في الثاني من هذا الشهر … اي شهر مايس/مايو 2016… استضاف مقر البرلمان الاوروبي في بروكسل مؤتمرا لبحث قضية مرت عليها سنوات طويلة… قضية الكورد الفيليين
Faylee-Kurds…
و هي مجموعة من الكورد تعيش خارج اقليم كوردستان… اي ان حدودها الجغرافية و الديمغرافية تتداخل مع غالبية عربية و مع اقليات اخرى… و المشكلة التي انعقد المؤتمر للتحدث حولها …. هي ان هذه المجموعة البشرية قد تعرضت الى نوع من الإبادة الجماعية بكل تحمل مفهوم الإبادة الجماعية من عناصر و أسباب و نتائج….
في هذه المقالة و مجموعة مقالات لاحقة سأحاول ان أضع اطاراً لابعاد هذه القضية و الإشكاليات السياسية و الاخلاقية كونها تمثل نموذجاً تاريخياً حياً لنمط التطور الاجتماعي في مجتمعات هشة التكوين و تفتقر الى تواصل و استراتيجيات يمكن ان تخلق مشتركات مجتمعية …
من سخرية القدر ان الموعد الاول لاستضافة البرلمان الاوروبي لهذا المؤتمر كان يوم 23 من الشهر الماضي و في يوم السابق للمؤتمر اي يوم 22 ابريل حدثت اعمال ارهابية في مطار بروكسل و محطات المترو القريبة من مقر الاتحاد الاوروبي…. هذه الكارثة الانسانية بكل ما حملتها من اوجاع و الام و خسائر في الأرواح … و كأنها جاءت كمحاولة يائسة اخيرة ضمن المساعي الكثيرة لدفع قضية الكورد الفيليين في طَي النسيان…لكنها طرحت ايضا تساؤلا أخلاقياً حول ذات العقلية و الثقافة التي تقتل هنا و هناك … كما شكلت مؤشرا حول القاسم بين الضحايا و طبيعة الأهداف من حيث كونها تمثل أنماطا من المجتمع المدني و المنتج الذي يمثل العمود الفقري للتواصل و الديمومة… قضية الكورد الفيليين… كما أوضحنا في مقالات سابقة….تتعلق بواحدة من المجموعات البشرية التي كانت تمثل واحدة من اهم حلقات التواصل الاجتماعي و الاقتصادي…. و ان ازالتها… خلقت فراغاً … و ان هذا الفراغ تمدد مع فراغات كثيرة لتشكل الحدود الدموية في تاريخ العراق الحديث….
هل ادراك هذه الحقيقة هو الذي أسس لفكرة استضافة البرلمان الاوروبي لهذا المؤتمر… ام ان هناك مصالح تتجاوز الرؤية الانسانية عن اهوال العراق و سوريا و غيرهها…؟؟.. ربما هذا يكون هذا و ذاك و أشياء كثيرة اخرى… لكن دعنا نستدرك فرضيتين مهمتين… الاولى هي ان لا شيء في هذا العالم المادي يمكن ان يكون معزولاً عن المصالح و الرؤى الذاتية…. و ثانيا… ان مساحة التفاعل السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي يمكن ان تغير كثيرا من الأهداف المحددة و الاستراتيجيات الموضوعة سلفاً مهما كانت هذه الاستراتيجيات تبدو منسجمة و متناسقة…. و هذا هو سر مفهوم التطور…
و لكن لنبدأ بنقطة مهمة: هل كانت قضية الكورد الفيليين قد تقادمت فعلا و أحياها الاوربيون لمصلحتهم..؟؟ الإجابة على السؤال يدل تفاعل حيوي من جهات كثيرة اذكر منها:… (1)… ان هناك آلاف العائلات ما زالت مشردة و لا تملك اوراقاً ثبوتية بعد ان اسقط النظام السابق الجنسية عنها… و لهذا السبب فان ابناء الكورد الفيليين و خاصة الأجيال التي ولدت في المهجر لا تعرف شيئا عن هويتها…(2)… هناك توظيف سياسي مستمر من قبل الأحزاب السياسية العراقية لكن هذه الأحزاب لم تقدم اي مشروع لإعادة الحقوق و الهوية العراقية الى هؤلاء…(3)…هناك قضايا مرفوعة امام المحاكم و يتم تداولها بشكل يومي لكن الحسم فيها يبدو عسيراً بسبب الافتقار الى قوانين واضحة بهذا و هذا يعود مرة الى عدم وجود مشروع وطني واضح…(4)… ما يزال مصير آلاف الشباب الذين تم احتجازهم وقت التهجير القسري مبهما و الدولة العراقية عاجزة عن تقديم إيضاحات و لذلك فان القضية تتسم بتفاعل انساني شديد و آلام نفسية لدى الكثيرين…(5)…. ما تزال المناطق الجغرافية التاريخية للكورد الفيليين مهملة من قبل الدولة و عمليات التعريب مستمرة مما يؤدي الى نزوح دائم و احيانا الى صراعات دموية …
في المقالات القادمة سنوسع في توضيح هذه النقاط و التحدث عن نقاط اخرى…. لكن الان كان يجب ذكر هذه النقاط المهمة لتوضيح حقيقة ان القضية لم تمت و ان كان هناك من يريدها ان تموت… و لعل تفاعل البرلمان الاوروبي يدخل في هذا الإطار … و ربما يدخل هذا العامل الإنساني ضمن الإسترتيجية الدولية لإعادة بناء الشرق الأوسط … و عليه فقط انا شخصيا في كلمتي امام المؤتمر ان الهدف بالنسبة لنا ليس انتقاماً و لا سعياً وراء اعادة تقسيم العراق و إنما خلق ارضية للتعايش السلمي و قد دعيت الاتحاد الاوروبي لوضع امكانياتها في مشروع تنمية الشرق الأوسط لخلق الاستقرار و ديمومة الحياة…(يمكن مراجعة كلمتي باللغة الانكليزية)…
فكرة التعايش السلمي ليست فكرة جديدة… لا على المستوى العالمي… و لا في المستوى الشرق الاوسطي… و اعتقد ان دساتير الدول الحديثة في عصر ما بعد الامبراطورية العثمانية و الاستعمار الغربي المباشر تحوي كلها شكلا ما من مفهوم التعايش السلمي… كما ان أحزابا ليبرالية و اشتراكية و غيرها ممن تأثروا بشكل او باخر بالتجارب الغربية و الأفكار الماركسية و غيرها وضعت هذا المفهوم في رأس شعاراتها السياسية و الأيديولوجية … لكن المشكلة كانت تكمن دوماً في البون الشاسع بين الأفكار من حيث كونها احلاماً و مثلاً عليا… و الواقع الثقافي الاجتماعي… هذا البون الشاسع جعلت هذه الشعارات في وضع حرج حيث اصبحت تمثل نوعاً من النفاق الإرادي … او اللا إرادي… اكثر مما يعبر عن رؤية سياسية قابلة للتطبيق من حيث تناقضها مع البنية الثقافية الاجتماعية قبل ان تتناقض مع الطموحات السياسية و البراجماتية و شهوة السلطة التي تعمي القلوب و البصائر و البصيرة… كما يقال هكذا…
و للأسف فان هذه التناقضات و عدم الانسجام التاريخي و الاجتماعي في البنية الثقافية للنخب الحاكمة و المعارضة و الأحزاب المختلفة هي التي تحكمت في طبيعة تفاعلها في العلاقة من المجموعات الاجتماعية و الاثنية و السياسية التي لا تتقاسمها ذات الاسس …. كل هذه العوامل…. وضعت معوقات فكرية و كذلك كبلت أيدي هذه النخب و الأحزاب ازاء القيام بأي رد فعل إيجابي رغم إدراكها بان الكثير من الإجراءات الحكومية تتجاوز ابسط الاسس الاساسية للتعايش … اي الاسس التي تتعلق بمعنى الوجود الإنساني قبل ان نتحدث عن الهوية الثقافية و السياسية او القدرة الاقتصادية…
في الرؤية العامة للأفكار الكونية
Universalism
مثل الديانات الكبرى مثل الزردشتية و البوذية و المسيحية و الاسلام و غيرهاو كذلك للفلسفات العابرة للاثنية و القومية مثل الليبرالية و الماركسية… فان اي تقسيم اجتماعي بين الأكثرية و الأقلية لا يتمتع باي أهمية باعتبار ذلك … مهما كان الأساس التأويلي الذي يستند اليه… يعتبر نوعاً من التمييز بين البشر… لكن هذه الرؤية الانسانية المثالية … رغم أهميتها القيمية … الا انها قد تتجاوز الواقع التاريخي للتطور الاجتماعي … و في لحظة ما يتم اعتبارها تجاوزاً… اعتداء … على حق الاختلاف بين المجموعات الاجتماعية بناء على طبيعة هيمنة أفكار هذه المجموعة مقارنة مع أفكار و تجارب المجموعات الاخرى… خاصة اذا كان هناك اختلاف في طبيعة المصدر التاريخي لتلك الأفكار و حجم المجموعة التي نبعت منها تلك الأفكار…
المشكلة في الدولة الحديثة… انها من حيث انها تماثل التجربة الأوروبية … تسمى الدولة القومية… او الوطنية عند العرب… اي انها تعتمد على أساس قومي (اثني او ثقافي ) و هو الأساس الذي اعتمده الأوروبيون لبناء نوع من التوازن و بالتالي السلم و التعاون بديلاً للحروب التي هيمنت على عصور عديدة في التاريخ الاوروبي…
بهذا المعنى فان الأساس القومي يتناقض من حيث المبدأ مع جوهر الرؤية الكونية و بالتالي يشكل تحدياً فكرياً و تطبيقياً مع إمكانيات النخب السياسية رغم الاختلاف في الرؤى و القيم العليا… و هذا يعني ان مشروع الدولة الحديثة اصبح في ميكانيزماته التفاعلية مشروعاً قومياً… سواء بشكله الواسع ليشمل الأقطار العربية كلها… او بشكله الوطني او القطري ( كما تستخدمه الادبيات القومية فتسميها القطر العراقي او القطر المصري او السوري… الخ)…. و هذا معناه ان هذا المشروع يمثل في كل الأحوال الرؤية العربية العامة… او قد يتشظى الى قبائل و عشائر و طوائف… و بالتالي فان هذا الأساس سيمثل تجاوزاً لطبيعة التطور الاجتماعي للمجموعات الاثنية و الاثقافية و الدينية الاخرى…
و هذه الحقيقة تربطنا بالاشكالية الثانية … و هي الاشكالية المتعلقة بطبيعة المشروع الكوني نفسه … لان المشروع الكوني مهما قيمه العليا يمثل أيضاً مشروعاً تقسيمياً لمجتمع الدولة الحديثة…. لان هذا المجتمع يتكون من مجموعات اجتماعية ذات تاريخ مختلف في تطورها الاجتماعي… بينما المشروع الكوني و الذي يعتمد قد يمثل الاسلام من حيث الأساس الديني او يمثل الليبرالية او الماركسية مت حيث الفلسفات الحديثة…. و في كلا الحالتين … فان طبيعة المشروع الكوني… يخلق ايضا تشظيات اجتماعية رغم ان المنطلق هو بناء مجتمع متجانس..
هذه التناقضات بمجملها خلقت مساحة واسعة اما الدولة و نخبها الحاكمة لارتكاب الكثير من التجاوزات و حتى الجرائم بحق ” الغرباء” و المختلفين عن المشروع القومي/ الكوني… و الكورد بصورة عامة و الكورد الفيليين و كثير من الأقليات عانت من هذه التجاوزات دون ان تجد أساساً قانونيا او اجتماعياً أخلاقياً للدفاع عن نفسها…. لماذا و كيف…؟؟؟!!..
في المقال القادم سأحاول ان أناقش هذه الاشكالية … حبي للجميع..