بقلم: يعقوب الأورشليمي
خاص: موقع لينغا
وسنبدأ هذا المقال بالإجابة على سؤال هام، وهو:
لماذا لم يصلي عمر ابن الخطاب في كنيسة القيامة؟
لقد ذكر عارف العارف أن صفرونيوس طلب من عمر أن يصلي في كنيسة القيامة؛ فرفض؛ لأنه خاف أن يستغل المسلمين عمله هذا، ويطالبوا المسيحيين بأن يصلوا فيها كذكرى له. أيضًا بعض المؤرِّخون قاموا بكتابة هذا؛ مثل أيتيخيوس من القرن العاشر، وستيفن رونسيمان حديثًا [1]؛ وهذا ما يُدَرَّس في معظم المناهج المدرسية لمادة التاريخ، في العالم العربي والإسلامي. فعندما دخل عمر القدس، أول ما زاره كان كنيسة القيامة، فحينما حان موعد الصلاة، أشار عليه البطريرك صفرونيوس أن يصلي في القيامة؛ لكنه رفض، وصلى في مكان قريب من الكنيسة. وبعد صلاته، سأله البطريرك عن السبب لرفضة الصلاة داخل كنيسة القيامة، فقال له عمر:
“ إيذن لي أيها الشيخ، إنني لو أقمت الصلاة في كنيسة القيامة لوضع المسلمون عليها الأيدي من بعدي في حجة إقامة الصلاة فيها. وإني لآبى أن أمهد السبيل لحرمانكم منها، وأنتم لها أحق وأولى.” [2]
بالرغم من أن هذا الكلام يبدو للوهلة الأولى جميل، لكنه ليس مقنع على الإطلاق، وذلك لعدة أسباب:
أولا: ألا يستطيع عمر أن يصلي في كنيسة القيامة، وبعدها يأمر المسلمين أمرًا قاطعًا بأن لا يصلوا فيها من بعده، أو حتى لا يقربوها؟ وهم سيطيعون كلامه بالتأكيد. وفعلاً لقد كتب المؤرخ إيتيخيوس، وهو من كبار مؤرخي القرن العاشر، أن عمر حرر صقًا للبطريرك يسمح للمسلمين بأن يصلوا حيثما صلى كأفراد، وليس كجماعة [3]، وها هم يطيعون وصيته إلى اليوم ؛ فمسجد عمر لا يُؤمَّ به كباقي المساجد بصلاة الجماعة إلى اليوم !! إذًا كان بإمكانه أن يمنعهم أن يقتربوا لكنيسة إذا أراد، دون أن يمتنع عن الصلاة فيها.
ثانيًا: بحسب المؤرخ إيتيخيوس، لقد ذهب عمر بعدها إلى بيت لحم، وزار كنيسة المهد، وعندما حان موعد الصلاة، صلى في داخل كنيسة المهد، تحت القبة الغربية للكنيسة. وكتب للبطريرك أيضًا صقًا يقول فيه، أن المسلمين لا يحق لهم أن يصلوا في كنيسة المهد، إلا الفرد تلو الآخر، ولا يحق لهم أن يتجمعوا في الكنيسة بهدف الصلاة، ولا أن ينادي المؤذن فيها للصلاة (نفس المرجع والصفحة). فإنْ صدق عمر فعلاً فيما قاله للبطريرك عن عدم الصلاة في كنيسة القيامة، لماذا لم يطبق نفس المبدأ الخلقي، هذه المرة أيضًا، ويرفض أن يصلي داخل كنيسة المهد؟ وأيضًا لماذا سمح للمسلمين أن يصلوا في كنيسة المهد كأفراد، واحد تلو الآخر؟ فإين الاحترام؟
ثالثًا: لو كان للمسلمين الصحابى أي احترام لكنائس المسيحيين، لما كانوا يبنون بجانب معظم الكنائس القديمة، مساجد !! فكنيسة القيامة محاطة بثلاثة مساجد، إثنين منهما يشتركان مع الكنيسة في نفس الحائط، والثالث هو مسجد عمر، الذي يبعد عن الكنيسة مسافة أمتار. هل إذا حاول المسيحيون بناء كنيسة بجاني مسجد، سيقبل ذلك المسلمون؟؟ لماذا؟ لأنهم سيعتبرونة إسائة للمسلمين. وأنا أقول إن فعلوه أيضًا، كان إسائة للمسيحيين وليس احترام. أيضًا الكثير من الكنائس في العالم العربي، تحولت إلى مساجد وكُتب عليها إسم عمر ابن الخطاب (نفس المرجع، ص ٤١).
رابعًا: إن عمر ابن الخطاب كان من أشد الرافضين للصلاة في الكنائس، من منظور شرعي وديني، وليس من منظور الاحترم للمسيحيين، حيث قال:
” لا تعلَّموا رطانةَ الأعاجِمِ ، ولا تدخلوا على المشركينَ في كنائِسِهم يومَ عيدِهم ، فإنَّ السُّخطةَ تنزِلُ عليهِم.” [4]
وأيضًا نُقل عن السبب لعدم جوز الصلاة في الكنائس، في هذا الحديث الموقوف، وهو الحديث الذي رُوِيَ عن الصحابة، وعن عمر بالتحديد:
” أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ ، أنبأ إِسْمَاعِيلُ…. أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ” حِينَ قَدِمَ الشَّامَ فَصَنَعَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى طَعَامًا ، فَقَالَ لِعُمَرَ : إِنِّي أُحِبّ أَنْ تَجِيئَنِي وَتُكْرِمَنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الشَّامِ , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّا لا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ الصُّوَرِ الَّتِي فِيهَا يَعْنِي التَّمَاثِيلَ.” [5]
وهذا تعليم معروف في الإسلام، ومأخوذ عن عمر ونبي الإسلام نفسه؛ فيقول ابن تيمية عن الصلاة في الكنائس:
“… وأما الصلاة فيها، ففيها ثلاثة أقوال للعلماء، في مذهب أحمد وغيره: المنع مطلقاً؛ وهو قول مالك. والإذن مطلقاً وهو قول بعض أصحاب أحمد. والثالث: وهو الصحيح المأثور عن عمر ابن الخطاب وغيره، وهو منصوص عن أحمد وغيره، أنه إن كان فيها صور لم يصلّ فيها؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، ولأن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يدخل الكعبة حتى محي ما فيها من الصور، وكذلك قال عمر: إنا كنا لا ندخل كنائسهم والصور فيها.
وهي بمنزلة المسجد المبني على القبر، ففي الصحيحين أنه ذكر للنبي –صلى الله عليه وسلم- كنيسة بأرض الحبشة، وما فيها من الحسن والتصاوير، فقال:”أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة” البخاري (427) ومسلم (528)، وأما إذا لم يكن فيها صور فقد صلى الصحابة في الكنيسة.” [6]
إذًا السبب هو ليست أكذوبة احترام عمر للمسيحيين، بل مسألة عقائدية يعرفها كل المسلمين، وهم مصممين على أسطورة احترام عمر لحرمة كنيسة القيامة. بالرغم من أن ابن تيمية قال أن الصحابى صلوا في كنائس ليس فيها صور، ورأينا سابقًا أن عمر نفسه صلى في كنيسة المهد؛ فهل هذا يعزز فكرة احترام الصحابى للمسيحيين وكنائسهم؟؟ فإن سكتت الضمائر الحية، ستشهد الحجارة؛ فأكبر دليل شاهد إلى اليوم، في كل الوطن العربي والإسلامي، على انتهاك المسلمين الأوائل لحقوق المسيحيين الدينية، هو إن الكثير من المساجد المبنية في القرن السابع والثامن، مبنية بجانب كنائس، ولا أحتاج إلى التعقيب على معنى هذا، فإنه يتكلم بشكل أوضح من أي تفسير.
لست أطعن في صحة ما قاله عمر لبطريرك القدس صفرونيوس، لكن نستنتج مما طرحناه إلى الآن، أن ما قاله عمر لم يكن السبب الحقيقي، بل كانت له أسباب أخرى عقائدية، لعدم الصلاة في كنيسة القيامة. فبالنسبة له، كنيسة القيامة هي مكان مليء بالصور ولا يجوز له أن يصلي فيها؛ فضلاً عن أنها المكان الذي يعزز لاهوت صلب وقيامة رب المجد يسوع المسيح؛ وهذا يرفضة المسلمون بشدة. لأن قيامة رب المجد يسوع المسيح، وانتصاره على أهم مشكلة عند الإنسان، وهي الموت؛ كانت ولا زالت كابوس إبليس المهلك، التي غيرت، ولا زالت تغير الملايين من النفوس عبر التاريخ.
كيف كان شعور السكان المحليين من الفتح الإسلامي؟
ولكي نكون دقيقين في الإجابة على هذا السؤال، سنورد كيف كان شعور البطريرك صفرونيوس، من احتلال المسلمين للأراضي المقدسة.
وأفضل ما يمكن أن نورده هو خطاباته وعظاته؛ وفيما يلي بعض المقتطفات من عظة الميلاد التي قدمها سنة ٦٣٤، والتي كانت حوالي سنتين قبل سقوط مدينة القدس، وبعد وقت قصير من سقوط مدينة بيت لحم. وعبر فيها عن خوفه واستيائه لعدم إمكانية تقديسه في بيت لحم في عيد الميلاد؛ جراء العدوان الإسلامي عليها؛ فقال:
” إن جيوش الفتح الإسلامي الذي لا يعرف الله، احتل بيت لحم المقدسة، وأصبحوا يحِدُّون مرورنا إلى هناك، حيث أننا نُهدد بالذبح والدمار إذا تركنا مدينتنا المقدسة (أورشليم)، إذا تجرأنا واقتربنا من بيت لحمنا الحبيبة المقدسة… إذا تبنا عن خطايانا، سنضحك على انتهاء أعداؤنا، وفتحهم الإسلامي، وسنرى دمارهم واضمحلالهم في وقت قصير. لأن سيوفهم الدامية ستخترق قلوبهم، وأقواسهم ستتفرق، وسهامهم ستكون ملتسقة بهم، وسيفتحون لنا الطريق إلى بيت لحم من جديد.” [7]
وفي أحد عظاته، سنة ٦٣٦ أو ٦٣٧، أي بعد احتلال المسلمين لأورشليم بحوالي سنة، قال عنهم:
“ .. لقد دخل المسلمون، الذين لا يعرفون الله، مدينة ربنا المسيح المقدسة، أورشليم (طبعًا لم يسميها أيلياء كالمسلمين – راجع المقال الأول)، بسماح من الله وعقاب منه على اهمالنا الكبير”.
وعن بنائهم للحرم قال:
” ..لقد ساروا إلى المكان المدعو “كابيتول” (ساحة جبل الهيكل)؛ وأخذوا معهم رجال؛ البعض بالقوة، والبعض بإرادتهم، لكي ينظفوا المكان الذي بنوا عليه شيئهم (أي معبدهم) اللعين، المكرس لصلواتهم، الذي يدعونه مسجدًا.” [8]
أيضًا ثيوفانيس، المؤرخ من القرن الثامن، قال معتمدًا على المصادر السريانية، أن صفرونيوس عند سقوط أورشليم بأيدي العدوان الإسلامي، صاح باشمئزاز قائلاً: “حقًا هذه رجسة الخراب القائمة في المكان المقدس، التي تكلم عنها دانيال النبي.” [9] (بحسب أقوال المسيح في؛ متى ٢٤: ١٥ ومرقس ١٣: ١٤).
أيضًا المؤرخ إيوتيخيوس وصف أن صفرونيوس كان يعتبر العرب وعلى رأسهم عمر، شعب كريه
(The Encounter, p 42)
. وأيضًا وصف العرب بالبرابرة؛ وألية حربهم بـ “السيف الإسلامي”؛ ووصفهم أيضًا بالوحوش القاسية، التي لا تعرف الأخلاق والله. [10]
إذًا لم يكن صفرونيوس مسرور بقدوم المسلمين كما تصوره لنا كتب التاريخ العربية؛ بل كان حزينًا مكسور القلب على هذه الكارثة الكبرى التي أصابت الأماكن المقدسة والفلسطينيين المسيحيين؛ بل هي أكبر كارثة أصابت كل ما يسمى بالوطن العربي إلى اليوم؛ لذلك كانت، ولا زالت، تلك الأراضي التي يسود عليها الإسلام، خالية من السلام والعدل إلى اليوم.
السبب من كتابتي لتلك المقالات الثلاثة، هو أن أشجع الشعب العربي المسلم، أن يواجه ماضيه بشجاعة وقلب مفتوح ونزيه، لكي يستطيع أن ينطلق إلى الأمام على أساس نقي. فالسبب الأساسي في الفشل العربي الكبير على جميع الأصعدة، هو أن الأساسات التاريخية التي بنى عليها جميع تلك الحضارة منذ ١٤٠٠ عام، معوجّة؛ فلا يمكن أن نبني حق على باطل، عدل على ظلم، سلام على دماء، وحقيقة على خطأ.
المراجع:
[1] Steven Runciman, A History of the Crusades, vol. 1 The First Crusade (Cambridge: Cambridge University Press, 1987), p 3-4.
[2] عارف العارف، “المفصل في تاريخ القدس”، الطبعة الخامسة، سنة ١٩٩٩، مطبعة المعارف، القدس، ص ٩٨.
[3] Grypeou, Emmamouela; Swanson, Mark; Thomas, David Richard. “The Encounter of Eastern Christianity With Early Islam”, Brill Academic Publishers; 1St Edition edition (June 1, 2006), p. 39.
[4] رواه عطاء بن دينار: أورده ابن تيمية في “اقتضاء الصراط المستقيم” – الصفحة أو الرقم: 1/511؛ وأورده أيضًا في: “مجموع الفتاوى” – الصفحة أو الرقم: 25/325. وأورده ابن القيم في “أحكام أهل الذمة” – الصفحة أو الرقم: 1247/3.وأورده ابن مفلح في “الآداب الشرعية” – الصفحة أو الرقم: 3/417. وأورده ابن كثير في: “مسند الفاروق” – الصفحة أو الرقم: 2/494.)
[5] السنن الكبرى للبهيقي، حديث رقم 13489.
[6] شيخ الإسلام بن تيمية في الفتاوى الكبرى2/59.
[7] Donald E. Wagner. Dying in the Land of Promise: Palestine and Palestinian Christianity from Pentecost to 2000. and (http://www.mariedenazareth.com/12908.0.html?&L=1)
[8] http://saintsworks.net/forums/index.php?topic=1239.0
[9] Theophanes, Chronoraphia, vol. I, p 339
[10] Synodical Letter, PG, vol. LXXXVII, col. 3197D, and Christmas Sermon, ed. Usener, pp. 506-7. and, Clifford Stevens, The One Year Book of Saints, Our Sunday Visitor, Inc., 1989, p. 84.
—-
اقرأ ايضا:
إحتلال العرب لمدينة القدس (١) مقدمة
إحتلال العرب لمدينة القدس (٢) كيف تعامل المسلمون مع الفلسطينيين آنذاك؟