التئم جمعٌ غفير حول إبريق الوضوء, فمعظمهم واجهوا مع إبريق الوضوء كثيرا من المشاكل اليومية العالقة , لأن إبريق
الوضوء أصلا من البداية كان غير موجودٌ وفقط لا غير منذ مدة قصيرة قرروا شراء إبريق وضوء يتوضأ منه كل من أراد الدخول إلى المسجد للصلاة, وكان كلما أراد رجلٌ من المصلين الدخول إلى المسجد ليتوضأ ويصلي كان لا يجد إبريق الوضوء في مكانه, فمرة كان يجدونه هنا ومرة كانوا يجدونه هناك, والمهم أن إبريق الوضوء في كل مرة ليس بمكانه المخصص له والأمور لم تكن لتمشي على قدمٍ وساق كما ظنوا, وتطايرت الكلمات هنا وهناك ورُفعت الشكاوى إلى تجار المدينة والقائمين على الصلاة ليلا ونهارا وتعالت الأصوات في المسجد لأن أغلب المصلين من أصحاب الدكاكين المحيطين بالمسجد كانوا هم المتضررين أكثر من إبريق الوضوء المتسكع هنا وهناك, وكلما دخلوا المسجد ليتوضئوا بحثوا عنه كثيرا ولم يجدوه, فمرة كانوا يجدونه مع الصبية يلعبون به ومرة كانوا يجدون الريح قد انتزعته من مكانه إلى مكانٍ آخر فاجتمعوا والتئموا حول إبريق الوضوء وقرروا عقد ندوة علمية بخصوصه, فقال الشيخ: محمد:
-يا جماعة الخير, إمبارح طلب مني مدير المدرسة القريبة من المسجد أن أتبرع للمدرسة بجزء بسيط من أموالي من أجل بناء صف جديد للمدرسة التي يتعلم فيها أولادنا, ونحن كما تعلمون تجار وأولادنا ليسوا بحاجة إلى التعليم لأنهم بعد أن يصبحوا يافعين بعمر ال13 سنة سيجدون عملا لهم بمتاجرنا, لذلك أنا شخصيا قررت أن أقوم بتعيين رجل من أهل القرية على نفقتي الخاصة من زكاة أموالي التي كنت أدفعها للفقراء, تكون مهمته تعبئة إبريق الوضوء والمحافظة على مكانه المخصص له..وأيضا من وجهة نظر عقائدية دينية الله يبني بيتا في الجنة لمن يبني المساجد ويهتم فيها ويرعاها ولا يبني بيتا في الجنة لمن يبني مدرسة يتعلم فيها الصبية القراءة والكتابة فهذا لم يرد عن رسول الله, فرسول الله أشرف الخلق وأكملهم لم يقل يوما: من بنا لله مدرسة في الأرض بنا له الله بيتا في الجنة, ومن هنا نستنتج أن بناء المساجد فيه فائدة للناس أكثر من بناء المدارس ولو كان العلمُ مهما لقال رسول الله عن المدرسة ما قاله عن المسجد, ثم نحن الأغنياء كما تعلمون لا يحتاج أولادنا إلى التعليم, فأبناء الفقراء هم الأحوج للتعليم لذلك يجب على الدولة أن تجمع من الفقراء المال اللازم لبناء المدارس, أليس كلامي صحيحا؟
صوت جماعة من المصلين قاطع الشيخ: (جزاك الله خيرا) ثم عاد الشيخ ليقول:
فبعد اليوم أرجو من الفقراء معذرتي لأن المسجد وإبريق الوضوء أولى بكثير منهم, سأقوم بتعيين موظف في هذا المسجد وتكون وظيفته الأساسية تعبئة إبريق الوضوء كل يوم وفي كل أوقات الصلاة فما رأيكم؟
الشيخ سامي: نعم صحيح, وجزاك الله خيرا, فأبنائنا ليسوا بحاجة ماسة إلى التعليم, الفقراء هم من يحتاج التعليم لكي تتغير ظروفهم.. أولادنا من الأولى بنا أن نحسن لهم المسجد وإبريق الوضوء فالصلاة والعمل بسنة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل بكثير من أن يتعلموا كلاما فارغا وغير مهم مثل لغة الكفار وهي الإنكليزية أو لا سمح الله أن يتعلموا ويدرسوا الكيميا(السيمياء), أنا رأيي من رأيك يا شيخ محمد.
الجميع قالوا بصوت واحد: نعم صحيح جزاك الله خيرا يا شيخ محمد, إبريق الوضوء أهم بكثير من الكلام الفارغ.
وبعد شهرين تكاسل الرجل الذي وظفه الشيخ محمد عن عمله, وصار يوما يملأ إبريق الوضوء ويوما يتركه بيد الصبية يتلاعبون به كما يتلاعبون بالكرة, وفي أيام البرد الشديد لا يخرج من منزله لصلاة الفجر فعاد المصلون إلى الشكوى والتذمر من سلوك الموظف, وتم استدعاء الموظف للمثول أمام مجلس التجار في المسجد وهم مجتمعون حول إبريق الوضوء عدة مرات ليسألوه ويستجوبوه عن سبب عدم إيجاد إبريق الماء أو إبريق الوضوء ممتلئا بالماء, وكان الرجل حاذقا في الإجابة على كل سؤال يطرحونه ولذلك دعا الشيخ محمد إلى اجتماع عاجل عقدوه في المسجد حول إبريق الوضوء في ظهيرة اليوم التالي:
الشيخ محمد: أريد حلا, ما رأيكم أن نقوم بتعيين مراقب يراقب أداء الموظف الذي وضعناه لملء إبريق الوضوء؟ وتكون أيضا مهمة المراقب أن يؤم بالمصلين..؟.
-الشيخ سامي: ونعم الرأي, وقد فكرت بهذا الموضوع من قبل ولكن كنت بحاجة إلى التشجيع من قِبلكم فهذا يترتب عليه الكثير من المصاريف ولا بد أن يساهم التجار في تغطية مثل تلك النفقات, لقد كنت أنوي تخصيص جزء كبير من زكاة أموالي من أجل تحسين العيادة الطبية التي يتلقى فيها الناس العلاج اللازم وأظن بأن المرض عقاب يرسله الله على أولئك الناس ولا داعي أن نتحدى إرادة الله لأنه هو وحده المحيي والمميت, وطالما أن المسجد بحاجة إلى موظف يراقب أداء عامل إبريق الوضوء وأن يؤم بالناس فالأولى أن أنفق هذا المال على إبريق الوضوء, وأنا من هنا أقول لكم, اختاروا مراقبا يراقب أداء عامل إبريق الوضوء وأنا سأدفع مرتبا شهريا له من زكاة أموالي, فالأعمار بيد الله, (وإذا مرضت فهو يشفين), نحن لا نحتاج إلى أطباء لأن الله هو الذي يحيي وهو الذي يميت واللي مكتوب له أن يعيش فسيعيش ليس بفضل الدواء وليس بفضل الأطباء بل بفضل الله سبحانه وتعالى.
واستمرت الأوضاع على هذه الحال ومضى الزمن والموظف الذي تم تعيينه من أجل ملء إبريق الوضوء توسعت مهماته فصار مسئولا عن تنظيف المسجد وحمامات المسجد, والمراقب تحول إلى وظيفة إمام مسجد وصار في المسجد موظفين رسميين أو شبه رسميين, ولكن هذين الموظفين واجها مشكلة صرف الراتب لكل واحد منهما فكانوا يجهدون جهدا كبيرا كلما أرادوا البحث عن التاجرين المتبرعين لاستلام مرتباتهم, وهذه الظاهرة قد عمّت جميع مساجد المدينة وكل المساجد صار فيها موظفا أو موظفين وأحيانا ثلاثة موظفين فبعض المساجد أصبحت أيضا بحاجة ماسة إلى موظف رسمي لإنارة المسجد من إبريق الزيت وصار لإبريق الزيت قصة مثل قصة إبريق الوضوء, واجتمع هؤلاء الموظفين وقرروا رفع شكوى إلى والي المدينة, فقرر الوالي تعيين موظف حسابات مسئول عن جمع التبرعات من التجار وتسليمها إلى موظفي المساجد, وبدل أن يدفع التجار أموالهم وصدقاتهم إلى الفقراء صاروا ينفقونها على بناء المساجد وعلى مراحيض المساجد وأباريق الوضوء تحولت أباريق الوضوء إلى كومة كبيرة من المواسير لنقل عملية الصرف الصحي,وصار شكل الإبريق عبارة عن مغسلة من الفخار مطلية بالسيراميك….. وحاشية الملك ووزراءه أقروا قرارا آخر وهو أن يقوم أئمة المساجد بإرسال 30% من الأموال التي يجمعونها إلى والي المدينة من أجل تعيين مشرفين دينيين على المساجد المنتشرة في أروقة الدولة, لأن هذا لا يمكن أن تترك إدارته إلى التجار بل إلى الدولة, وأنشأت الدولة (وزارة أوقاف) تقوم بالإشراف على المساجد وبنائها وتعيين أئمة لها يدعون إلى السلطان بطول العمر ويخطبون في الناس على مبدأ السلطان ورأيه وسياسته.
واستمرت الأوضاع على هذه الحال مدة طويلة من الزمن , وتزايدت الناس بشكل كبير وأصبحت هنالك حاجة ماسة لبناء مساجد جديدة للناس أولى وأهم من بناء المدارس والمؤسسات الثقافية والمراكز الصحية ودور الرعاية, وازدادت جيوب الفقر وازداد عدد الفقراء وظهر في السوق السوداء الدينية مساجد تفوق بأعدادها أعداد المدارس والجامعات وصارت كل قرية وكل مدينة تنفق على المساجد عشرات أضعاف ما ينفقونه على المدارس والجامعات والأبحاث العلمية, وكل ذلك بسبب إبريق الوضوء , وظهر تجار يتاجرون بالدين ويلقون الدعم المالي من أموال الأغنياء التجار الذين بخلوا على الفقراء ولم يبخلوا على المساجد وبنائها, ذلك أن الجنة بنظرهم مضمونة لمن بنا لله بيتا في الأرض, فالذي يبني مدرسة بنظرهم لا يبني له الله بيتا في الجنة, والذي يبني مستوصفا صحيا أو عيادة طبية يتلقى فيها الفقراء العلاج اللازم,كل هؤلاء لا يبني الله لهم بيتا في الجنة لأن بيوت الله في الجنة حصريا على من يبنون المساجد, واستمرت الأوضاع بهذا الشكل إلى أن اجتمع الوالي يوما بتجار المدينة كلهم وقرر بناء وزارة أوقاف من الأموال المتبرع فيها للمساجد مسئولة عن بناء المساجد وعن أئمة المساجد, ترعى هذه الوزارة حقوق جميع العاملين الدينيين , وتحرص على توفير سبل الراحة لهم وللمصلين,أما المرضى والمحتاجين للتعلم لا أحد يدفع عنهم أو لهم إلا بعض الفلسات التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة, ذلك أننا شعب لا يحتاج إلى المدارس والجامعات والأبحاث العلمية والتشجيع على تأليف الكتب, أمة تهربُ من النور لتعيش في الظلام.
مواضيع ذات صلة لنفس الكاتب بناء المساجد