…. إجهاض الثورات على الطريقة الروسية

لم يستطع الروس هزيمة حفنة من المقاتلين الشيشان في الحرب الشيشانية الأولى في 1996، لكنهم استطاعوا ذلك في الحرب الثانية في 1999؛ بعد إنهاكهم داخليًا بخلق أجنحة متطرفة وظيفتها الوحيدة هي تشتيت قواهم ووحدتهم الداخلية وتشويه صورتهم الخارجية. فلم تمر أيام قليلة على تسلم الرئيس الشيشاني المنتخب أصلان مسخادوف، في بداية 1997، حتى تعرض لمحاولة اغتيال من ميليشيات متمردة تطالب بتطبيق الشريعة على المجتمع؛ ما ينذر بشقاقات مجتمعية داخلية، والتوسع لضم مناطق قوقازية أخرى للدولة الجديدة؛ ما يعني استدعاء تدخل روسي خارجي تنتظره بفارغ الصبر.

كان بطل إحدى هذه العمليات هو عربي براييف، ضابط الشرطة السوفييتي السابق والمجاهد ضد الروس وقتها. كانت نتيجة قيام ميليشيا براييف باغتيال وزير الداخلية الشيشاني ومسؤولين أمنيين آخرين وخطف صحفيين وعمال إغاثة ومهندسين غربيين وروس زعزعة حكم أصلان مسخادوف وتشويه صورة القضية الشيشانية لدى الغرب وتعزيز الاستراتيجية الروسية العدائية ضدهم.

قادت استراتيجية عربي براييف ورفقائه من الجناح الإسلامي المتشدد في الشيشان إلى قيام الحرب الشيشانية الثانية عبر تدخل روسيا بعد احتلالهم لداغشتان من أجل إقامة إمارة قوقازية إسلامية. انتهت الحرب في الشيشان لمصلحة الروس بعد القضاء على الاعتدال والعقلانية في البداية على يد الجهاديين المتطرفين ثم التخلص منهم بالاغتيال بعد ذلك. قُتل عربي براييف في 2001 مع نهاية الحرب الثانية على يد قوات خاصة روسية وجهاز المخابرات العسكرية الروسي بعد التخلص من حاميه المباشر في الجهاز الأمن الفيدرالي الروسي FSB (بديل الـ KGB) الجنرال جيرمان أوجريموف.

يرى الصحفي الفرنسي جوناثان ليتل في مقدمة النسخة الإنجليزية من كتابه “المفكرات السورية” أن الخبرات الروسية في تدمير الثورة الشيشانية ليست بعيدة عن متناول نظام الأسد في تدمير الثورة السورية. فكل العناصر موجودة تقريبًا، جهاديون إسلاميون ذوو صلات قديمة مع النظام تتركز كل عملياتهم ضد المعتدلين من زملائهم في تنسيق غير معلن مع الأسد في سوريا أو في الكرملين في روسيا.

نفس عمليات التشويه الخارجي والإرباك الداخلي والتي تؤدي إلى نتيجتين أساسيتين: الأولى إخافة المدنيين من الثورة والتغيير، بل وكراهيتهم لها؛ عبر محاولات فرض الشريعة قسريًا. والثانية الدعوة للاحتلال الخارجي عبر التوسع لضم مناطق جديدة للدولة الإسلامية الوليدة. هنا تخلط الأوراق وتفقد الثورة بوصلتها وتتحول إلى ألعوبة في يد غير أهلها.

ففي السياق الشيشاني، لم ينفذ عربي براييف قرار الرئيس مسخادوف بضم ميليشياته إلى وزارة الدفاع بل استغل الانفلات الأمني ليفرض على الرئيس تطبيق الشريعة؛ وذلك بالتعاون مع أصوليين مثل شامل باساييف والمقاتلين غير الشيشانيين (الأفغان العرب) عبر الخطف والاغتيال والجريمة. استمر الجناح الجهادي في الشيشان في الضغط على مسخادوف، ولما رفض حاولوا فاشلين قتله، لكنهم نجحوا في قتل وزير داخليته والمسؤول عن مكافحة الخطف في وزارة الداخلية الوليدة.

استمر انتهاج العنف واستغلال الاضطراب، والذي نجم عنه قتل أكثر من 170 شيشانيًا على يد براييف، منهم 50 من قريته؛ وذلك في سبيل تطبيق الشريعة وإقامة دولة الخلافة وقتال المنافقين، هذا غير آلاف الشيشانيين المسلمين الذين قتلوا على يد ميليشياته وغيرها من الجهاديين.

يذكر جوناثان كيف أن صديقًا له رآى عربي براييف يعبر نقطة تفتيش روسية مستخدمًا تصريحًا من المخابرات الفيدرالية؛ في دليل على وجود تنسيق ما. كما يبرهن جوناثان على عِمالة براييف بتأكيده على أن المخابرات الفيدرالية دفعت له مالًا كثيرًا مقابل إعدام رهائن غربيين كان قد ساوم أهلهم على إطلاقهم؛ وذلك من أجل تشويه القضية الشيشانية في عيون الغرب ومنعهم من التعاطف معهم.

في ذات السياق، وبمراجعة أسباب اندلاع الحرب الشيشانية الثانية في 1999، نجد أنها كانت إثر مؤامرة من الجناح الجهادي للإطاحة بحكم مسخادوف؛ عبر افتعال اشتباكات في جمهورية داغستان المجاورة، والتي سيعقبها تهديد روسي باقتحام الشيشان يمكن من سيطرتهم على الحكم. لم تتوقف روسيا على حدود جروزني كما وَعدت، لكنها استمرت في التحرك واجتاحت كل المناطق الشيشانية بعد إنهاك المقاتلين الشيشان بنزاعاتهم الداخلية وانقساماتهم اللامتناهية.

راحت الشيشان وراحت دماء أهلها وتضحياتهم من أجل أوهام الجهاديين وفشلهم وتآمرهم. في غضون أعوام قليلة، قُتل كل من براييف وباسييف، وحتى مسخادوف؛ وما زالت أرواح آلاف الشهداء الشيشانيين هائمة تبحث عن من توجه له إصبع اللوم عن فقدان تضحياتها.

قبل أن نمضي، لا بد وأن نتذكر بأن التشكيك في رواية جوناثان ليتل قد يكون مفيدًا. فلا يمكننا إلقاء تهمة العمالة على من يعتبرهم الكثيرون مجاهدين وشهداء من دون توثيق وأدلة صحيحة. هذا ضروري، لكن بفرض أن كل معلومات الكاتب كانت خاطئة، وأنهم بالفعل مجاهدون وشهداء أبرار؛ ألا يحق لنا التفكر في مساراتهم الاستراتيجية وكيف أفادت أو أضرت بقضيتهم؟ يبدو لي، وقد أكون مخطئًا، أن نزوع الجهاديين العالميين إلى التدخل في نزاعات المسلمين لا يكون بهدف نصرة أهل المنطقة المنكوبة أو المكلومة على ظالميها؛ ولكن بهدف تطبيق أجندة جهادية أممية لم ينجحوا في توطينها في بلدانهم ولا بأي من المناطق التي تدخلوا فيها. انظر إلى أفغانستان، الشيشان، العراق، وسوريا الآن وأنت توقن بهذا.

أتى الجهاديون المحترفون من كل أصقاع الأرض إلى سوريا لا لتمكين أهلها، ولكن لتمكين أنفسهم من خلال تطبيق الشريعة والتوسع لضم أراضٍ أخرى لخلافتهم.

يحن كثير من المسلمين إلى مثل هذه الشعارات ويضعفون أمام المنادين بها، خصوصًا عندما تأتي مع تقديم الأمن ولو بشكل عابر. يستمر جوناثان ليتل بمدّنا بالمعلومات عن احتمالية ارتباط مخابرات روسيا والأسد بداعش عبر الكتائب الشيشانية في سوريا. فقائد إحدى هذه الكتائب هو عمر الشيشاني الذي هو كان في الأصل ضابط عمليات خاصة جورجيًا اسمه طرخان باتيراشفيلي، ونائبه هو عيسى عمروف أحد الجهاديين الشيشانيين المعروفة صلتهم بالمخابرات الروسية منذ الثمانينات.

مرة أخرى، قد يكون هؤلاء أسلموا وحسن إسلامهم وهم الآن غير ما كانوا عليه، لكنهم بأجندتهم غير الديمقراطية في فرض الشريعة والتوسع الجغرافي سوف يجلبون عدم الاستقرار والخراب.

إن مهمة الاعتدال والوسطية الحالية أن تتشدد في الدفاع عن التعايش والحريات والعدالة والكرامة، لكن بدون الانزلاق في فخ معاداة كل من العامة والجهاديين بمعاداتها للشريعة.

ينظر عموم الناس للشريعة بإيجابية ويتجاوبون مع من يستخدم خطابها؛ لذلك يجب التعامل مع التطرف في تفسيرها من داخلها وباستخدام أدواتها الثرية ومناهجها القوية لكي لا نشرعن للخطاب الجهادي المعتمد على معاداة الشريعة كسبب لوجوده. أيضًا يجب رفض التوسع الجغرافي القسري تحت دعاوى توحيد الأمة؛ حيث إن التوحيد لا يمكن أن يكون غصبًا، ولا من أعلى، ناهيك عن استعدائه للجيران ودعوته للتدخل في الشأن الداخلي في ظل هكذا وضع هش.

لن يكون بسيطًا تفكيك خطاب جهادي متسلح بمقولات شرعية، ولو بالية، ومستندًا على رؤية تاريخية، ولو جزئية ومتحيزة، يقوم عمليًا بتعزيز الفساد في الأرض متواطئًا أو بحسن نية.

الكثير من العمل الفكري مطلوب لتحصين الشباب ضد مقولات لها جاذبية عالية في أوقات الحروب والأزمات، والأهم منه تشكيل البديل المادي الذي يوفر الأمن والتنمية ولا يبتز الناس ويساومهم على حريتهم وكرامتهم.

التقرير.كوم

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.