إن سألتم هنا في بلادي عن أقوى رجل فكل الناس والهيئات والمنظمات سيشيرون لكم بأصابعهم عليّ أنا,كوني أعيش في بلد نتن ووطن مقرف وفي وسط أناس متخلفون فكريا وما زلت رغم كل هذا أتمتع بصحة جيدة,حقيقة هذا معناه أنني أقوى رجل في الأردن كله من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه,ولو تفحصتم مواقع الخلل في بلادي الأردن ستجدون أنني ما زلتُ أحتفظ بنظامي, فكل يوم مقالة جديدة وعمل مضني من أول النهار إلى آخره وما زلت رغم كل هذا الصخب أتمتع بذهن صافي وعقل متوقد ومشتعل.
اليوم أجمل من كل الأيام, رغم أنني منذ شهرين لم أدفع أي فاتورة من فواتير الماء والنت والكهرباء, ولكن شعوري اليوم يقول بأنني أفضل إنسان موجود على وجه الأرض ومن الممكن أن أجد لي شبيها يشبهني أو صديقا يقلدني في طريقة حياتي,ولكن لن تجدوا نسخة أصلية مني فرغم كل أنواع الطفر والقرف في الدول العربية إلا أنني ما زلت أتمتع بصحة جيدة ولم يأخذنِ أحدٌ لا إلى السجن ولا إلى المستشفى وهذه بحد ذاتها معجزة كبيرة, فكيف برجلٍ مثلي ما زال على قيد الحياة رغم كل ما يعانيه, أنا أسعد إنسان وأقوى رجل على وجه الكرة الأرضية, رجلٌ بطول 174 سنتمتر ووزنه 100 كيلو غرام,هذا دليلٌ على أنني أتمتعُ بصحة جيدة في بلد ينتشر فيه الفساد انتشار النار في الهشيم وفي بلد محطم من كل الجوانب ومديون حتى لأفقر الدول في العالم,فالذي يعاني ما أعانيه من فقر وطفرٍ وآلام يجب أن يكون وزنه أقل من 60 كيلو غرام,ورغم الخوف المعشش بداخلي يجب أن يكون طولي أقل من متر ونصف المتر, يجب أن أصاب بالجفاف وبالإسهال الحاد ولكنني رغم هذا قوي ومتين ومعدتي على رُمح وسن وعلى سنقت عشره ,أنظروا حولي, جسم متين ووزن كبير رغم كل ما أعانيه من جوعٍ ومن ألم, فرجلٌ يعيش حياةً مثل حياتي يجب عليه على الأقل أن يكون في عداد المفقودين أو الموتى أو أن يكون سجينا أو مريضا في إحدى المصحات العقلية.
هذا اليوم أجمل يوم رأيته في حياتي,وطبعا لا أعرف السبب, ربما أنني أدمنت على الجوع وعلى الخوف وعلى القلق,وعلى الفقر وعلى الديون, وربما أيضا أنني اعتدت على هذه المآسي وأصبحت جزء من حياتي , فالذي يقرئ مثلي ويعرف الحقائق يجب أن يمشي في الشارع حافي القدمين ويتكلم مع نفسه والأطفال يركضون معه وحوله وخلفه وبيدهم الحجارة يرشقونها عليه والبعض الآخر بيده دف يدقون له عليه وهو يرقص حافي القدمين بثياب متشققة,أنا أعرفُ رجلا يملك نصف ما أملكه من المعرفة ومع ذلك جُن جُنونه منذ عدة أعوام وهو الآن يجلس في السوق على حافة الطريق يشد بشعر رأسه ويأكل ملابسه وكل ما يلاقيه من الأوراق الخفيفة والمُقوَى منها, فرغم كل معارفي ومعرفتي ما زال برأسي الكثير من التعقل وأظنُ بأنني رجلٌ محسود ويحسد على حياته,الجنون حولي في كل مكان وتصرفاتي ما زالت تصرفات طبيعية,هذا غريب حقا كوني ما زلتُ رجلا طبيعيا,لم يتأثر بما يجري حوله وبما يتعرض له من مضايقات وخصوصا في العمل ولقمة الخبز.
هذا معناه أنني أقوى رجل في الأردن..وأشعرُ بأن كل الناس إخواني وأحبابي وأصدقائي,رغم أنهم يؤذونني جدا في كل شيء, أنا سعيدٌ جدا في حياتي بدون أي سبب, كان هذا اليوم جميلا جدا رغم أنني لم ألاقِ أي شيء إلا بعض الدائنين الذين يقفون لي كل يوم على باب البيت,ولم يكن لدي شعورٌ مطلقا بالإهمال, فأنا أشعرُ بأن أصدقائي كلهم مهتمون بصحتي ومهتمون بعائلتي,وهذا ضربٌ من الخيال, فمنذ يوم مولدي لم يسأل أحدٌ عني,هل أنا جائع أم بردان أم عطشان,لا أحد يكترث بي ولا أحد يسأل عني هل مثلا ما زلتُ على قيد الحياة أم لا…ورغم كل ذلك اليوم عندي شعورٌ أن كل الناس مهتمون بي,وكنتُ مبسوطا وفرحا جدا, وأشعرُ بأن روحي تفرفر وتطير مع الغبار الطائر وتلتحمُ مع أشعة الشمس بالأماكن العالية والمنخفضة عن سطح البحر,وشعرت طوال النهار بأجمل الأغاني والألحان وأنا أصدحُ فيها بقلبي وبمخيلتي, إنه ليومٌ جميلٌ فيه تركتُ كل ما هو متعب وأسلمت روحي وقلبي وكياني كله .
كان هذا اليوم بالنسبة لي جميلا جدا ورأيتُ السماء زرقاء صافية والأرض مخضرة بأعشابها, وفرشت جسدي تحت شجرة الزيتون خلف الدار وأخذتُ حماما شمسيا,وعرّضتُ رأسي ووجهي لأشعة الشمس حتى احمر وجهي, وبقيتُ ناشرا جسدي تحت أشعة الشمس حتى تصدعَ رأسي,لقد كدتُ أن أصابَ بضربة شمس, كنت فرحا جدا وأمشي باختيالٍ عجيب, شيء ما هذا اليوم لمس شغاف قلبي وسكن في أعماقي وحفر في وجداني وودعتُ كل الأيام الصعبة التي عشتها طوال حياتي,فعلا أنا رجلٌ حديدي ومصنوع قلبي من الفولاذ المحسن والمقوى, ولم أكن في هذا اليوم إلا رجلا طائرا في الهواء ومخيلتي منطلقة انطلاقا عجيبا وتخيلت أمامي كل الفلاسفة من سقراط وحتى هيغل, غنيت وأمسكتُ بمنديلي ورفعته عاليا جدا ولوّحتُ به وأنا أرقص وأدبك على الأرض بدون أي سبب يذكر, واليوم استعملت المنديل للفرح بعد أن كنت كثيرا ما أستعمله لأمسح مياه العين وحبات المطر التي اعتادت دوما أن تتساقطُ من حبات عيوني على خدودي المتوهجة دوما من أشعة الشمس, اليوم بالنسبة لي هو أفضل يوم في حياتي حيث نهضتُ مبكرا جدا وقفتُ أمام المرآة لأغسل وجهي وأحلق ذقني بعد أن مضى عليه أسبوعان دون أن أجر عليه ماكينة الحلاقة,وأخذت حماما دافئا منذ ساعات الصباح وصنعتُ قهوتي المفضلة بنفسي كما أحبها واشتهيها بدون سُكر, ومن ثم دخلتُ في فراشي وأشعلت سيجارة من أرخص أنواع التبغ,وأكلت حبتين من الطماطم من أردى أنواع الطماطم وأنا مبسوط جدا بحياتي, وارتديتُ حذائي وخرجت للسوق قبل الظهيرة واشتريت الخبز واشتريت كتابا قديما ومجلة قديمة وقرأتُ فيهن بعض الأخبار المضحكة والمسلية وأنا مبسوط جدا بحالي وبحذائي الوحيد الذي لا أملك غيره, ذاك الحذاء الذي مضى عليه في بيتي أكثر من سنةٍ ونصف السنة وهو دائما جاهز عندي لكل المناسبات حتى أنني آخذه معي إلى ورشات العمل التي أعملُ فيها, حياتي اليوم ويومي اليوم يوما جميلا لم أرَ مثله في حياتي.
تجمع أولادي من حولي ومددتُ يدي إلى جيبي ليأخذوا مني المصروف اليومي فلم أجد في جيبي إلا نصف دينار, هذا النصف دينار لستُ أدري لمن أعطيه, هل أعطيه للأولاد؟رغم أنه لا يكفيهم أم أعطيه للمخبز ثمنا للخبز أو ثمنَ العافية والصحة, على كل حال رغم كل الظروف كنت سعيدا جدا بهذا اليوم الذي أحسد عليه, فأنا في أتم الصحة والعافية وأشعرُ بأن جسمي هو أقوى جسم موجود في بلدتنا, والدليل على ذلك هو أنني ما زلت بصحة جيدة ٍ جدا رغم أن طعامي من أردى أنواع الطعام والهواء الذي أتنفسه من أردى أنواع الهواء وبما أنني ما زلت في صحةٍ جيدة ٍ فهذا معناه شيء واحد وهو أن جسمي وصحتي النفسية والبدنية ما زالت على أكمل وجه وهذه معجزة جدا تضاف إلى معجزاتي الكثيرة…أنا أقوى رجل أردني ما زال على قيد الحياة رغم كل المكائد التي نصبوها لي, لم يستطع أعتا رجل أمن أن يوقع بي لأنني أعرف أين من الممكن أن يصطادونني لذلك تجنبت مواقع الشبهة وأخاف من النساء في بلدي التعبان ولا أقترب منهن لا من قريب ولا من بعيد, رجل بكل المقاييس عرف الدنيا وعرف الناس,لبس الصوف الخشن وجيرانه يلبسون الحرير ويأكل أرخص أنواع البندورة والبطاطة وكل أنواع الخضار والغريب أنني رجلٌ ما زلت قويا وعنيدا,رجلٌ سعيد في بلد تعيس,رجلٌ بكل المقاييس,يكال له بدل الصاع صاعين ويضيق عليه الخناق ومع ذلك ما زالَ يتنفس,أنا أقوى من كل لاجئي العالم,لأنني في وطني وأرضي وبيتي عبارة عن لاجئ سياسي,مضطهدٌ سياسيا وفكريا,وتمارس بحقه أشنع أنواع الملاحقات الأمنية وما زالَ يعطي لنفسه الأمان في زمنٍ قلَّ فيه الأمان حتى على أعضاءه البشرية,فهنا يسرقون قلبك أو كليتك وهذا لا يقل سفاهة عن سرقت رزقك وعرق جبينك,رجل قوي في بلد ضعيف إلا بالتسلط على الناس.