أيها السوريون لا تعبدوا الطرقات بأجساد بعضكم البعض كي يمرّ ملككم المفدى من برجه العاجي

sultnفي الفلولكلور الصيني هناك قصة تقول: أراد ملك أن يتجول في البلدة ليتفقد رعيته، فوجد أن كل الطرق وعرة وصخريّة ومن المستحيل أن يقوم بالمهمة، فلقد أدمت الصخور قدميه، ولم يعد بامكانه أن يتابع المشي.
أوعز إلى مساعديه أن يجتمعوا، وأبلغهم بأن عليهم أن يجدوا له حلا لطرقات البلدة…
بعد اجتماع مغلق دام أياما، تقدّم أحدهم باقتراح: أن يذبحوا كل البقر الموجود في البلدة ويمدوا جلودهم على الطرقات كي يتمكن الملك من المشي عليها..
لكن الملك وجد في الإقتراح أمرا مستحيلا…
رفع أحد مساعديه يده، وقال: أقترح ياجلالة الملك أن نذبح بقرة واحدة ونلف بجلدها قدميّ جلالتك؟
ومن يومها والناس تلبس الأحذية، ومن يومها والقاعدة العامة في الصين تقول: حل أي مشكلة عامة تبدأ بإصلاح الفرد!
….
لم أكن اُدرك أهمية تلك الحقيقة حتى عشت أبعاد الحرب السورية…
واجهتني تفاصيل تلك الحرب بحقيقة مرعبة ألا وهي أن الإنسان في وطني قد فقد جوهره الكوني وفقد معه آدميته!
قد يزعم أحد أنني لم أعش تلك الحرب كي أعرف تفاصيلها…
لكن الأمر المرعب أنني عشتها أكثر من أي سوري سقط داخل معمعتها…عشتها بتفاصيلها لأنني أملك عينا أدقّ من أدقّ مجهر، وأملك أعصابا أشد حساسية من ميزان الزئبق!
رأيت في تلك الحرب مالم تستطع أحدث طائرات الإستطلاع أن تلتقطه، وشعرت بوهجهها كما لم يشعر شخص احترق بنارها…
رأيتها من خلال عيني الكونيّة وشعرت بها من خلال العصب الذي يربطني بكوني…
…..
أرعبني مارأيتُ كما لم يُرعب غيري، وآلمني ما أحسستُ به كما لم يتألم غيري…
لقد عايش كلُّ سوري الدمار الذي أحدثته تلك الحرب، أما أنا فعايشت السوريَّ على حقيقته!
لقد أحسَّ كلّ سوري بألم الموت، أما أنا فأحسست بألم الحياة…
هو تألم لأن غيره مات، وأنا تألمت لأنه لم يحيا…
صار السوري يُدرك سعر الرصاصة، أما أنا فتعلمت قيمة الحياة…
لم أقرأ كلمة منذ الشرارة الأولى لتلك الحرب إلا وحفرت في دماغي…
لم أسمع نبأا إلا وهزّني…
لم أر صورة إلا ومزقت قلبي…
……
أكثر ما أرعبني كيف كان السوري يتفاعل مع الحدث!
لا أقصد السوري الذي قابلته من خلال محطات التلفزيون ووكالات الأنباء والصحف المحلية والعالمية….
هؤلاء الممثلين لا يعنوني من قريب أو بعيد، فلقد حفظوا أدوارهم عن ظهر قلب حتى أجادوا تمثيلها باتقان!
بل أقصد العامة من السوريين مواليين ومعارضين!
هؤلاء العامة الذين راقبتهم من خلال تواصل شخصي عبر التلفون، الإيميل، الميديا الاجتماعية أو وجها لوجه…
أرعبوني حتى الموت…
لم أكن أصدق أن الإنسان يهبط بآدميته إلى تلك الدرجة…
ليس هذا وحسب، بل توصلت إلى قناعة من أن خسارته لآدميته هي التي أشعلت تلك الحرب، ولم يخسرها تحت وطأة الحرب!
كل واحد من هؤلاء العامة تظاهر بأنه يقدّس الحياة…
ولكن أية حياة؟
حياة الإنسان الذي يحارب ويقتل في صفه، أما حياة الذي يُقتل في الصف الآخر فبدت أقل أهمية من رصاصة!
أما أنا فلا فرق عندي (عندما يتعلق الأمر بقيمة الحياة) بين داعشي وبين طفل سوري!
الحياة حياة مهما اختلفنا مع صاحبها…
…..
من سخرية القدر، تناقل أتباع الطرفين المتناحرين صورا لقتلى ولجرحى من أطفال ونساء، وكل طرف تبناها وتباكى عليها واتهم الطرف الآخر بمسؤوليته!
كلُ طرف رأى في تلك الصور ضحية، فتبناها دون أن يُثبت أنها من ضحاياه…
نعم، الإنسان وفي لحظة نقاء يرى في القتيل، أي قتيل، ضحية…
لكن الأوساخ التي تحجب نقائه تمنعه من أن يعترف بأنها ضحية سواء كانت من ضحاياه أم من ضحايا الطرف الآخر…
لم يُقتل إنسان في تلك الحرب إلا واُطفِئت شمعةٌ في حياتي…
لم يهلل أحد لمقتل آخر إلا وذرفت دمعة…
كنت أبكي على الضحية بغض النظر إلى أي طرف تنتمي…
كل حياة قيمة، وكل قيمة تستحق أن ندافع عنها، وأن نبكي عندما نخسرها…
(الشيء الذي تملكه ولا يملكه أحد غيرك، هو شيء لا قيمة له)
لذلك، الحياة وباعتبارها قيمة يملكها كل منّا، هي أغلى القيم وأكثرها استحقاقا للصون…
….
لم يكن إيماني هذا مجرد حكمة اكتسبتها مع الزمن، لكنه كان ولم يزل جزءا لا يتجزأ من جوهري..
ذلك الجوهر الذي أحاول جاهدة أن أحميه من أوساخ الزمن…
في الصف الثامن، وفي سنوات المراهقة التي يعتبرها البعض جنونا، قرأت علينا مدرسة اللغة العربية بيتا للشاعر الفلسطيني محمود دوريش، يقول فيه: للطلقة في صدر فاشستي سأغني!
كشجرة سنديان انتصبتُ في قلب الصف، وبعزمٍ قلت: لن أغني للطلقة في صدر فاشستي حتى ولو كان قاتل أبي!
نعم، قد يجبرني موقف ما أن أطلق الرصاص على فاشستي، لكنني ـ حكما ـ لن أغني لموته…
بل ستموت الأغنية في عمقي…..
نعم، قد أقتل فاشستيّا، لكن من المستحيل أن أرقص في جنازته!
لن أرقص، لأن من مات جوهره لا يجيد الرقص، وسيموت جوهري لحظة قتله!
….
لا أتصور أن سوريّا واحدا تواصل مع الطرفين كما تواصلت…
لي أصدقاء من كل طرف، ولي أعداء في كل طرف….
تفاوضت مع الطرفين بنفس القناعات، وتبادلت مع كل طرف نفس الأفكار، وخرجت بنفس النتيجة…
خرجت بنتيجة أن (الملك) الذي يقود كل طرف يحتاج إلى جلد بقرة واحدة كي يغلف رجليه، فيمشي فوق الصخر بلا جروح..
أما ذبح كل البقر فمسألة فيها نظر!
أيها السوريون، يامن تعيشون في عمق وجداني، موالون ومعارضون:
لا تعبدوا الطرقات بأجساد بعضكم البعض، كي يمرّ ملككم المفدى من برجه العاجي إلى ساحاتكم…
بل اسألوه أن يلبس حذاءا، فالإصلاح يبدأ من قدميه!
*******************
مقطع من كتابي القادم “دليلك إلى حياة مقدسة”، أهديه للصديق
Husam alshamlan

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.