أيهما نتبع.. ملة ‘ابن تيمية’ أم ‘ملة إبراهيم’؟

بقلم د. توفيق حميد/
ابن تيمية هو فقيه أصولي، عاش في القرنين السابع والثامن الهجريين وتلقى الفقه الحنبلي وأصوله عن أبيه، وقد عني بالحديث وسمع من أكثر من مئتي شيخ.
وشرع ابن تيمية في التدريس والفتوى وهو ابن سبعة عشر عاما.
وقد كثر الاستشهاد بفتاوى ابن تيمية عند غالبية السلفيين والجهاديين في عصرنا الحالي.
ومن المعروف عن ابن تيمية أنه من الداعين إلى قتل الكافر وتكفير المخالف، وليس ذلك فحسب بل إن الكثير من فتاواه إن كانت تدل على شيء فإنما تدل على تعطشه لسفك الدماء، فما أكثر ورود “يستتاب أو يقتل” في فتاواه ومؤلفاته.
وإليكم بعضا يسيرا من هذه الفتاوى:
♦ “من قال لرجل: توكلت عليك أو أنت حسبي أو أنا حسبك.. يستتاب فإن تاب وإلا قتل”.
♦ “الرجل البالغ إذا امتنع عن صلاة واحدة من الصلوات الخمس أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل”.
ملة إبراهيم وصلت إلى معرفة الله تعالى بالعقل وأعلت قيم السلم
♦ من جحد حِل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز واللحم والنكاح فهو كافر مرتد يستتاب فان تاب وإلا قتل وإن أضمر ذلك (يعني تحريم اللحم أو الخبز أو النكاح) كان زنديقا منافقا لا يستتاب بل يقتل بلا استتابة إذا ظهر ذلك منه.
♦ من ادعى أن له طريقا إلى الله يوصله إلى رضوان الله وكرامته وثوابه غير الشريعة التي بعث الله بها رسوله فإنه أيضا كافر يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.


♦ من أخر الصلاة (صلاة العصر) لصناعة أو صيد أو خدمة أستاذ أو غير ذلك حتى تغيب الشمس وجبت عقوبته بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يستتاب.
وبالإضافة إلى ما سبق من فتاوي “إمام السلفيين” فقد ذكر ابن تيمية في كتابه “الصارم المسلول على شاتم الرسول” أن سابّ الرسول يقتل دون أن يستتاب سواء كان مسلما أو كافرا (أما سابّ الله عند إمام السلفيين ابن تيمية، ويا للعجب، فمن حقه أن يستتاب وينقذ حياته من القتل ذبحا!).
وكما جاء في كتاب “العقيدة السلفية بين منهج الإمام ابن حنبل والإمام ابن تيمية” فكما ذكر المؤلف الدكتور سيد عبد العزيز السيلي فإن أول أسس منهج ابن تيمية هو تقديم النقل على العقل.
ولن أتطرق هنا إن كان ابن حنبل وابن تيمية يستحقان لقب “إمام” أم لا، خاصة بعد أن ذكر القرآن إماما واحدا للناس وهو نبي الله إبراهيم “وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ “، ولكني سأتطرق للفارق الشاسع بين ملة “ابن تيمية” التي قدمت النقل على العقل، وأصّلت للعنف وسفك الدماء البريئة باسم الإله، و”ملة إبراهيم” خليل الرحمن التي أعلت من قيمة العقل على النقل وجعلت المنطق لا النص فوق أي شيء آخر، وكانت فوق ذلك ملة المسالمة وحقن الدماء لا سفكها.
فنرى في قصة إبراهيم على سبيل المثال لا الحصر، أنه وصل إلى الله بفكره وباستخدام العقل ـ حتى وإن أضله في وقت من الأوقات ـ فعبد كوكبا في مرحلة ما، ثم عبد القمر، ثم عبد الشمس، ثم وصل بعد ذلك لحقيقة الإله الواحد، أي أن إبراهيم مر بمراحل من الشك قبل أن يصل إلى الإيمان.
ومن الجدير بالذكر هنا أنه لو كان أحد المتشددين السلفيين يعيش وقت نبي الله إبراهيم، ورآه يعبد كوكبا وقمرا لربما أصدر عليه حكما بالكفر أو “ازدراء الأديان” ولربما ذبح خليل الرحمن ذبحا!
ملة ابن تيمية تدفن العقل وتقدم عليه النصوص النقلية، وتدعو لذبح المخالف لها
وكان العقل والمنطق ـ لا النقل والنص ـ هما أساسا ملة إبراهيم، فنراه يحاجّ قومه، وبعد ذلك يحاجّ الحاكم (النمرود) بالعقل والمنطق دون رفع سيف أو تهديد بسفك دماء.
وها هو بعض مما قاله القرآن في قصة إبراهيم وكيف كان يقيم حجته بالعقل لا بالذبح:
♦ سورة الأنبياء 62-65
“قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ”
♦ سورة البقرة 258
“أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”
ونرى في قصص إبراهيم في القرآن أن إبراهيم لم يسفك الدماء لإخضاع غيره لفكره كما فعل ويفعل اليوم السلفيون والأصوليون في عالمنا الإسلامي، بل على النقيض من ذلك تماما نراه يرد على من يريد الاعتداء عليه ورجمه بقوله المشهود “سلام عليك”: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) مريم 46 ـ 47
والتناقض هنا واضح بين ملتين:
ملة ابن تيمية التي تدفن العقل وتقدم عليه النصوص النقلية، وتدعو لذبح المخالف لها، وملة إبراهيم التي وصلت إلى معرفة الله تعالى بالعقل وأعلت قيم السلم والمسالمة وليس فقه العنف وسفك الدماء.
على المسلمين اليوم أن يقرروا إما أن يتبعوا ملة “ابن تيمية” أو أن يتبعوا ملة خليل الرحمن إبراهيم
وعلى النقيض من ملة السلفيين التي تجعل اتباع السلف هو أساس الدين، فإن ملة خليل الرحمن إبراهيم كانت ثورة على السلف، فلو كان إبراهيم عليه السلام اتبع “السلف” في عصره كما يريد السلفيون منا اليوم لبقي عابدا للأوثان!
فقد أصبح إبراهيم خليل الرحمن (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، وجعله الله للناس إماما (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ)، وجعل ملته وهي ملة العقل والتفكر أيقونة للبشر (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ)، حينما ثار على “السلف” في عصره ورفض اتباعهم.
أي أن إبراهيم أصبح إماما للناس (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ) لأنه لم يكن سلفيا!
وعلى المسلمين اليوم أن يقرروا إما أن يتبعوا ملة “ابن تيمية” فيقدموا النقل على العقل ويجعلوا العنف والجريمة وسفك الدماء البريئة وسيلتهم في نشر فكرهم، أو أن يتبعوا ملة خليل الرحمن إبراهيم كما أمر القرآن فيعلوا لغة العقل وأسس السلام في تعاملهم مع الآخرين.
وحينما ذكرت هنا ملة إبراهيم ـ وما أداراكم ما ملة إبراهيم ـ فهي الملة التي أمر الله سبحانه وتعال نبيه الكريم محمدا أن يتبعها فقال له بالحرف الواحد وبدون مواربة “ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ”.
فيا ترى أي الملتين سيختارون!
شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.