسانية الداخلية الكبيرة على غرار الأوضاع المزرية في كوريا الشمالية.
وفي المستقبل القريب، يمكن لبعض مناطق خفض التصعيد أن تتحول إلى منصات لإعداد الجهود الأوروبية الكبيرة في التعافي الاقتصادي – شريطة أن تستمر هذه الترتيبات، وهو الأمر المرجح في بعض المناطق (في جنوب وشمال حمص) عنه في مناطق أخرى (الغوطة الشرقية وإدلب). ويدور التحدي في أن هذه المناطق تخضع لسيطرة القوى التي لا يمكن أن تكون شريكة في إعادة الإعمار، مثل الجماعات وثيقة الصلة بتنظيم «القاعدة»، مما يعني أن الدعم تمكن إدارته فقط من خلال منظمات المجتمع المدني بدلاً من المجالس المحلية والحكومة المؤقتة. كذلك، فإن المعارضة هي أكثر من يعاني من الانقسام فيما يتعلق بالسيطرة الفعلية إزاء صعوبة إدارة المشاريع الموسعة في مختلف أرجاء منطقة خفض التصعيد.
لذا، سوف يتعين على الجانب الأوروبي أن يبحث عن مقاربات مصمَّمة خصيصاً، كلٌّ لغرضه، تبعاً للظروف والشركاء المتاحين في كل مجال من المجالات. ومن شأن هذه المقاربات التركيز على المساعدات الإنسانية، والتعافي الاقتصادي المبكر، ودعم المنظمات المجتمعية غير العنيفة –وليس أقل من مكافحة دعاية المتطرفين ونفوذهم– فضلاً عن الدعم المتواصل للحكومة المحلية، كلما أمكن. ومن غير المعقول الاعتقاد بأنه في ظل أنواع الدعم المقدمة، سوف يكون المرء قادراً على إقامة «جزر الاستقرار»، والتي قد تكون الأساس الذي ينبني عليه الاستقرار في كل ربوع البلاد. ولكن ينبغي على الجانب الأوروبي السعي جاهداً لمساعدة الهياكل المدنية والحكومية المحلية على الصمود والاستمرار.
وينبغي أيضاً للمساعدات الإنسانية، وتوفير الخدمات الأساسية، ودعم المجتمع المدني، أن تكون ركيزة الدعم الأوروبي في المناطق الخاضعة لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي، والتي أصبح قمع قوات المعارضة والناشطين المستقلين، وعمليات التجنيد الإجبارية، من المشكلات الرئيسية هناك، على الرغم من الصورة التقدمية والشاملة التي يعكسها حزب الاتحاد الديمقراطي.
وبدلاً من التفكير في إعادة إرسال اللاجئين إلى الأحوال التي تتعرض حياتهم ووجودهم في ظلها للخطر، على الجانب الأوروبي إيلاء مزيد من التركيز على بناء الموارد البشرية السورية في البلدان المجاورة وبين صفوف اللاجئين في مختلف أنحاء أوروبا.