اصبحتُ مفصوما رسميا ومنقلبا على نفسي, متمردٌ وخائف ومطيع وجبان وجريئ ومتكاسل..ففي جواري كنيسة أذهب إليها في أغلب الأحيان ودموعي على خدي والحزن يملئ لي قلبي وعندي أحيانا رغبة بارتكاب جريمة يعاقب عليها القانون والضمير وأخرج منها والفرح يكادُ أن يطير من عيوني والابتسامة تملئ وجهي وقلبي مفعم بالمحبة وتكون عندي رغبة صادقة بمعانقة وبمصافحة كل إنسان أصادفه في طريقي سواء أكنت أعرفه أم لم أعرفه وذلك بعد أن يتحلل قلبي وجسدي في ترانيم الكنيسة وأذوب في خمرة الرب وكسر الخبز مثلما تذوب الشمعة في الصحن وقطعة الثلج في فمي, أدخلُ إلى الكنيسة أحيانا وأخرجُ من الكنيسة أحيانا وأنا منقسمٌ بين عالمين مختلفين, عالمٌ يغمره الحب وعالمٌ آخر يغمره الجنون, عالمٌ آخر لديه الرغبة بالإجرام وبالقتل وعالم آخر لديه الرغبة بالعفو وبالصفح وبالتسامح, وفورا أصابُ بحالة من الفصام السخيف وأمشي في الشارع وأنا أحكي مع نفسي وأفكرُ في هذين العالمين رغم أنهما يعيشان معا في نفس المدينة وفي ذات الشارع ولكن تختلف التربية بينهما وأساليب التخابر والتعامل مع الله, اشعرُ أن أحدهما جاسوسا يتجسس على عالم الله وعميل للكراهية وآخر من حزب الموالين إلى الله وكله بأسم الدين.
حظي العاثر أجبرني على أن أعيش في عالمين مختلفين كليا والحمدُ لله أنني لم أتهور بعد ولم أفقد أعصابي كليا ولم أدخل مشفى للأمراض العصبية, صحيح أنني أحيانا أتعاطى الحبوب المنومة أو المهدئة لكي لا اصاب بالصرع الأكبر أو بشحنات زائدة من الكراهية, ولكن كل الفضل لترانيم الكنيسة التي تعطيني شحنات من المحبة زائدة استطيع من خالاها التغلب على الشحنات الكهربائية التي تحث على الكراهية, حينما ادخل إلى الكنيسة واعيش ساعة أو ساعتين فيها ومن ثم أخرج منها اشعرُ أنني بين مجتمعين وهما مجتمع قابيل ومجتمع هابيل, واحدا منهما شريرا والآخر طيبا تماما مثل فيلم (الطيب والبشع والشرير) والذي هو في الأصل من مسرحيات أو من أفكار شكسبير, حين أكون في الكنيسة اشعرُ أنني مع الأخ الطيب الذي تقبل منه الله عطاياه وحين أخرج من الكنيسة وأعود إلى بيئتي المحلية اشعرُ أنني أعيش فعلا وبحق مع الأخ الشرير الذي قتل أخاه وما زال في كل يوم يرتكب نفس الجريمة ولنفس السبب, حين أدخل الكنيسة اشعرُ أنني في خمارة أو أنني اتعاطى الحشيشة أو المخدرات لأنني أتنفس حياة أخرى مختلفة عن بيتي المحلية وأنني أعيش في عالم الوهم والخيال في عالم ليس من الضروري أن يكون حقيقيا ولكنه على الأقل موجود, اشعرُ أنني في عالم لا يحكمه الواقع أو أنني أغط في حلمٍ وسُبتٍ عميق.
أنا أسيرُ وسجينٌ بين عالمين مختلفين ومجتمعين مختلفين أو بين الإخوة الأعداء والإخوة الأصدقاء أو (الإخوة كرامازوف), هنا داخل الكنيسة أتعاطى المحبة والصداقة والشعور بمشاعر الخوة مع الأصدقاء وهنالك أتعاطى مع عالم الكراهية والاجرام والاغتصاب, عالمٌ تملأه القُدسية وعالمٌ تسكنه الشياطين, عالم فوق وعالم تحت, عالم يسكن في الدور الأول وعالم يسكن في أعلى ناطحة السحاب, أنا مغمور بالمحبة وتلاحقني الكراهية للآخرين, أنا في عالم يحب ويعشق وعالم يجردك من إنسانيتك ويرسل بك نحو الأنانية, عالم من المفترض أن يسيطر إحداهما على الآخر, فإما أن لا أكون عميلا مزدوجا مرة للكنيسة ومرة للشيطان, يجب أن أنحاز في النهاية للعالم أو للأخ الطيب أو للأخ الشرير الذي قتل أخيه من اجل امرأة أو من أجل الحبوب (البقوليات) أو من أجل مزرعة الحيوانات, عالم زراعي مسامح ومتسامح ويحب الاستقرار وعالم آخر بدوي يحب الغزو والنهب والسرقات, عالم يقف على الإشارات الضوئية وعالم آخر لم يعرف بعد ما هي الإشارات الضوئية, عالم فيه مدارس ومناهج تربوية أخلاقية وعالم فيه مجاميع وكتاتيب قديمة قائمة على العلوم المنسية, عالم من القرون الوسطى وعالم من العصور الحديثة, أناس تسكن في القبور وأناس تعيش بين الأحياء, عالم مخزي بكل تفاصيله وعالم لا يجرؤ على البوح بالمحبة تماما مثل الرجل العاشق لفتاة جميلة لا يجرؤ على أن يقول لها كلمة حب أمام أبيها وأخيها وعالم آخر كله عشاق يتغزلون بمعشوقاتهم على مسمع من الأب والابن والأخ وابن العم والخال, عالمٌ عاقل وآخر مجنون, وأنا ساعات أمارس العقل وساعات أو وأيام أمارس فيها الجنون, أحيانا في هذين العالمين تأتيني الفكرة فأجهشُ بالبكاء وأحيانا حين أدخل الكنيسة تأتيني السكرة فاضحك بالصوت العالي, عالم يقول فيه عني الناس كافر ومرتد ومنهم من يرميني بالجنون وعالمٌ آخر يحبني لأنه الله محبة وينعتني بالصدق وبالأمانة وبالإخلاص للرب, أنا في عالمين مختلفين.