شهر أيلول الجاري يمثل مرحلة مفصلية في الوضع السياسي العراقي، ويشبه بمرحلة الخروج من عنق الزجاجة. فقد وصلت الأمور الى طريق مسدود وشارفت العملية المشوهة على نهايتها، والعراق مقبل على تغييرات كبيرة، فإما التقسيم أو إعادة العراق الموحد.
ففي هذا الشهر سيجري اقليم كردستان العراق استفتاءه في الخامس والعشرين من هذا الشهر، وفِي رأيي ان الدول الكبرى ستزيد من ضغطها لتأجيله، أو ان يكون غير ذي قيمة أو غير منتج لأي أثر قانوني في حالة إجراءه، في ظل إصرار كردي على إجراءه، فلم يبقى لدى مسعود البرزاني ما يخسره.
كما أن الانتخابات العراقية للمجالس المحلية والتي من المقرر لها أن تجرى في السادس عشر من الشهر الجاري، في ظل توقعات بعدم إجرائها أيضا، أو تأجيلها في أضعف الأحوال، لان الدول الكبرى وفِي مقدمتها الولايات المتحدة لن تقبل بإنتخابات تشرف عليها مفوضية غير مستقلة، وغير نزيهة، وخاضعة للأحزاب الموالية لإيران، لان إجراءها يعني ان المالكي عميل ايران رقم ١ في العراق سيعود الى السلطة وبقوة. وفِي كل الأحوال سيغادر العبادي موقع المسؤولية لغبائه السياسي وضعفه الاداري، فيبدو ان هذا الرجل لا يفقه حرف واحد من ابجدية السياسة، وبَدا منذ الْيَوْمَ الاول بأنه لا يعرف أول درس فيها، ألا وهو التخلص من الحاكم السابق وحاشيته، هكذا يقول مكيافيللي، وهذه ليس دعوة للقتل بل اول خطوة للاستقرار في أي بلد. فحزب البعث عندما إستولى على السلطة في العراق بتاريخ 17 تموز 1968، فإن أول خطوة إتخذها كانت ترحيل الرئيس السابق عبد الرحمن عارف بطائرة خاصة الى تركيا، لأن الحاكم السابق سيظل يتطلع الى كرسي السلطة ويسعى للعودة اليه بكل الوسائل. وكما قال هارون الرشيد لإبنه: “ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك فان الملك عقيم”. ولكن العبادي كان أضعف من ان يخطو هذه الخطوة، وأن يطبق اول درس في السياسة، وبقي خصمه المالكي يصول ويجول ويمارس تأثيره ونفوذه بدعم من إيران وعبر ميليشياته المسلحة، ومن خلال هيمنته على السلطة القضائية التي تبرر له إنتهاكاته وتمنحها الشرعية القانونية، إضافة لممثليه في الوزارات المختلفة وفي مقدمتها وزارتي الدفاع والداخلية، رغم إنه فقد هيبته وإحترامه لدى الشارع العراقي الذي لا يتردد في أن يقذفه بالأحذية والحجارة بمجرد أن يرى صورته أو حتى مجرد خياله.
لذا فالأيام القليلة القادمة ستشهد تصعيدا خطيرا في كل المجالات، وكانت إيران قد بدأت أولى خطوات التصعيد، وسبقت أميركا في خطواتها في العراق، ففي 14/1/2017 عينّت العميد “ايرج مسجدي” المستشار الأعلى لقائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، بمنصب سفير إيران في العاصمة العراقية بغداد. في الوقت الذي رأت فيه السعودية بأنه “مجرم حرب”.
وبدأت هذه الايام اول خطوة في مساعيها لتغيير المرجعية الدينية الشيعية، فأرسلت هاشمي شاهرودي رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، ومؤسس المجلس الأعلى وأول رئيس له عام ١٩٨٢، الى بغداد في 2/9/2017 تمهيداً لإنتزاع المرجعية، بعد وجدت إيران بان المرجع الأعلى السيد السيستاني يجنح الى التهدئة حقناً لدماء العراقيين ويمنع انجراف العراق نحو ولاية الفقيه الإيرانية. اضافة الى محاولة إيران لترميم الصدع الذي اصاب الأحزاب الموالية لها في العراق والتي أنشأتها قبل 35 عاماً، كالمجلس الأعلى، وحزب الدعوة، وحتى السنّة الموالين لها في الحزب الاسلامي وعلى رأسهم سليم الجبوري، حيث تسربت اليها روح التجزئة والإنقسام والتشرذم.
وهذا يذكرنا تماما بما قامت به ايران قبل قرن كامل، ففي سنة ١٩١٨ أرسلت الامام محمد حسن الشيرازي في ٢٣ شباط ١٩١٨ ليقيم في كربلاء لتغيير الإمام كاظم اليزدي الذي عرف عنه بان علاقته بالإنكليز كانت حسنة، والذي اشاع البعض عنه بانه (ليس سيداً، ولا يزدياً ، وإنما هو إنكليزي لَبْس العمامة السوداء للتنكر)، وأقام الشيرازي في كربلاء ليصبح هو المرجع الأعلى بعد وفاة اليزدي في ٣٠ نيسان ١٩١٩، الا ان البريطانيين آنذاك لم يمهلونه طويلا، فتوفي الشيرازي في ١٧ آب من عام ١٩٢٠ مسموما بعد ان أفتى بالجهاد ضد الاحتلال البريطاني وحرم شيعة العراق من المشاركة في الحكم آنذاك وَقّاد ثورة العشرين، ليتولاها بعده الامام فتح الله شيخ الشريعة الذي بدأ عهد التهدئة، وَقّاد النظام الملكي شيئاً فشيئاً الى تعيين السيد محمد الصدر عضواً في مجلس الأعيان ثم رئيسا للوزراء في ٢٩ كانون الثاني ١٩٤٨.
فما أشبه الْيَوْمَ بالبارحة، وتحديدا في ٣١ تشرين الاول ١٩١٨ إذا ما تذكّرنا احداث دير الزُّور بعد انسحاب الأتراك منها وطلب الأهالي ضمّها تحت الانتداب البريطاني. وكذلك احداث تلعفر التي بدأت في ٢٢ أيار ١٩٢٠، لإخراج الإنكليز الا ان الحملة سرعان ما أجهضت وعاد أهلها اليها. وهذا ما يحدث الْيَوْمَ بعد تفاوض النظام السوري وحزب الله على اخراج داعش منها ونقلهم الى البوكمال قرب الحدود العراقية. وما زالت تلك الأماكن نقاطاً ساخنة، وبؤر للصراع الإقليمي.
لقد بدأت إيران تستشعر قرب نهاية نفوذها في العراق، بعد أن إنكشفت اكاذيبها وخدعها في إنها حامية للمذهب الشيعي في العراق، فالمكون الشيعي مكون رئيسي أصيل في العراق، ولا حاجة لان يتدخل الأجنبي ليحميه من بلده ومواطنيه. ولقد أثبتت تجربة الحكم الشيعي في العراق منذ 2014 ولحد الأن، أن إيران قد مارست أبشع عمليات الانتقام والتدمير وسرقة ثروات العراق، بمعاونة عملاءها الذي أوتهم وإحتضنتهم لأكثر من عشرين عاماً. وأرسلت أبناء العراق ليقاتلوا نيابة عنها في سوريا ولبنان وغيرها. ولم تقدم للعراقيين الاّ كل ما هو سيء وأبسطها المخدرات. بما ولّد أحقاداً مضاعفة ضد حكومتها قد تنذر بحرب قادمة إذا ما قامت حكومة وطنية قوية، ستجد أن لا حل لمشاكلها سوى تكرار حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران بتغطية مالية من دول الخليج بعد إقتناعها بأن العراق فقط يمكنه صَد الرياح الفارسية من الشرق، وأن العراق هو بحق حارس البوابة الشرقية لكل دول الشرق الأوسط. وهذا ما دفع إيران الى إستحضار الحلول القديمة مثل حلف بغداد الذي تم إنشاؤه عام 1955 للوقوف بوجه المد الشيوعي في الشرق الأوسط، وكان يضُم كل من المملكة المتحدة من العراق وتركيا وإيران وباكستان، والذي يعد أحد أقل الأحلاف نجاحاً في فترة الحرب الباردة، اذ انسحب العراق من الحلف إبان إعلان ثورة 14 تموز/يوليو 1958. وقد تم حله مع اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. فقد أعلن أمين عام مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران محسن رضائي، الأحد 3/9/2017، عن تشكيل ما سمّاه بـ”المحور الجهادي” بين دول العراق وإيران وسوريا ولبنان، مشيرا إلى أن البلدان الثلاثة تتصدى للإرهاب وإذا برزت بعض المشاكل تحل ودياً… دون ايضاح طبيعة هذا المحور.
إن الصراع الدولي سيزداد في العراق خلال هذا الشهر، وستزاد تدخلات دول الجوار العراقي، فقد كثفّت إيران
وتركيا من لقاءاتهما، ليس على الصعيد الدبلوماسي فقط بل حتى على الصعيد العسكري، وفي أول زيارة لرئيس هيئة أركان في الجيش الإيراني لتركيا منذ الثورة الإيرانية في عام 1979، قال رئيس الأركان العامة في القوات المسلحة الإيرانية، اللواء محمد باقري أثناء زيارته لأنقرة في 16 من شهر آب المنصرم، إن لإيران وتركيا موقفا مشتركا معارضا للاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق المزمع اجراؤه الشهر المقبل. ومن المؤكد أن يتخذ البلدين خطوات أخرى أكثر تصعيداً قد تحرج حكومة العبادي الضعيفة والمتهاوية، والتي لم تستطع إحتواء تركيا لصالحها. بما ينذر بأيلول أسود في العراق.
لذا فأن انظار العراقيين باتت تتطلع الى الولايات المتحدة وإدارة ترامب لإتخاذ عدد من الخطوات الملموسة التي من شأنها أن تخلص العراق من نفوذ إيران المتزايد، وأن تسعى لتصحيح الأوضاع في العراق، لا سيما وإنها قد أجرت وتجري عدد من اللقاءات مع شخصيات عراقية وتستمع لمشاريع عراقية آخرها مع ممثلي حزب البعث العراقي، إلاّ إنها -على ما يبدو- لم تجد حتى الأن المشروع الوطني الطموح والذي يشخص كل العلل ويضع لها الحلول الناجعة، لا سيمّا وإن الكثير من الأزمات العراقية هي أزمات قديمة جداً وسابقة حتى على قيام دولة العراق الحديث عام 1921.
واليوم، فإن النصيحة الذهبية لإنقاذ العراق هو تشكيل حكومة مؤقتة لمدة سنة تتولى إدارة البلاد تؤلف من كافة اطياف الشعب العراقي مع إعطاء دور للسيد مقتدى الصدر لتعزيز الوحدة الوطنية على ان يرافق هذه الحكومة طاقم اداري كفوء من المستقلين العراقيين لمعاونة تلك الحكومة وتوجيهها الوجهة الصحيحة، والسعي لتقديم التطمينات اللازمة لإقليم كوردستان العراق، وان يسعى السيد مقتدى الصدر الذي أصبح مركز ثقل وطني مقبول حتى على صعيد دول المنطقة، الى توحيد القوى الوطنية العراقية المتفرقة، والى التقارب من المراجع العراقية العربية، لخلق مرجعية عراقية وطنية، وإلا فإن صراع دول الجوار وفِي مقدمتها إيران سيشتد بما ينذر بكارثة كبرى تشمل المنطقة بأسرها.
حفظ الله العراق والعراقيين
د. رياض السندي
كاليفورنيا في 5/9/2017