بقلم:نعيم عبد مهلهل*
من طرائف محنة العراقيين أيام الحصار نكات كثيرة ، ومنها ما ظل يواجه الريفيين من أصحاب مزارع الشلب عند أستلامهم مبالغ محاصيلهم المباعة للدولة لأضافة رزهم لبطاقة التموين .وكان الشراء مجزياً وصار الثراء فاحشاً مما يضطر المزارع للذهاب فوراً الى معارض السيارات في النهضة او البياع لشراء سيارة سوبر ( تيوتا سيدان ) وليس غيرها . ومن فكاهات هذا الترف الذي هو في الحقيقة صورة لفجيعة ما كان يحدث في الفارق الأجتماعي عندما يستلم مسوق الشلب صكا بثلاثين مليون دينار لمحصوله فيما راتب الموظف العراقي هو 3000 دينار .لهذا افرزت تلك المفارقة نوادرها حالها حال اي نوارد لعصور المحنة والظلم التي عرفها العراقيون جيدا في محنة الاسطورة جحا مع الطاغية المغولي تيمورلنك وهو من احفاد السنيور هولاكو محتل بغداد وحارق كل تراثها .وله الفضل بتحويل ماء دجلة الى ازرق غامق بفضل تمازج لوني حبر كتب مكتباتها التي كتبها الجاحظ برعشة يديه وشيخوخته ودماء ضحايا مجزرة المحتل بآهاليها مع ماء النهر .
ومن بين نوادر هذه المحنة . أن واحدا من مستلمي تلك الصكوك ذهب الى بار في بغداد قبل غلق كل نواديها وباراتها بفضل ( الحملة الأيمانية ) التي تم الدعوة اليها في صحوة الدين .فاغلقت آخر مظاهر التيه الروحاني والعلماني ( الكافر ) عندما كان الماء الأصفر والابيض يدور بكؤوس الحلم والنقاش والأمال ونسيان تعب النهار في بار شريف وحداد والامباسي والحورية الزرقاء ونادي الادباء والصحفيين والتشكيليين الواقع في منطقة المنصور واقبية لاتحصى للشجن الحلو ..
ذهب هذا المتكرش من تعب السقي والشتال ومراجعة السايلو والزراعة ووزارة التجارة .ذهب ليجرب حلم شراب الماء الاصفر فقد اتعبه النوم في سواقي العنبر ومدارات الفسائل والمراجعات ليشرب كأسا من الجعة ( البيرة ) ..
تقدم اليه النادل ليسأله :ماذا يريد الأخ : فريدة ، لؤلؤة ، شهرزاد ، سنابل ) ..
فرد عليه السيد شلب : دع الراقصات والبنات بعدين ، وجيبلي الآن بطلين بيرة !!!
انتهت النكتة .وتفسريها ان النادل كان يقصد ان فريدة وسنابل ولؤلؤة وشهرزاد هي اسماء اصناف البيرة .والسيد شلب كان يظنهن نساء للهو والرقص ( والونسة …! ) …!
مرت مفردة فريدة الآن اليَّ على هامش حديث يومي اتداوله مع السيدة والمبدعة العراقية أميلي بورتر التي تشرفت لأكون لها الأخ والصديق والمحاور وأن اكتب مقدمة كتابها مذكرات اميرة بابلية والذي صدر بنسختيه العربية والانكليزية عن دار فضاءات في عمان ويصدر هذه الأيام بنسخته الأيطالية وكنا نتكلم عن ملصق اعلان للجعة المجنونة ( فريدة ) فقط لأستذكار بساطة ومساحة الحرية في تلك الأزمة .وقالت ان هذا الأعلان ذكرها بأسم فريدة بطرس وهي جدتها الأحوازية التي تفتخر بأن ابن اختها زكريا بطرس هو أحد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي وشارك فهد في تأسيس خلاياه الأولى كما ذكر ذلك الكاتب الموسوعي حنا بطاطو في كتابه عن العراق بأجزاءه الثلاث.
وما تذكره السيدة بورتر عن المرحومة فريدة : كانت من اروع النساء حكمة ولها صوت جميل جدا وكانت تحفظ المقام العراقي وتجيده وتغني لي فقط ولم يسمعها احد غيري مطلقاً..
فريدة هذه كانت ايضا ساحرة لب وخيال مدير شركة بيرة الشرقية عندما اطلقها على منتوجه تيمناً بشوقه واعجابه بالملك فاروق ملك مصر .وكانت لديه ايام الاربعينيات هوس مجنون بمتابعة اخبار الاسرة الملكية الحاكمة وكان فاروق الأول قد تزوج من الاميرة صافيناز ذو الفقار واطلق عليها بعد ذلك أسم الأميرة فريدة .وحين نزل المنتوج بقنينته الغامقة وخلطته الجديدة كانت اخبار ولادات الاميرة وغراميات الملك تملأ الصحف .فأطلق المدير المفوض للشركة الشرقية على هذا المنتج اسم فريدة ..ليأخذ شكله الانثوي حتى في الأسم وبقية اسماء واصناف المنتوج اللاحقة ( شهرزاد ، لؤلؤة ، سنابل ) وربما شراب البيرة اكتسب في تأريخه ومخيلته وتأثيره هاجسه الأنثوي في التسمية بسبب أن هذا الشراب كان قريبا لذائقة وتعلق هاوي الغرام والعشق والكتابة . فيما التصق( العرق ) حتى بالاسم بالهاجس الذكوري لعلاقته بالشجن والتعب والفقر والعربدة ومحاولة نسيان ظلامية وتعاسة وفقر الواقع وكذلك التصق بفكاهية مشهد رومانسي اسمه ( سيارة النجدة ) على اساس ان الخمارة كانوا يستعجلون الشرب لأن في الأخر سيترنحون ويعربدون وتأتي سيارات شرطة النجدة لتأخذهم وتحجزهم حتى صحوتهم في الصباح ليكفلهم واحد معرفة ويطلق سراحهم.
زمن فريدة زمن جميل ..زمن كان الأيثار فيه واضحا .والزيف قليلاً .وكان المجتمع بعلمانيته وديانته يمارس حياته وفق المشرع والمستشرع .ومادام المشرع ضمن لك حق ان تعاقر فريدة وتشربها دون المساس بحرية ومعتقد الآخر فأن التحضر والمدنية كان شيوعا ومظهرا عاماً .ولهاذا كان موسى في دينة وعيسى في دينه .ولم يشهد المشهد الاجتماعي احتكاكاً عنيفاً بين عشاق فريدة او العشاق من النوع آلاخر ….
فريدة هي لحظة التي نقرأها في هذا الأعلان المرفق والتي تريك بساطة ما كان …وعقدة ما سيكون ..!
حتى تتخيل أن مصصم هذا الأعلان البدائي ، المتحضر برموزه ونكهته قد قصد أن يضع وجها يشبه وجه الراقصة الاسطورية ( سامية جمال ) التي الهبت مشاعر جيلا كاملا بأغراء ساقيها وبياضهما وهما يتمايلان كموج بحر شهي مع اغنيات فريد الاطرش التي ارتبطت معه بغرام سري ومعلن .وكانت سامية جمال كما حال نجوى فؤاد وتحية كاريوكا ونعيمة عاطف ، وسهير زكي ، وحتى فيفي عبده ، يمثلن جزءا مهماً من تراث الذاكرة الأجتماعية لحياة شعب وأمه ومرحلة والذي يقرا المقالة المهمة للمفكر الفلسطيني ادوار سعيد والموسومة ( تحية الى تحية كاريوكا ) يفهم القصد تماما …
بين وجه سامية جمال …التي رسمت ملامحها الأعلان وبين فريدة عصر شاهد ومارس وعاش كل جماليات الدمعة والغرام والابداع والايمان والاحلام ….
لكن فريدة التي تكاد أن تختفي اليوم ، تظل بعض هاجس مضى وكان الوضوح ابرز حقائقه فيما يلبس هذا الزمان اقنعة شتى ومنها حكاية في خاتمة هذا المقال :
في مربد عام 2005 كنا مدعوين في المهرجان .وكان مكان تواجد واستضافة الادباء في فندق المربد .وعندما جاء وفد ادباء وكتاب بغداد كان في حقائب البعض شيئاً من ذخيرة الروح الابداعية ( فريدة ولاكر ذهبي وسنابل ) وفي البوابة الرئيسية للفندق تم تفتيش الحقائب من قبل حراس الفندق …فتم مصادرة ( فريدة واخواتها ) بحجة انها كحول والكحول حرام ..وبين اخذ ورد كان النقاش العقائدي واصراره قد تغلب على منطق الثقافة وحرية الممارسة والمعتقد ومايكفله الدستور ..فعاد اصحاب البضائع المحرمة الى غرفهم بخفي حنين …
في الصباح ذهب احد الادباء لغرفة الحرس ليترجاهم بأعادة لو ربع البضاعة ..فأكتشف ان جميع البضاعة تم ( لطها ) بالعامية تم شربها كلها من قبل هؤلاء الحرس المؤمنين ……!